الصحافة خارج العاصمة: من المسؤول عن تهميش دور صحفيي المحافظات؟

نُعامل كأننا صحفيون من الدرجة الثانية، ولا نحصل على الدعم الكافي
الصحافة خارج العاصمة:
من المسؤول عن تهميش دور صحفيي المحافظات؟
رغم الدور الحيوي الذي يلعبه صحفيو ومراسلي الصحف والمواقع الإخبارية في المحافظات من نقل نبض الشارع المحلي وكشف قضايا وهموم المواطنين، إلا أن هذه الشريحة المهمة من الصحفيين تعاني من تهميش مزمن، سواء على مستوى التقدير المهني أو الدعم المادي والمعنوي.
يعاني كثير من الصحفيين خارج العاصمة من ضعف فرص التدريب والتأهيل، وغياب بيئة العمل الآمنة، بالإضافة إلى تدني الرواتب وغياب عقود العمل، مما يهدد استمرارية الصحافة المرتبطة بالمحافظات في مصر ويُضعف من قدرة الإعلام على أداء دوره الرقابي والتنموي في مختلف الأنحاء.
في هذا السياق، تتعالى أصوات تطالب بإعادة الاعتبار لصحافة المحافظات وتوفير دعم حقيقي لمراسليها، من خلال سياسات إعلامية عادلة تشمل التدريب، والتأمين، والاعتراف بدورهم كمكون رئيس في المنظومة الصحفية، لا مجرد أذرع ميدانية مهملة.
مشهد معقد:
يتحدث أحمد رأفت، المراسل الصحفي بمحافظة المنيا، عن أبرز ما يواجهه وزملاؤه من معوقات “منها صعوبة الوصول إلى المعلومات من الجهات الرسمية، فغالبًا ما يمتنع المسؤولون عن التصريح بدعوى انتظار موافقة الجهة التابعين لها، وهي موافقة لا تأتي أبدًا -حسب حديثه.
ولا تقتصر الصعوبات على الجانب الإداري، بل تمتد إلى التواجد الميداني، يضيف رأفت: “التعامل مع الجهات الأمنية أثناء تغطية الأحداث يزداد صعوبة، حيث نُمنع من التصوير ويُطلب منا الحصول على تصريح رسمي من وزارة الداخلية، إلى جانب الأسلوب الحاد الذي نُعامل به ميدانيًا”.
ورغم التغييرات الأخيرة في نقابة الصحفيين، يرى رأفت أن مشكلة حماية الصحفيين غير النقابيين ما زالت قائمة، خاصة العاملين في المواقع الإلكترونية داخل المحافظات، فهم الأكثر عرضة لانتهاكات متكررة وسط عدم الاعتراف بهم وعدم شمولهم ضمن مظلة الحماية النقابية، ويشدّد على أن إغلاق أبواب التعيين في المؤسسات القومية حرم جيلًا كاملًا من الصحفيين الشباب من فرص الالتحاق الرسمي بالمهنة، في ظل عدم وجود آليات لضم الصحفيين الإلكترونيين أو مراسلي المحافظات لعضوية النقابة.
مركزية التغطيات الإخبارية
يمكن تحديد عوامل هذا التهميش في ما يعرف بـ”مركزية الأخبار”، أي اقتصار التغطيات للأخبار والأحداث داخل محافظتي القاهرة والإسكندرية على حساب باقي المحافظات، عطفًا على ضعف الاستثمار في المراسلين، فكثير من المؤسسات لا توفر لهم الدعم المادي واللوجيستي الكافي، سواء في الرواتب أو التدريب أو أدوات العمل، ما يضعف إنتاجهم وفرص ظهورهم، كما أن تجاهل قصص المحافظات يعتبر سببًا بارزًا، حيث تفترض عقليات إدارية للمؤسسات أن الأخبار المحلية “ثانوية” أو غير جديرة بالنشر في الصفحات الأولى أو النشرات الإخبارية الرئيسية.
إضافة إلى هذه العوامل فإن محمد صبري، المراسل الصحفي لمحافظة الشرقية، يعبر عن خيبة أمله تجاه المشهد الحالي وتحديدَا ما يخص الحماية والتنظيم، قائلًا: “ما زلنا خارج أي اهتمام من النقابة أو المؤسسات الصحفية.. نحن معرضون باستمرار للمخاطر، دون غطاء قانوني يحمي حقوقنا أو يدافع عنا”.
التأهيل والتدريب ضرورة حتمية
افترضت دراسة بعنوان “العوامل المؤثرة على الأداء المهني لمراسلي الصحف في المحافظات: دراسة في المضمون والقائم بالاتصال” أن عددًا من العوامل مجتمعة تؤثر على أداء المراسلين/ات، منها وجود علاقة ارتباطية بين حصول المراسلين الصحفيين على دورات تدريبية من جهة، والإمكانيات المادية والتكنولوجية المتوفرة للصحيفة من جهة أخرى، وتحققت الدراسة من هذا الفرض، ووصلت إلى بعض النتائج منها؛ تأكيد 57% من عينة الدراسة أنهم لم يتلقوا حقهم في التدريب والتأهيل المهني، وذكروا سبب ذلك في المقابلات التي أجراها الباحث القائم على الدراسة معهم، حيث أوضحوا أنهم على الرغم من وجود امكانيات مادية وتكنولوجية في مؤسساتهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من ترك أسرهم وتكبد مبالغ إضافية للذهاب إلى مقر الصحيفة أو النقابة للحصول على الدورات التدريبية.
ورغم أن النقابة حاولت تجميع مراسلي وجه بحري في الدلتا، ومراسلي الصعيد في الأقصر، فإن الغالبية لم تشارك بسبب بُعد المسافة، وخوفهم من ترك أسرهم وأولادهم، وتحمل أعباء مالية”.
الأمر الذي يتفق معه بيشوي إدوار مراسل جريدة “الأسبوع” في الإسكندرية، يقول: إن “فرص التدريب والتأهيل تتركز في القاهرة رغم وجود مؤسسات كبرى بالإسكندرية، مما يضعف فرص تطوير المراسلين في المحافظات، ويعيد إنتاج الفجوة الجغرافية داخل الهيكل الصحفي، كما يوضح أن المهنة باتت تواجه تحديات متصاعدة، أثرت بشكل مباشر على قدرة الصحفيين في أداء دورهم”، ويتابع: “الأزمة الاقتصادية وتراجع التمويل الإعلاني، وتغير نماذج الدعم أثرت على الجميع، لكن الصحفيين في المحافظات هم الأكثر تهميشًا”، ويشير إلى أن المراسلين في الإسكندرية يعانون من مركزية التغطية الإعلامية، ما يقلل من فرص إبراز القضايا المحلية، رغم الجهد المضاعف الذي يبذله الصحفي الميداني/ة.
وفي سياق الحديث عن التأهيل والتدريب وفي إطار نظرية الحتمية التكنولوجية، كانت من أبرز نتائج دراسة “العوامل المؤثرة على الصحافة الإقليمية في ظل التطورات التقنية الحديثة وانعكاساتها على الأداء المهني للصحفيين” أن التطور التقني سببًا رئيسًا في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يؤثر على الصحافة الإقليمية ويتطلب من الصحفيين توظيف هذه الوسائل بفاعلية للتواصل مع الجمهور ونشر المحتوى، وجاءت توصيات الدراسة تشدد على ضرورة توفير فرص التدريب المستمر للصحفيين، بهدف تحسين مهاراتهم التقنية وتطوير قدراتهم في التعامل مع التطورات التكنولوجية.
- صحفي درجة تانية:
في المشهد الصحفي المصري، يواجه مراسلو المحافظات تحديات متراكمة تعكس خللًا واضحًا في طريقة التعامل معهم داخل المؤسسات الصحفية، سواء على مستوى الإدارة أو النقابة أو حتى نظرة الزملاء في العاصمة، ورغم الجهد الكبير الذي يبذله هؤلاء الصحفيون في متابعة القضايا المحلية وتغطية الأحداث في القرى والمراكز البعيدة، إلا أنهم كثيرًا ما يُنظر إليهم باعتبارهم في مرتبة أدنى، سواء من حيث التقدير المهني أو الحقوق المادية، وفي هذا السياق، يروي عدد من الصحفيين الميدانيين تجاربهم الشخصية، كاشفين جوانب من التهميش والتمييز الذي يواجهونه.
قالت الصحفية زينب توفيق، مراسلة “الأسبوع”، إن طبيعة العمل خارج العاصمة مختلفة تمامًا، “نُعامل وكأننا درجة ثالثة داخل الجريدة، رغم أننا من نصنع محتوى المواقع الإلكترونية، نعمل طوال اليوم بلا توقف، بينما يعمل زملاؤنا بالمقر الرئيسي لثماني ساعات فقط”، وتوضح أن أبرز التحديات تتمثل في غياب بدلات التنقل، رغم التنقل المستمر بين القرى والمراكز، فضلًا عن التكليفات المتعددة التي تُلقى على عاتق المراسل.
يتفق معها الصحفي ومدير مكتب الدستور في محافظة سوهاج مصطفى علم الدين، ويحكي أن تجربته ممتدة من العاصمة إلى المحافظات، موضحًا أنه بدأ في مقر الجريدة بالقاهرة ثم انتقل إلى سوهاج، ليصطدم بما وصفه بـ”مركزية التعامل مع الصحفيين”، حيث يُنظر إلى المراسل كصحفي درجة ثانية، حتى لو كان عضوًا في النقابة ويؤدي عمله كاملًا، ويضيف: “الظروف المادية هي التحدي الأكبر، فمعظم المراسلين يعانون من تدني الأجور، إلى جانب انتشار ظاهرة انتحال الصفة الصحفية، ما يزيد من تعقيد المشهد ويؤثر على الصحفيين الحقيقيين، لأن الجهات والجمهور لا يستطيعون التمييز دائمًا”.
بينما أشار الكاتب الصحفي حسام فوزي جبر، مدير مكتب جريدة الدستور بمحافظة الغربية، إن الوقت قد حان لتغيير مصطلح “مراسلي المحافظات” إلى “صحفيي المحافظات”، مؤكدًا أن هذا الوصف الأخير هو الأدق والأكثر احترامًا لطبيعة عملهم ودورهم المهني.
وأوضح جبر، في حديثه للمرصد المصري ، أن وصف “مراسل بات يستخدم بشكل ينتقص من مكانة الصحفيين في المحافظات، مضيفًا: “نحن لسنا صغارًا في العمر أو عديمي الخبرة، بل من بيننا من يعمل في مؤسسات صحفية كبرى، ويتبع جهات معترف بها من قبل المجلس الأعلى للإعلام، ونتمتع بعضوية نقابة الصحفيين، لذا يجب التعامل معنا بصفتنا المهنية الحقيقية كصحفيين”.
وأشار إلى أن استمرار استخدام مصطلح “مراسل” يسهم في تكريس التهميش الذي يعاني منه صحفيو المحافظات، قائلًا: “هذا الوصف يرسخ لفكرة أننا في مرتبة أدنى، بينما الواقع أن تغطياتنا في المحافظات تتضمن محتوى مميز لا يقل جودة أو أهمية عن ما يُنشر من القاهرة، سواء في التقارير أو الموضوعات اللايت والقصص الإنسانية”.
وأضاف: “للأسف، النقابة لا تتذكر صحفيي المحافظات إلا في مواسم الانتخابات، ولم نشهد اهتمامًا حقيقيًا إلا من قلة، مثل الزميل محمد سعد عبد الحفيظ، الذي نظم عددًا من الدورات التدريبية خلال العام الماضي”، ولفت إلى أن المؤسسات الصحفية أيضًا تتعامل مع المحافظات على أنها هامش، وتفرد مساحات أكبر للأخبار المركزية على حساب التغطيات المحلية، رغم أن “في المحافظات محتوى ثري وأصيل يستحق تسليط الضوء عليه”- على حسب قوله.
- مطالب واضحة
تتعدد المطالب التي عبّر عنها عدد من الصحفيين الميدانيين، مطالبين بإصلاحات عاجلة تعيد الاعتبار لدورهم وتعزز من استمرارية الصحافة الجادة خارج العاصمة، وفيما يلي أبرز هذه المطالب بصياغة موحدة.
يؤكد الصحفي أحمد رأفت على ضرورة توفير حماية كاملة للمراسلين من الانتهاكات، والتوقف عن سياسة الاستغناء المفاجئ عنهم بعد سنوات من العمل دون تعاقد رسمي، مشيرًا إلى أن قرارات الفصل الشفهي دون إنذار أو ضمانات تشكل خطرًا كبيرًا على استقرار الصحافة الرقمية في مصر.
من جانبه، يطالب محمد صبري نقابة الصحفيين بإنهاء مظاهر التمييز بين الصحفيين النقابيين وغير النقابيين، وفتح باب القيد أمام الصحفيين الإلكترونيين ممن أثبتوا كفاءتهم على الأرض، كما يشدد على ضرورة معالجة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المراسلون، موضحًا أن الرواتب الحالية لا تغطي حتى نفقات العمل اليومي، ما يضطر الكثيرين للعمل لدى أكثر من جهة، ويضيف أن المؤسسات تستنزف وقت المراسلين وجهدهم دون تقديم أي امتيازات حقيقية، مما يحوّل ممارسة المهنة إلى عبء مستمر.
وتنضم زينب توفيق، صحفية من المنيا، إلى هذه المطالب، مشيرة إلى أن المراسلين يُطلب منهم أداء كل أنواع التغطيات وإنجاز مختلف أشكال المحتوى، لكن تتم محاسبتهم بصرامة إذا فاتهم خبر، وتنتقد البطء الشديد في التعيين داخل المؤسسات أو القيد بالنقابة، لا لسبب سوى أنهم يعملون خارج العاصمة، وتطالب بإقرار قانون يحدد سقفًا زمنيًا للتعيين، ووضع ضوابط واضحة لصرف المستحقات المالية، وتحديد حد أدنى عادل للأجور، كما تؤكد على ضرورة توفير تأمين صحي واجتماعي للمراسلين، مطالبة بتفعيل دور النقابة في حمايتهم من الاعتداءات والمضايقات. تقول: “المؤسسات يجب أن تتعامل مع المراسلين باعتبارهم جزءًا أصيلًا من هيكلها، فالاهتمام بمراسلي المحافظات لا يزال بطيئًا، رغم وجود وعي أولي لم يُترجم بعد إلى خطوات فعلية من جانب المؤسسات أو النقابة أو الجهات الرسمية”.
أما علم الدين، فقد طالب بتدخل فعّال لوضع حدًا لمنتحلي الصفة، كما يدعو إلى تفاوض مباشر بين النقابة والمؤسسات لتطبيق الحد الأدنى للأجور، وتحسين أوضاع الصحفيين عامة، مع إيلاء المراسلين خارج العاصمة اهتمامًا خاصًا، ويختتم بأن هناك مؤشرات إيجابية ظهرت مؤخرًا، مثل تأسيس لجان نقابية في المحافظات، لكنه يطالب بتفعيل دورها لتكون أكثر تأثيرًا وفاعلية.
بينما يطالب جبر بالاعتراف الحقيقي بصحفيي المحافظات والذي يبدأ من تسميتهم بالاسم الصحيح، كما يحدث مع زملاء القطاعات الأخرى الذين يُطلق عليهم “مسؤول ملف”، وليس “مراسل وزارة”. وأضاف: “إذا اعترفت المؤسسات والنقابة بأن قسم المحافظات هو من أهم أقسام الصحف، سنبدأ في رؤية التغيير”، واختتم حديثه برسالة موجهة للدفاع عن الجيل الجديد من الصحفيين في الأقاليم، قائلاً: “نحن كجيل أخذنا فرصتنا، وتم تكريمنا وحصلنا على جوائز، لكن الشباب الجدد يعاني، حتى في زيارات المسؤولين من القاهرة، يُستقدم معهم صحفيون من العاصمة، ويتم تجاهل الصحفيين المحليين وكأنهم ليسوا مهنيين حقيقيين. هذا ظلم واضح يجب أن يتوقف”.
الكاتب الصحفي حسين الزناتي: النقابة تعمل جاهدة لدعم صحفيي المحافظات.. والرابطة خطوة ممكنة بالتوافق
اقترح الكاتب الصحفي حسين الزناتي، عضو مجلس نقابة الصحفيين، على الزملاء والزميلات في المحافظات التقدم بطلب جماعي لإنشاء رابطة خاصة بصحفيي المحافظات، بالتوافق فيما بينهم، خاصة في ظل وجود لجان فرعية للنقابة في عدد من المحافظات يمكن البناء عليها وتفعيل دورها.
وأضاف الزناتي أن مسألة تدني الرواتب لا تقتصر فقط على صحفيي الأقاليم، بل هي أزمة عامة يعاني منها الصحفيون سواء في العاصمة أو خارجها، مشيرًا إلى أن النقابة تبذل جهودًا مستمرة للتفاوض بشأن تحسين الأجور بما يتوافق مع ظروف المؤسسات الصحفية والقوانين المنظمة لذلك.
وفيما يتعلق بالخدمات المقدمة للصحفيين في المحافظات، أقر الزناتي بأن هناك بعض القصور، خاصة في ما يتعلق بالخدمات العلاجية وفرص التدريب، رغم أن الفترة الماضية شهدت نشاطًا تدريبيًا ملحوظًا في عدد من المحافظات. وأكد أن النقابة تسعى جاهدة لتحسين هذه الأوضاع، لكنها تحتاج دائمًا إلى دعم الزملاء من خلال تقديم مطالبهم وشكاواهم بشكل مباشر، حتى يتسنى للنقابة القيام بدورها الكامل.
وختم الزناتي بالتأكيد على أنه لا يرى وجود “ظاهرة تهميش” لصحفيي المحافظات داخل مؤسساتهم، مؤمنًا بأن جودة العمل الصحفي هي الفيصل، وأن التميّز يفرض نفسه بغض النظر عن موقع الصحفي الجغرافي.