سنة أولى سجن.. كتاب يرصد فترة السجن الحربي في الستينيات

السجن تجربة مريرة وقاسية، لكن الأكثر مرارة سجن الكلمة أو حبسها داخل جدران قلب من امتهن الكتابة، فهي كالأنفاس بالنسبة إلى الكاتب الذي يعرف أنه لازال حياً حين يكون قادراً على سكب أفكاره في كلمات، وحين تتوقف.. يتوقف نبضه معها في التو.

في كتابه “سنة أولى سجن”، تخرج كلمات مصطفى أمين الصحفي والكاتب المصري ومؤسس جريدة أخبار اليوم، كالطلقة النافذة الموجهة لكسر أسوار سجنه الحربي، وتكون شاهدة حق على الوحشية والظلم الذي تعرض له على مدار 9 سنوات هي مدة حبسه في فترة حرجة من تاريخ مصر… الستينيات من القرن العشرين،
كل كلمة في “سنة أولى سجن” مكتوبة بصدق من قلب تجربة “أمين” الشخصية، تروي كم دفع مع آخرين ثمناً باهظاً من دمائهم وكادوا في سبيل حريتهم يفقدوا حياتهم. ثم يوثق هو محنته بشكل أدبي مشوق يجبر القارئ/ة على إنهاء الكتاب حتى صفحته الأخيرة في جلسة واحدة.
ويندرج هذا النوع من الكتب ضمن “أدب السجون”، فالكتاب مجموعة من الجوابات التي قام بكتابتها داخل السجن، واستطاع بمعاونة مجموعة من الزملاء تهريبها إلى أصدقائه وأفراد من أسرته، وحين انقضت مدة عقوبته حاول جمع الجوابات مرة أخرى ليفاجأ ببعض من وصلتهم أحرقوها خوفاً من القبض عليهم/ن إذا علم أحد بأمرها، فجمع منها ما جمع لينشره في الكتاب الذي نرشحه لكم/ن اليوم، وبعده وثق باقي تجربته في سلسلة كتب بعناوين سنة ثانية سجن، وثالثة، ورابعة، إلى خمسة، وروايات أخرى تحول بعضها إلى أفلام فارقة في تاريخ السينما المصرية.
الكاتب في سطور:
نشأ مصطفى أمين وسط أجواء أسرية شجعته على حب الصحافة والاهتمام بالعمل السياسي، فوالده كان من كبار المحامين، أما والدته ابنة أخت الزعيم سعد زغلول.
عمل مصطفى أمين كمدرس لمادة الصحافة بالجامعة الأمريكية لمدة أربع سنوات، وشكل مع أخيه علي أمين ثنائي تركا بصمة كبيرة في عالم الصحافة، فأنشأَ سويا مجلة “الحقوق”، وبعد فترة قاما بإصدار جريدة أخبار اليوم.
من أجواء الكتاب:
اليوم نعبر أول خطوات الحرية – بعد أن عشت في ظلام السجن حوالي تسع سنوات. ولا أستطيع وأنا أخطو إلى الهواء الطلق خطوتي الأولى-إلا أن أذكر الرجل الذي فتح لي باب الحرية وفتح قبل ذلك أبواب الحرية أمام مئات المعتقلين وأعاد العدالة لمئات القضاة ووفر لقمة العيش لآلاف من الذين وضعوا تحت الحراسة أو حرموا من وظائفهم.
من حق هذا الرجل أن يطلق على عصره «عصر العبور» عبور الجيوش المصري من الهزيمة إلى النصر.. وعبور الشعب العربي من الانقسام إلى الوحدة ..وعبور سمعة العرب من الهوان إلى الكرامة .. وعبور المظلومين من الظلم إلى العدل.. وعبور الخائفين من القلق والرعب إلى الطمأنينة والأمان والاستقرار.
وعبور المقيدين من الأغلال إلى حياة الأحرار..وسوف يعبر بعد هؤلاء كثيرون.
إن ستة أكتوبر أعطانا درسا عظيما وهو ماذا يستطيع الإنسان المصري أن يفعل وهو حر وبغير أن يعتقل فرد واحد أثناء المعركة سوى .. أسرى الأعداء.
تنقلت بين عدة سجون سجن القبة ثم السجن الحرب في الصحراء مدينة نصر ثم سجن القبة مرة ثانية ثم سجن الاستئناف مرة أخرى ثم سجن ليمان طرة ثم معتقل القصر العيني وفي كل هذه السجون والمعتقلات كان يقال لي أن القلم ممنوع والورق ممنوع والحبر ممنوع.
وبلغ الأمر بالعقيد صلاح مكاوي مأمور ليمان طرة أن منع دخول ورق التواليت خشية أن أكتب عليه.
وفي بعض هذه السجون كانت الكتابة ممنوعة على الإطلاق وفي سجن ليمان طرة مثلا كانت الأوامر والتعليمات التي أصدرها وزير الداخلية بشأن معاملتي ألا يوضع ورق أو حبر أو قلم في زنزانتي وأن أضعها في مكتب ضابط العنبر وأن أكتب إلى أسرتي مرتين في مل شهر وألا يزيد كل خطاب عن نصف ورقة كراس وأن أكتب الخطاب في مكتب الضابط وفي وجوده!
وكنت مسجونا نموذجيا أطيع الأوامر والتعليمات مهما كانت سخيفة وجائرة وكل تعليمات السجن سخيفة وجائرة ولكن تعليمات وحيدة قررت أن أثور عليها وأخالفها وهي الخاصة بعدم الكتابة وذلك أن الكتابة بالنسبة للكاتب أشبه بالتنفس وكان معنى هذه التعليمات الجائرة أن أتنفس مرتين كل شهر!
وبدأت بمعاونة عدد من زملائي المسجونين عملية تهريب الورق والقلم ثم عملية تهريب الرسائل إلى أخي على أمين في لندن وصديق سعيد فريحة في بيروت وعدد من الصديقات والأصدقاء خارج السجن.
وكانت عملية خطرة وشاقة ومستحيلة وكان الذين يقومون بها يعرضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع .. وكنت أعتمد على المسجونين المظلومين.. فالمظلوم يتحول إلى شهيد والشهيد يجود بآخر قطرة من دمه في سبيل هدف يؤمن به.
وكان الهدف الذي نسعى إليه هو مقاومة الظلم، وخروج الحقيقة المسجونة إلى خارج الأسوار.
وحدث أن ضبط عسكري يهرب خطابا إلى مسجون سياسي في سجن أبو زعبل فقبض عليه وفصل من الخدمة وحكم عليه بالسجن مع الشغل كل ذلك من أجل خطاب واحد!
ولكن الرجال الشجعان الذين قاموا بهذه المهام الخطرة من أجلي ومن أجل عدد من المسجونين السياسيين لم يخافوا قط.
وكان بينهم مصريون وسوريون ولبنانيون وفلسطينيون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى