توقف الطباعة يطوي صفحات “الفجر” للأسبوع الثاني.. ومصادر: الأزمة أعمق مما يبدو

🔹”الفجر” حكاية جريدة تحتضر على هامش الصحافة المصرية
🔹لماذا تُركت “الفجر” خارج أولويات الشركة المالكة؟
🔹”الفجر”.. عقدان من الصحافة على حافة الغياب
في صباح أحد أيام الطباعة المُعتادة، كان مقر جريدة “الفجر” في غرب القاهرة هادئًا على نحو غير مألوف؛ أجهزة الكمبيوتر وماكينة الطباعة متوقفين، قاعة الإخراج الفني شبه مُظلمة، والمكاتب تفتقد ضجيج الصفحة الأولى، التي كانت تُراجع على عجل قبل ساعات من إرسال البروفا إلى المطبعة للتنفيذ.
ذلك الصمت لم يكن عابرًا؛ فقد دخلت الجريدة أسبوعها الثاني دون إصدار عددها الورقي، في تكرار هو الثامن خلال الأشهر العشرة الأخيرة، وسط مؤشرات متزايدة على أزمة مالية وإدارية متفاقمة تهدد مستقبل المؤسسة بالكامل.
كانت جريدة الفجر منذ انطلاقتها عام 2005، أشبه بشرارة تمرد وسط سوق الصحافة الخاصة في مصر، لا تكتفي بنقل الخبر، بل تحوّله إلى حكاية جريئة تفتح العيون وتثير العقول، بأسلوبها المختلف وملفاتها الساخنة، كسرت القوالب التقليدية وأشعلت مساحات الضوء في عتمة المشهد الإعلامي، فصارت علامة فارقة تجمع بين الجرأة والمصداقية.
تأتي هذه الأزمة في وقت تعيش فيه الصحافة الورقية في مصر مرحلة حرجة؛ فمنذ سنوات تتعرّض المؤسسات الصحفية الخاصة لضغوط متشابكة، تبدأ من الارتفاع المستمر في تكلفة الطباعة – بفعل ارتفاع أسعار الورق والحبر والمواد الخام المستوردة، وتراجع قيمة الجنيه – ولا تنتهي عند الانكماش الحاد في سوق الإعلانات، وتراجع معدلات التوزيع، ومع تغيّر عادات القرّاء، وانتقال نسبة كبيرة منهم إلى المنصات الرقمية المجانية، أصبحت الصحف الورقية في مواجهة مباشرة مع معادلة اقتصادية تكاد تكون مستحيلة: كُلفة إنتاج مرتفعة، وإيرادات متراجعة، وجمهور يزداد انصرافًا.
الوضع المالي للمؤسسة يبلغ “نقطة حرجة”
وفقًا لأكثر من سبعة مصادر من القسمين الورقي والإلكتروني بجريدة “الفجر”، فإن الوضع المالي للمؤسسة بلغ نقطة حرجة منذ مطلع العام؛ حيث لم يتقاضَ العاملون أي رواتب منذ شهر أبريل الماضي، باستثناء قيام الإدارة بسداد فاتورة الهاتف المحمول لبعض الموظفين/ات بشكل انتقائي.
هذا التوقف عن صرف الأجور ليس الأول من نوعه، لكنه يأتي هذه المرة، في ظل غياب أي رؤية واضحة أو تواصل مباشر مع الإدارة العُليا، التي لم يظهر أي من أفرادها في المقر منذ نحو خمس سنوات.
المصادر نفسها تكشف عن تفاوت لافت في الرواتب؛ إذ يحصل مدير التحرير على حوالي 3000 جنيه قبل خصم التأمينات، بينما يتقاضى المحرر ما بين 1800 و2000 جنيه، وهي أرقام تقل كثيرًا عن الحد الأدنى للأجور المقرر قانونًا، سواءً بصيغته الحالية أو السابقة، وفي مفارقة تعكس عمق الخلل الإداري، يتقاضى أحد الموظفين المُقرّبين من الإدارة التنفيذية نحو 4500 جنيه شهريًا، أي أكثر من ضعف ما يحصل عليه بعض المحررين/ات.
إلى جانب الأزمة المالية، تعاني “الفجر” نقصًا حادًا في الموارد التشغيلية، فبحسب أحد الصحفيين، يفتقر قسم الإخراج الفني حتى لأقلام الرصاص، فيما تتعطّل ماكينة الطباعة من حجم A3 منذ قرابة عام، ما أجبر الفريق على استخدام طباعة A4 لإعداد البروفات، وهو ما يسبب إشكاليات بصرية عند المراجعة النهائية للصفحات.
سياسات التسعير المتخبطة فاقمت الأزمة؛ ففي مارس الماضي، قررت الإدارة رفع سعر النسخة من 5 إلى 10 جنيهات دون زيادة عدد الصفحات، الأمر الذي أدى إلى انهيار التوزيع من حوالي 5500 نسخة أسبوعيًا إلى أقل من 3000 أو 3700 نسخة، قبل أن تتراجع عن القرار وتعود إلى السعر القديم بعد ثلاثة أسابيع فقط، أما حاليًا، فتطبع الجريدة نحو 8000 نسخة أسبوعيًا، وهو رقم لا يعكس بالضرورة معدل توزيع فعلي مستقر، في ظل عزوف القرّاء وصعوبة تغطية تكاليف الطباعة.
المشهد داخل المقر لا يقل قتامة؛ حيث أفادت إحدى المصادر بانتشار الفئران في أروقة المبنى، وغياب خدمات أساسية مثل البوفيه، رغم تكرار الشكاوى، ما يعكس بيئة عمل غير صحية تزيد من شعور العاملين بالعزلة وفقدان الأمل.
شكوى رسمية مُرتقبة
وكشف أحد الصحفيين العاملين بالجريدة، والذي يشغل منصبًا تحريريًا، عن استمرار معاناة العاملين/ات بسبب تدني الرواتب، واقتطاعات مالية، وغياب الشفافية الإدارية.
وأوضح المصدر أن راتبه الحالي يبلغ 2500 جنيه فقط بعد خصم الضرائب والتأمينات، مشيرًا إلى أنه خلال الفترة من 2021 حتى 2023، كان يتقاضى ما بين 1500 و1800 جنيه شهريًا، مع اقتطاع نحو 700 جنيه تحت بند الضرائب والتأمينات.
وأضاف أن الإدارة أبلغتهم حينها بأن “تأمينات الصحفيين موحدة”، لكن اتضح لاحقًا أن هذه المعلومة غير صحيحة، وفي عام 2023، وبعد اعتراضه وعدد من زملائه على استمرار الخصم، تواصل معه الكاتب الصحفي عادل حمودة رئيس مجلس التحرير للاستفسار عن سبب الاعتراض، وخلال النقاش، تبيّن أن عقده – المُبرم منذ عام 2013 – مُسجّل براتب 550 جنيهًا فقط، ما يعني أن الخصم المفترض لا يتجاوز 120 جنيهًا، وعلى إثر ذلك، تم وقف الاقتطاعات المُبالغ فيها، دون رد المبالغ التي تم استقطاعها خلال السنوات الماضية.
وأشار المصدر إلى أن رواتب الصحفيين/ات بالجريدة لا تصل إلى الحد الأدنى للأجور، وأن الإدارة التنفيذية ترفض إصدار مفردات مرتب – وذلك بدون مبرر- ما يُعيقهم عن الحصول على خدمات رسمية، مثل التقديم على وحدات سكنية، حتى وأنها ترفض التوقيع على استمارة تجديد البطاقة الشخصية.
وفي سياق متصل، أوضح أن الصحفيين/ات يسعون لمعرفة المالك الحالي للجريدة، تمهيدًا لتقديم شكوى رسمية ضده في نقابة الصحفيين، بسبب تأخّر صرف الرواتب لأربعة أشهر، وعدم الالتزام بالحد الأدنى للأجور، غير أن المعلومات المتداولة متضاربة؛ إذ تتراوح بين ملكية الشركة المتحدة، ووجود ملاك آخرين، أو استمرار الملاك الأصليين، أو أن الأزمة مرتبطة بعقد وكالة إعلانية مع إحدى الشركات التي تأخرت في سداد مستحقات مالية.
واختتم قائلًا: “لا نعرف الحقيقة، في مهنة من المفترض أن يكون القائمون عليها هم أول من يحرص على الشفافية”.
عقد “مُبهم” مع الشركة المتحدة
من بين العوامل التي ساهمت في تعميق أزمات “جريدة الفجر”، تبرز صفقة بيعها للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية كحالة خاصة مثيرة للتساؤلات؛ فعلى الرغم من أن انتقال الملكية جرى منذ أشهر، فإن الصفقة لم تحمل ملامح إعادة الهيكلة أو التطوير التي اعتادت الشركة تنفيذها مع المؤسسات الأخرى التي ضمتها إلى مظلتها، بل يظهر الأمر – وفق شهادات من داخل الجريدة – أقرب إلى “عقد زواج عرفي”، ما يعني أنه موجود على الورق، لكن دون اعتراف كامل أو التزامات متبادلة.
في مؤسسات صحفية أخرى استحوذت عليها الشركة، مثل اليوم السابع، أو الوطن، أو الدستور، أو بعض الصحف القومية التي دخلت في شراكات تطويرية، جرى ضخ استثمارات ملموسة: تحديث البنية التحتية، تحسين بيئة العمل، رفع رواتب الصحفيين/ات، لتتماشى مع الحد الأدنى للأجور، وتوسيع الأقسام التحريرية والفنية، أما في حالة الفجر، فلم يظهر أثر مشابه، لا زيادات في الأجور، ولا تحديثات في المرافق، ولا حتى حضور إداري نشط.
هذا الغياب العملي عن المشهد ترك الصحفيين/ات والعاملين/ات عالقين/ات في حالة فراغ مؤسسي: لا الشركة المالكة تعترف بهم كجزء من خططها الاستراتيجية أو ميزانيتها التشغيلية، ولا الإدارة السابقة تحتفظ بالقدرة أو الإرادة للتدخل، ونتيجة لذلك، تراجعت قُدرة الفجر على المنافسة، سواءً في السوق الورقية أو الرقمية، وفقدت تدريجيًا حصتها في الإعلانات والتوزيع.
ويقول بعض الصحفيين/ات بالمؤسسة، إن العقد المُبرم بين الجريدة والشركة المتحدة موجود، لكنه لا يُترجم إلى التزامات مالية أو إدارية، مما يجعل الجريدة في وضع لا هو استقلال كامل، ولا هو اندماج حقيقي، بل مساحة رمادية تتآكل فيها الموارد والمعنويات معًا، وهو ما انعكس حتى على تفاصيل الحياة اليومية داخل المؤسسة؛ رواتب أقل من الحد الأدنى القانوني، غياب الخدمات الأساسية، وانعدام الاستثمارات في المعدات أو التطوير المهني، وبينما تحصد مؤسسات أخرى تحت مظلّة الشركة، مكاسب التطوير والدعم، تبقى الفجر في الهامش، تترنّح تحت وطأة التكاليف، وصراع البقاء في سوق ورقية تزداد انكماشًا.
واقع يهدد مستقبل الصحافة الورقية
هذه التفاصيل على قسوتها، ليست حِكرًا على “الفجر”؛ فعدد من الصحف الخاصة في مصر – بعضها كان يحتل موقعًا بارزًا في سوق الإعلام – تمر بأزمات مشابهة، تدفعها إلى تقليص عدد الصفحات، أو تقليل عدد مرات الطباعة، أو حتى الاكتفاء بالمنصات الرقمية، وفي ظل الارتفاع القياسي لأسعار الورق، الذي تجاوزت نسبة زيادته 70% خلال العامين الأخيرين، وتراجع سوق الإعلانات الورقية لصالح المنصات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، يواجه القطاع معركة بقاء لا يبدو أن ضحاياها سيتوقفون عند جريدة واحدة، خاصةً وأنها ليس ممن حالفهم الحظ واستحوذت عليهم الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهي المالك الأكبر لأغلب الصحف والقنوات الكُبرى في مصر الآن.
فقد شهدت مصر منذ سنوات زيادات تكاد تصل إلى 80% في تكلفة الطباعة ومواد النشر، بسبب تضخم الدولار مقابل الجنيه، مما فرض ضغوطًا على الهوامش المالية للصحف، وأدّى إلى رفع أسعار بيع النسخ، مما انعكس سلبًا على معدلات التوزيع والإيرادات.
في الماضي، كانت الصحف تحقق إيرادات ضخمة من الإعلانات – تصل إلى ملايين الجنيهات شهريًا – لكنها تقلّصت حاليًا إلى عُشر هذه الأرقام، في ظل التحول الرقمي، وضعف سوق الإعلان الورقي، ورغم نمو الزيارات إلى المواقع الإخبارية، فإن العائد من المنصات الرقمية لا يعوّض الخسائر الورقية، ولا تزال المبيعات الورقية تشكل النسبة الأكبر من عائدات الصحف (بين 80 – 85%)، مما يجعل أي تراجع فيها مؤثرًا جدًا.
قصة “الفجر” التي يمتد عُمرها لنحو 20 عامًا، ليست مجرّد أزمة صحيفة تتعثّر ماليًا أو إداريًا، بل هي مرآة لواقع أوسع يهدد مستقبل الصحافة الورقية في مصر؛ فمن ارتفاع تكلفة الطباعة وتراجع التوزيع، إلى عقود ملكية لا تمنح المؤسسات سوى الانتماء الشكلي دون دعم حقيقي، يجد الصحفيون/ات أنفسهم على خطوط المواجهة بلا أدوات، وبلا حماية اجتماعية أو مالية، تضمن الحد الأدنى من الاستقرار.