“الصحفيون المؤقتون”.. عمود المؤسسات القومية المُهمش

“الصحفيون المؤقتون”.. عمود المؤسسات القومية المُهمش
في قلب المؤسسات القومية تُصاغ الأخبار وتُدار عجلة الإعلام الرسمي، يعمل العشرات من الصحفيين والصحفيات منذ سنوات طويلة دون تعيين، تحت مسمّى “المؤقتين”. هؤلاء الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية استمرار العمل بعد خروج الأجيال الأقدم إلى المعاش، باتوا هم العمود الفقري للمؤسسات الصحفية، دون أن ينالوا الحد الأدنى من الأمان الوظيفي أو الاعتراف الرسمي.
حق مهدر في المؤسسات القومية.. أزمة التعيين بين نص القانون وقرارات الحكومة
يُعد التعيين حقًا أصيلًا للصحفيين، نص عليه القانون، وسعت نقابة الصحفيين لترسيخه، من خلال إضافة مادة جديدة إلى قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، تُلزم المؤسسات الصحفية الخاصة بتعيين الصحفيين المتدربين، وإخطار النقابة بكشوف من لم يتم تعيينهم، على أن يجري تثبيتهم خلال عامين من بدء العمل بالمؤسسة.
ورغم أن هذه المادة أنصفت العاملين في المؤسسات الخاصة، فإنها جاءت مناقضة تمامًا لوضع زملائهم في الصحف القومية، الذين تلقوا قرارًا مجحفًا بوقف التعيينات إلى أجل غير مسمى، وهو القرار الذي أصدره مجلس الوزراء بالتنسيق مع الهيئة الوطنية للصحافة في 26 يناير 2020، بزعم تنفيذ خطة لإصلاح وتطوير المؤسسات القومية.
شمل القرار عدة بنود صارمة، من بينها منع فتح باب التعيينات، ووقف التعاقدات، وعدم المد بعد سن التقاعد، باستثناء بعض كبار الكُتّاب وفي حالات نادرة، بشرط التنسيق مع الهيئة الوطنية للصحافة. كما تضمن القرار العمل على تسوية المديونيات المتراكمة لدى هذه المؤسسات، عبر استغلال الأصول غير المُستغلة، بالإضافة إلى إعادة تقييم الإصدارات المختلفة، واتخاذ قرارات نهائية بشأنها.
وعلى الرغم من تأكيد الحكومة أن تلك الإجراءات تتم وفق برنامج زمني محدد، إلا أنه لم يُعلن حتى الآن أي جدول واضح أو رسمي لإعادة فتح التعيين، كما لم تُفصح الهيئة الوطنية للصحافة عن خطوات فعلية أو مواعيد مستقبلية لإنهاء التجميد.
شهادات من قلب الأزمة
على مدار سنوات طويلة، ظلّ عشرات الصحفيين والصحفيات في المؤسسات القومية يمارسون عملهم اليومي بكل كفاءة وإخلاص، يكتبون العناوين الرئيسية، ويغطّون الأحداث الكبرى، ويُشرفون على الصفحات ويُديرون المكاتب في المحافظات… لكنهم بلا عقود، بلا تأمين، بلا أبسط حقوق الاستقرار. يُطلق عليهم “المؤقتون”. في السطور التالية، 4 شهادات حية تُجسد وجعًا مشتركًا، وأملًا لا يزال معلّقًا على باب الهيئة الوطنية للصحافة.
سنوات من الانتظار..
بدأت صحفية في الجمهورية -رفضت ذكر اسمها- العمل في الصحافة قبل 13 عامًا. قضت سنواتها بين المهام اليومية والاجتهاد في أرشفة عملها، على أمل التثبيت في مؤسستها القومية. تقول للمرصد: “أنا بشتغل من 13 سنة، وزملاء كتير أقل واحد فيهم بيشتغل من 5 سنين من غير تعيين. قدمنا طلبات، وخدنا وعود، ومع تحرك النقابة، الهيئة الوطنية للصحافة فتحت السنة اللي فاتت باب التعيينات. دخلنا اختبارات فيها أسئلة عن شغلنا، ودراستنا، وأعمالنا السابقة، والدراسات العليا… اجتزنا كل ده، لكن النتيجة لم تلعن، وكأننا ما عملناش حاجة”.
وتضيف: “إحنا اللي بنتحمل مسؤولية المؤسسات القومية دلوقتي بعد خروج الأساتذة على المعاش. بنقود الصفوف الأولى، ومع ذلك بنُعامل كمؤقتين بلا حقوق”.
“الاختبارات انتهت… والأمل تأجل”
منذ 15 عامًا يعمل إ.ر في مؤسسة الأهرام، دون أن يُمنح عقدًا رسميًا. يتحدث بألم عن تجربته:
“أنا بشتغل من 15 سنة في الأهرام، واجتزنا امتحانات الهيئة اللي تمت في أكتوبر 2024 بعد تحرك فعلي من النقيب. لكن رغم اجتيازنا للاختبارات، محدش اتعيّن، والمشكلة إن بعضنا كان أصلاً معين واستقال، أو اتفصل تعسفيًا، أو استمر بدون عقد. الظروف مختلفة، لكن المصير واحد: لا تثبيت، ولا وضوح، ولا ضمانات. إحنا مجموعة من النقابيين وغير النقابيين، كلنا شغالين، وكلنا محبطين”.
عادل الشاعر: “من الحلم إلى ألم المرض… والعقد لم يأتِ”
عادل الشاعر، عضو الجمعية العمومية منذ عام 2007، يحكي قصة تستحق أن تُروى بكل مرارة وشجاعة. بدأ رحلته في مؤسسة “البديل”، ثم اختير ضمن فريق شبابي لتأسيس مشروع صحفي رقمي حكومي طموح يواكب السوق، تحت إشراف عضو مجلس النقابة الحالي هشام يونس، ولأن الصحف القومية كانت لا تزال تعمل بالفاكس وبالنمط القديم، وقع الاختيار على عناصر شابة تتمتع بالكفاءة العالية والقدرة على مواكبة الحلم الجديد وكنت من ضمنهم”.
يقول: “كنت بشتغل مراسل في الوطن، ومعايا دخل ثابت، وكنت معد برامج كمان. سبت كل ده، واتفرغت تمامًا للأهرام، على وعد بمشروع يحقق لي استقرار مهني. الآن أعمل بمثابة مدير مكتب الأهرام في الشرقية، وبشتغل من 15 سنة، لكن لسه اسمي مؤقت، وبقبض 2800 جنيه”.
ويتابع: “وصلت للـ50 سنة، واكتشفت إصابتي بسرطان في المرارة، وسألت نفسي: إزاي أعيش وأتعالج بالمرتب ده؟ إزاي أبدأ من جديد بعد ما ضيّعت عمري على وعد بالتعيين؟، ليه أرجع أدوّر على نقطة بداية من جديد، وأنا قضيت عمري كله في الصحافة؟.. ويتحدث بمرارة: “من في نفس مرحلتي العمرية أصبحوا الآن قيادات إعلامية ويقودون مؤسسات وصحف وأنا لا زلت أبحث عن التعيين”.
ورغم أنه يقدّر دعم النقابة له وقت أزمته الصحية، إلا أنه يرى أن ما يعيشه لا يليق بتاريخه ولا بما قدّمه من إخلاص للصحافة ومؤسسة الأهرام.
من جهتها، قامت نقابة الصحفيين بعدة محاولات لحل أزمة “الصحفيين المؤقتين” في المؤسسات القومية، من خلال مخاطبة الهيئة الوطنية للصحافة، ومجلس الوزراء، للمطالبة بمراجعة القرار الجائر. ودعت النقابة إلى إعادة فتح التعيين، ليس فقط حفاظًا على حقوق الصحفيين، بل أيضًا لتجديد دماء المؤسسات الصحفية القومية، التي تواجه خطر “الشيخوخة المهنية” بسبب غياب الكفاءات الشابة المعينة والمستقرة.
أكثر من 100 صحفي يطالبون بلقاء رسمي مع رئيس الهيئة الوطنية للصحافة
في خطوة جديدة لإعادة فتح واحد من أكثر الملفات حساسية داخل الوسط الصحفي، تقدم أكثر من 100 صحفي، من النقابيين وغير النقابيين، بمذكرة رسمية إلى نقيب الصحفيين، الكاتب الصحفي خالد البلشي، يطالبون فيها بتشكيل وفد لمقابلة رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، المهندس عبد الصادق الشوربجي، لبحث أزمة الصحفيين “المؤقتين” العاملين في المؤسسات القومية.
وحملت المذكرة، التي سجلت تحت رقم 3193، توقيع 114 صحفيًا، جاء فيها:
“نطالبكم، ومجلسكم الموقر، بتشكيل وفد برئاستكم، يضم أعضاء من مجلس النقابة، وعددًا من البرلمانيين، وممثلين عن المؤقتين، إضافة إلى كبار الصحفيين، لعقد اجتماع رسمي مع رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، يوم الأربعاء المقبل، بهدف استجلاء أسباب تأخر التعيينات، وتوقيع العقود الخاصة بالزملاء الذين اجتازوا اختبارات الهيئة منذ أكثر من تسعة أشهر، دون إعلان النتائج أو اتخاذ أي خطوات تنفيذية”.
وتُذكّر المذكرة بأن الهيئة كانت قد أعلنت، في منتصف أغسطس الماضي، بدء إجراءات تعيين المؤقتين، عقب توقيع بروتوكول رسمي مع نقابة الصحفيين. وقد تم بالفعل تشكيل لجنة مشتركة من أعضاء مجلس النقابة، ضمت كلًا من جمال عبد الرحيم (سكرتير عام النقابة)، وهشام يونس (الوكيل الأول للنقابة)، ومحمد يحيى (عضو المجلس)، إضافة إلى عدد من رؤساء تحرير الصحف القومية وكبار الصحفيين.
وعلى مدار شهري سبتمبر وأكتوبر، خضع مئات الصحفيين لاختبارات تحريرية ومقابلات تقييم، شملت مراجعة أرشيفهم المهني، ومدى ارتباط تخصصهم الدراسي بالمهنة، وكذلك المدة التي قضوها في العمل الصحفي. ورغم مرور كل هذا الوقت، لا تزال نتائج تلك الاختبارات حبيسة الأدراج، دون مبرر واضح أو موقف رسمي معلن.
13 عامًا من الانتظار انتهت بحكم تعويض لا يُنصف الحلم
لم يكن م.ل، الصحفي في مؤسسة دار التحرير، يتخيل أن سنواته الطويلة داخل الصحف القومية ستنتهي بحكم تعويض، بدلًا من عقد تعيين طال انتظاره. عشرات السنوات من العمل الميداني، وتبدّل الإدارات، والاجتهاد المستمر، لم تكن كافية لضمان حقه في الاستقرار المهني، وسط منظومة تُكافئ الوساطة وتتجاهل الجدارة.
في شهادته للمرصد المصري للصحافة والإعلام، روى “م.ل” تفاصيل رحلته التي بدأت أواخر عام 2010، حين التحق بالعمل في صحيفة “المساء”، بعد اجتيازه دورات تدريبية داخل مؤسسة دار التحرير. وعلى مدار أربع سنوات، أثبت كفاءته في العمل، ورغم تغيّر رؤساء التحرير، كان يُخضع في كل مرة لاختبارات تمهيدًا لتعيينه، دون نتيجة تُذكر. ويقول: “طوال تلك الفترة، حاولت بكل الطرق. تواصلت مع المجلس الأعلى للصحافة، ثم المجلس الأعلى للإعلام، لكن دون أي استجابة. وكل التعيينات التي كانت تُجرى في المؤسسة ذهبت لأبناء العاملين فقط”.
في نهاية عام 2014، عُرض عليه الانتقال للعمل في صحيفة “عقيدتي” -إحدى إصدارات دار التحرير أيضًا- على وعد بالتعيين، وهو ما استجاب له فورًا. ظل يعمل ضمن الفريق حتى عام 2017، عندما أصبح رئيس التحرير هو نفسه مدير التحرير الذي استقدمه، ورغم ذلك لم يتم اتخاذ أي خطوة نحو تثبيته.
يقول: “استشرت كبار الزملاء، وحتى رئيس التحرير نفسه، حول اللجوء إلى القضاء، فنصحوني بعدم الإقدام على هذه الخطوة. لكني قررت في النهاية أن أرفع دعوى قضائية للحصول على حقي في التعيين، دون أن أخبر المؤسسة حتى لا يؤثر ذلك على علاقتي بها”.
في الدعوى التي تقدم بها عام 2018، قدم أرشيفه المهني، وكارنيهات التعريف من دار التحرير، ومكاتبات رسمية تؤكد عمله، ومنها خطاب من رئيس تحرير “المساء” إلى رئيس مجلس الإدارة يُطالب بتعيينه. أحالت المحكمة القضية إلى لجنة خبراء، أثبتت وجود علاقة عمل بينه وبين المؤسسة. ورغم ذلك، قضت المحكمة برفض الدعوى.
استأنف الصحفي الحكم، وأعيدت القضية مجددًا إلى لجنة الخبراء، التي أقرّت أيضًا بعلاقته الوظيفية بالمؤسسة. دعم موقفه بشهادتين موثقتين من زميلين بالشهر العقاري. لكن، استعانت المؤسسة برئيس شؤون العاملين ومدير القسم، اللذين أنكرا وجوده على قوة العمل. وبعد عدة تأجيلات، أصدرت المحكمة حكمها في 3 سبتمبر 2023، برفض التثبيت، مع تعويض مالي قدره 500 ألف جنيه عن فترة عمله.
يقول: “بدأت التفاوض مع إدارة المؤسسة على تنفيذ الحكم أو التنازل عن التعويض مقابل تعييني، لكنهم ماطلوا. ثم فوجئت بأنهم قدّموا التماسًا على الحكم. فقررت التقدّم بمذكرة لتنفيذ حكم التعويض، وأخرى لنقض قرار رفض التعيين، في أكتوبر 2023”.
كان الصحفي المشار إليه قد لجأ سابقًا إلى نقابة الصحفيين، وتحديدًا في عهد النقيب الأسبق يحيى قلاش، في محاولة للتوصل إلى تسوية ودية، لكن دون جدوى. ويؤكد أن التعيينات في المؤسسة لطالما ارتبطت بالوساطة، ضاربًا المثل بأحد الزملاء الذي تم تعيينه عام 2015 بعد شهور قليلة من تخرّجه، في حين أن الإدارة طالما أكدت أن التثبيت لا يتم قبل قضاء 30 شهرًا من العمل كمُتدرّب.
جدير بالذكر أن م.ل ليس عضوًا بالنقابة، وهو ما قد أضعف موقفه أمام المحكمة، لكنه لا يزال واحدًا من مئات الصحفيين الذين يواجهون نفس المصير. يقول إن عدد المؤقتين في المؤسسات الصحفية القومية يصل إلى ما يزيد عن 300 صحفي، بعضهم لجأ للقضاء، وحصل على أحكام بالتثبيت، وآخرون تقدموا بثلاث طلبات إحاطة إلى البرلمان، إلى جانب طرق أبواب النقابة في أكثر من دورة نقابية، ولا تزال المحاولات جارية لاسترداد الحق الضائع.
هذا و يعمل حاليًا أكثر من 300 صحفي داخل المؤسسات القومية بوضع “مؤقت”، دون عقود تضمن حقوقهم القانونية، أو تأمينات اجتماعية وطبية، مما يحرمهم من المعاشات والحماية الاجتماعية. ويتقاضى العديد منهم أجورًا متدنية رغم عملهم لأكثر من 10 أو 15 عامًا في نفس المؤسسات. وعند طرح سؤالهم المشروع حول مصيرهم، تأتيهم الإجابة المعتادة: “الملف معطّل لدى وزارة المالية”، دون أي تقدم فعلي يُنهي هذا التعليق المجحف.
هذه الحكايات… ضمن عشرات أو مئات، تختلف التفاصيل وتتعدد الأسماء، لكن الوجع واحد: انتظار طويل، واختبارات مجهولة المصير، وحقوق مؤجلة في وطنٍ يستحق أن تكتب قصته أيادٍ مستقرة، لا معلقة.