مشاريع قوانين

إشكاليات قانون الإجراءات الجنائية.. حقوق الإنسان “للخلف دُر“

 

لم يتخيل أكثر المتشائمين من المهتمين بالشأن العام أن يروا مثل هذا نتاج مشروع قانون له من الأهمية لا تُخفى على أحد بهذه الصورة المحبطة.

 فبعد سنوات طوال تحدثت فيها أجهزة الدولة عن مشروع كامل شامل لقانون الإجراءات الجنائية يتفق والالتزامات الحقوقية الدولية، ويراعي حقوق المواطنين، ويضمن تطبيقًا فاعلًا لمبادئ الحقوق والحريات في الدستور المصري، وبعد مرور البلاد بثروة أشاد بها العالم، سعيًا نحو تحرير الإنسان المصري، وبعد العديد من النقاشات التي دارت منذ عدة سنوات حول تطوير قانون الإجراءات الجنائية في العديد من المحافل، وكان أهمها ما عقده المجلس القومي لحقوق الإنسان منذ ما يزيد عن خمس سنوات.

بعد كل هذا، لم تزل مدد الحبس الاحتياطي أطول بكثير من المعدلات المطلوبة، ذلك على الرغم من التصريحات الرئاسية بتبني توصيات الحوار الوطني بخصوص الحبس الاحتياطي،إذ لم تزل مدده تصل إلى مستوى العقوبة المسبقة، هذا بخلاف ما استجد في هذا المشروع من سعي دؤوب لمصادرة الكفالات المقررة حال إخلاء السبيل، وذلك من خلال تقنين سبل عدم رد الكفالات تحت أسباب قد لا يكون لصاحب الكفالة يد فيها، وكأن ذلك الأمر سيصبح أحد سبل الدخل القومي.

أسئلة حول القانون 

السؤال المبدئي الذي يدور في أذهان الجميع هو: كيف يتم مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية من خلال اللجنة التشريعية بمجلس النواب، ومجلس النواب بأكملها في عطلته السنوية؟ وما الحاجة إلى الانتظار إلى وقت العطلة أو الإجازة البرلمانية ومناقشة مشروع ذات خطورة مجتمعية على الحقوق والحريات بأسرها، إلى الدرجة التي أطلق العديد من المتخصصين على قانون الإجراءات الجنائية، أنه بمثابة الدستور الثاني، أو الدستور المصغر؟

ثم لماذا يتم تخوين أغلب المنتقدين لهذا المشروع، وكأنهم يعملون ضد الدولة، أو كما قال الراحل أمل دنقل: ضد من؟ فمتى القلب في الخفقان اطمأن.

هالني كثيرًا بعد مطالعة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، ما وجدته مكتوبًا على صفحة الفيسبوك، الخاصة بنائبة مجلس النواب، أميرة أبو شقة بتاريخ 20 أغسطس من أن مشروع قانون الإجراءات الجنائية يمثل ثورة تشريعية ونقلة حضارية في مجال حقوق الإنسان.

ولست  أدري كيف يستقيم هذا الوصف مع مشروع قانون، لم يأت بجديد فيما يتعلق بقضية الحبس الاحتياطي، وتزايد مدته، على الرغم من ما أفرزته مناقشات الحوار الوطني من ضرورة تعديل أحكام الحبس الاحتياطي، وما روجته الصحف من حديث لرئيس الدولة يدعو فيه القائمين على مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى ضرورة جعل الحبس الاحتياطي متوافق مع كونه تدبير مؤقت، ولكن بمراجعة المشروع المعروض حاليًا لم تزل المدد أعلى بكثير من المعدلات المطلوبة، ولم تزل تصل إلى مستوى العقوبة المسبقة، هذا بخلاف ما استجد في هذا المشروع من سعي دؤوب لمصادرة الكفالات المقررة حال إخلاء السبيل، حتى وكأن ذلك الأمر سيصبح سبيلًا من سبل الدخل القومي.

كما أنه في أقراه لما جاء عليه الدستور من ضرورة التعويض عن الحبس الاحتياطي الخاطئ، فإن مشروع القانون قد يكون مكبلاً لهذا الحق بالشروط المرهقة، هذا بخلاف أنه لم يتوافق في كيفية حساب التعويض مع افتراضات السوق المصري الاقتصادية، وليس السوق العالمي، بما يجعل قيمة الحبس تتوافق على أقل تقدير مع الحد الأدنى للأجور.

كما وأن هذا المشروع الذي تروج له الدولة وتحشد قوتها وطاقتها نحو تصديره على شاكلة لم تحظ بالمناقشات المجتمعية التي تتناسب وحجم وقيمة القانون، والتي أيضا لا تتناسب مع حجم وقيمة ما يضمه المجتمع القانوني المصري من خبرات وقامات علمية جديرة بأن تصنع قوانين تتفق والحقوق والحريات

  لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي حديث منشور على موقع المصري اليوم يوم أمس عن مشروع القانون، جاء فيه أن لجنة صياغة المشروع قالت في بيان لها: إنه في إطار سعي مجلس النواب لتطوير التشريعات بما يتوافق مع المتطلبات الدستورية والتزامات الدولة في مجال حقوق الإنسان، قامت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بالمجلس بالتصدي لمشروع قانون مقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية؛ وفي خطوة غير مسبوقة لتعزيز الحوار المؤسسي بين السلطات.

فأي حقوق تلك التي تعلي من شأن سلطة الضبط ” مأمور الضبط القضائي” إلى أن تصل إلى تمكينه من استجواب المتهم، فأي خلط مقصود ما بين عمل النيابة العامة والشرطة، وأي هدف يتماشى مع مثل هذه التعديلات.

وليس إلى هنا فقط تقف سلبيات مشروع القانون، ولكن هناك العديد من النقاط التي تحتوي على أسئلة تعجيزية، فمثلا: كيف يتم إقرار المحاكمات الجنائية داخل السجون، على الرغم من إقرار الدستور المصري لتقريب جهات التقاضي، ، بخلاف كونه يمثل عبء على الدفاع، وعلى الهيئات القضائية ذاتها؛ أليس في ذلك على أقل التقديرات إرهاق للمتقاضين.

هذا بخلاف ما تضمنه من أحكام جديدة تمنح السلطة الحق في منع التصرف في الأموال لمجرد صدور أحكام غيابية، والجميع يعلم أن الأحكام الغيابية لا يتم فيها تقديم أي دفاع، هذا بخلاف كون هذا التقرير يمثل معاقبة مرتين للمتهمين،  دونما تحقيق لدفاعهم. 

 

ذلك علاوة على ما جاء بهذا المشروع من منع نشر وقائع جلسات المحاكمة، أو منع التصوير، بما لا يتوافق مع المبادئ الأولية لحرية الرأي والتعبير وحرية النشر، بغض النظر عن كون نقل وقائع الجلسات يعد من قبيل الرقابة الشعبية على العدالة، وللعلم فإن الرقابة الشعبية على جميع أعمال السلطات هي أساس الحكم الديمقراطي، لكون الشعوب هي التي فوضت السلطات للقيام بأعمالها نيابة عنها.

هذا بخلاف العديد من النقاط والأحكام التي تتطلب المراجعة، وبشكل أخص فيما يخص تحقيق دفاع المتهمين، والذي يبدأ من اللحظة الأولى للقبض على المواطنين، فكيف يتحقق ذلك وفي أول تماس جاء النص في هذا المشروع على منع الحديث في التحقيق إلا إذا أذن المحقق لدفاع المتهم بالحديث.

 

تلك مجرد بعض الملاحظات على ما شاب هذا القانون من عيوب تقوض من ممارسة الحق في التقاضي، والحق في الدفاع، والتمتع بقرينة البراءة، وغيرها من العناوين ذات الحساسية.

 

ومن هنا فإنى أقول للقائمين على هذا المشروع بتعديل قانون الإجراءات الجنائية: إن ذلك ليس بالأمر الهيِّن واليسير أن تتم معالجة موضوع بهذه الدرجة من الخطورة والتأثير على أمر العدالة على إطلاقها بمثل هذه الطرق المتعجلة، فإن ما يتم عرضه ومحاولة تعديله يتجاوز نصف قانون الإجراءات الجنائية، فلماذا إذن لم تتم صناعة مشروع متكامل تظهر فيه فلسفة صانعه، ويتم فيه الاعتماد على المتخصصين وذوي العلم من أهل القانون، قبل أن تتم إحالته إلى مجلس النواب ــ وهو المجلس الذى ليس لدى معظم أعضائه الخلفية العلمية القانونية التخصصيةـ  على نحو يكفل حقوق المتقاضين وتحقيق أقصى مدى ممكن من الضمانات اللازمة نحو توفير إجراءات المحاكمات العادلة، وقد أقرت المحكمة الدستورية العليا المصرية أن الأصل فى سلطة المشرِّع فى مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها، وكأن الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن ما تقره من القواعد القانونية فى شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التى كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها ويتعين أن يكون منصفًا ومبررًا.    

 

زر الذهاب إلى الأعلى