بروفايل

محمد مجدي أبو زيد.. مسار صحفي شاب في تتبع الحقيقة بـ”المصادر المفتوحة”

في عالم تتزاحم فيه الأخبار الصور والمقاطع والادعاءات، اختار الصحفي الشاب محمد مجدي أبو زيد أن يقف في المنطقة الأصعب: حيث لا يقين مطلقا ولا حقيقة بلا منهج؛ بالنسبة له الكلمة ليست مجرد خبر يُنشر بل أمانة تُفحص وتُختبر وتُعاد مراجعتها قبل أن تصل إلى القارئ.

منذ دراسته في كلية الإعلام، لم يكن شغله الشاغل الظهور بقدر ما كان اهتمامه بما يجري خلف الخبر، فعمل على تقارير معمقة ووثق انتهاكات في مناطق نزاع، وتكوّن لديه اقتناع مبكر بأن الصحافة الحقيقية لا تعتمد على الصوت العالي بل على الدليل.. ومن هنا دخل أبو زيد عالم المصادر المفتوحة، حيث الشك جزء أساسي من العمل والمنهجية أساسه والنتائج تُقدَّم دائمًا باحتمال لا بيقين.

ولد أبو زيد في مدينة طنطا بمحافظة الغربية في العام 2000، ومنذ طفولته كان أميل إلى الكتابة والقراءة. وفي سن مبكرة بدأ يكتب قصصا قصيرة وشارك في أنشطة قصر ثقافة طنطا، فظهر في أحد برامج الأطفال على قناة الدلتا (القناة السادسة آنذاك) بسبب تميزه، فكانت تلك التجارب سببا في ارتباطه بالصحافة والكتابة – منذ الصغر – وحلمه بأن أصبح صحفيا.

كان لوالده مجدي أبو زيد، المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، دور كبير في هذا التوجه إذ كان يدعمه باستمرار ويحرص على إحضار الكتب والقصص له ويساعده في الكتابة.

وخلال سنوات الدراسة، كان أبو زيد متفوقا دراسيا.. فمن الصف الرابع الابتدائي حتى وصوله إلى المرحلة الثانوية العامة كان دائما “الأول” على مستوى مدرسته. وحينما قرر الالتحاق بالقسم الأدبي في الثانوية العامة من أجل أن يحقق حلمه في الالتحاق بكلية الإعلام ليصبح صحفيا، كان قراره محل استنكار واعتراض من جانب عدد من معلميه، الذين كانوا يريدون له كلية الطب.

ساند الأب نجله، وقال لمعلميه إنه يعرف ميول ابنه جيدا ويثق في تقديره للأمور، وأنه يدعمه في اختياره.. وبفضل هذا الدعم حصل أبو زيد في الثانوية العامة على مجموع 99٪، محققًا المركز الحادي والعشرين على مستوى الجمهورية، بفارق نصف درجة فقط عن العشرة الأوائل.

والتحق أبو زيد بكلية الإعلام جامعة القاهرة كما كان يحلم، وكانت الأسرة مساندة وداعمة بشكل كبير له، وكانت نصيحة والده تتلخص في أمرين؛ الأول ألا ينسى الكلية وأن يهتم بدراسته إذ كان حريصا على أن يكون من الأوائل، والأمر الثاني أن يراعي ضميره ويتقي الله فيما يكتب ويعمل.

لكن رغم التحاقه بكلية الإعلام عن رغبة وحب، إلا أنه لم يكن يمتلك تصورا واضحا في ذلك الوقت عما سيفعله لاحقا، فلم يكن مدركا حينها مجالات كلية الإعلام بشكل كاف، وكانت آخر معرفته أنها تقتصر على الصحافة المكتوبة أو العمل التلفزيوني كمذيع أو معد. ولم يكن قد سمع عن مجال مثل الصحافة المعتمدة على المصادر المفتوحة الذي تخصص فيه لاحقا.

عند مرحلة التخصص، كان أمامه خياران؛ الإذاعة أو الصحافة، لكنه لم يكن يعرف على وجه الدقة أيهما الأنسب له، فخضع لمقابلة القبول في القسمين، وقُبل فيهما معا. وكانت من بين من أجروا له مقابلة الإذاعة في ذلك الوقت الدكتورة منى مجدي فرج. ورغم التحاقه بقسم الإذاعة إلا أنه قرر بعد ذلك التحويل إلى قسم الصحافة.

في البداية كان يسأل نفسه كثيرا لماذا لم يستمر في الإذاعة؟ لكن لاحقا اكتشف أنه في المكان الصحيح والأفضل له وأصبح قسم الصحافة بالنسبة له أكثر من مجرد قسم.. كان بيتا له!

وهنا لا يمكن إغفال أثر اثنين من الأساتذة في مسيرة أبو زيد المهنية والصحفية، هما الدكتور أحمد عبد المقصود، المدرس بالقسم، الذي علّمه معنى الصحافة المعتمدة على المصادر المفتوحة، وقدم له أول محاضرة عن تقنيات تحديد المواقع الجغرافية “Geolocation”، والدكتورة سحر مصطفى، أستاذة الصحافة، التي ربته بحثيا وعلميا ودعمته في كل خطواته حتى بعد التخرج، وكانت أول من فتح له باب التدريب من خلال مركز الرأي العام في الكلية.

خلال فترة الجامعة، خاض أبو زيد تجارب متعددة وعمل فترة قصيرة في الصحافة الخبرية ثم تحول بعد ذلك إلى صحافة المصادر المفتوحة، وتخرج محققا المركز الأول على القسم، والثاني على مستوى الكلية.

وبعد التخرج تعرف أبو زيد على الكاتب الصحفي خالد البرماوي، الذي كان له فضل كبير في تطور مسيرته المهنية، حيث قدم له دعما كبيرا وفتح له أبوابا مهنية عديدة وكان أول من علّمه عمليا معنى تدقيق المعلومات (Fact-checking)، حينما ضمه لفريق عمل “بورصة الكلام” وهي فقرة ضمن برنامج “حديث القاهرة” كانت تُبث على قناة “القاهرة والناس”، حيث كانوا يجمعون الترندات اليومية ويتحققون منها باستخدام أدوات المصادر المفتوحة.

وبالتزامن مع ذلك، انضم إلى منصة “نوى ميديا”، التي لا يزال يعمل معها حتى اليوم، وتعرف من خلالها على عبد الرحمن الجلود، مؤسس ومدير المنصة، والذي يمكن القول إنه تبنى أبو زيد مهنيا منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

بدأت التجربة بدورة تدريبية للخريجين بعد التخرج، ثم شاركوا معً في مشروع بحثي، وبعد ذلك طلب منهم التعاون في إنتاج تحقيقات بيئية، فعمل مع الجلود على تحقيق حول تأثر نبات المانجو بالتغيرات المناخية. لاحقا أصبح أبو زيد عضوا في فريق “نوى ميديا”.

يعتبر أبو زيد تجربة “بورصة الكلام” و”نوى ميديا” أهم تجربتين في مسيرته المهنية، فالأولى كشفت له الإمكانات الحقيقية للمصادر المفتوحة وعرفته بمعنى تدقيق المعلومات، وطورت مهاراته البحثية بشكل كبير، سواء في البحث عبر السوشيال ميديا أو عبر محركات البحث، قبل انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، أما الثانية فيعود لها الفضل الأكبر في ما وصل إليه في مجال الصحافة والمصادر المفتوحة، حيث يتميز العمل فيها الالتزام بالمنهجية.

ولعل أبرز ما يميز الصحفي الشاب محمد مجدي أبو زيد، أنه يحاول التعلم باستمرار، ويجرب أشياء جديدة، ويسعى لأن يكون أفضل مع مرور الوقت. ولا يعتقد أن الإنسان يمكنه الحكم على نفسه، فالآخرون هم من يفعلون ذلك، لكنه يرى أن نقطة قوته تكمن في مجال المصادر المفتوحة.

ولا يمكن تفسير تركيزه على الصحافة الاستقصائية سوى كون المصادر المفتوحة بطبيعتها تُستخدم غالبًا في التحقيقات الكبرى والمعمقة، فرغم تفضيله إنجاز عدد محدود من التحقيقات سنويا، يتعاون في الوقت ذاته مع منصات مثل “مسبار” و”رصيف22″ ينشر من خلالها موضوعات معمقة غير استقصائية.

ويشار إلى أنه قبل عمله في القصص البيئية، كان يظن أبو زيد أن هذا النوع من الصحافة مجرد رفاهية أو ترف يخص دول العالم الأول، لكن عندما نزل إلى الميدان وعمل على تحقيق أو اثنين لهما علاقة بالبيئة، اكتشف أن هذه القضايا تمس حياة الناس بشكل مباشر، خاصة البسطاء منهم؛ ففي تحقيق المانجو، تبيّن أن التغير المناخي تسبب في خسارة بعض المزارعين نصف محصولهم أو ربعه، بل وتضررت منازل بعضهم بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم.

وفي تحقيق “مجازر اللحوم”، الذي وصل به إلى القائمة القصيرة لجائزة أريج، كان يسلط الضوء على كارثة بيئية حقيقية، حيث توجد أكثر من طريقة لتصريف المخلفات، وجميعها خاطئة وملوثة؛ وعند النظر إلى عدد المجازر في مصر، يمكن تصور حجم الكارثة الناتجة عن ذلك.

ولا يقتصر عمل أبو زيد على التحقيقات البيئية، فهو يعمل على تحقيقات توثق انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق النزاع، وهي تحقيقات تُستخدم أحيانا أمام المحاكم الجنائية الدولية. وقد وثق انتهاكات حدثت في غزة ولبنان على يد الاحتلال، وهو عمل بالغ الأهمية في مسار المساءلة.

ويعتبر تحقيق “مجازر اللحوم في مصر: إدارة المخلفات تتسبب في كوارث بيئية” هو التحقيق الاستقصائي الأبرز في مسيرة أبو زيد، والذي وصل إلى القائمة القصيرة لجوائز أريج 2025.

وقد أنجز أبو زيد تحقيقات أخرى عن لبنان وغزة والسودان، لكنها لم تصل إلى تصنيف “استقصائي” بالمعنى الدقيق. وعلى مستوى الجوائز، حصل على جائزتين عن تحقيق المجازر: الأولى جائزة مدرسة المناخ لصحافة المناخ العربية بالتعاون مع غرينبيس، عن فئة التحقيق الاستقصائي، وحصل فيها على المركز الأول على مستوى الوطن العربي في مايو الماضي. والثانية كانت الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة أريج لأفضل تحقيق استقصائي عربي، دون الفوز بالمراكز الثلاثة الأولى.

علّم العمل في تدقيق المعلومات والمصادر المفتوحة أبو زيد تبنّي العقلية النقدية، وألا يتعامل مع أي معلومة على أنها مسلّمة، بل ينظر إليها من أكثر من زاوية. كما تعلم من عبد الرحمن الجلود أن يتحدث أقل ويعمل أكثر، إذ كان يميل أحيانًا إلى المبالغة في عرض نفسه، ولا يزال يحاول ضبط هذه المسألة وتحقيق توازن بين الترويج المهني الضروري وعدم الإفراط في الظهور.

أكبر التحديات التي تواجه الصحفيين المصريين والعرب في وجهة نظر أبو زيد التحدي المادي وتحدي التطوير، فالعائد المادي للمهنة ضعيف، كما يعاني الصحفيون العرب في رأيه من نقص في المنهجية لأن كثيرا من الأدوات والممارسات تعلموها بأنفسهم أو استوردوها من الخارج.

ورغم صغر سنه، إلا أن أبو زيد يعمل مدربا صحفيا، وقدم أكثر من تدريب في أكثر من جهة أهمها نقابة الصحفيين المصريين رغم أنه لم يحصل على عضويتها بعد. ويدين أبو زيد بالفضل في مسار التدريب لكل من الدكتورة سحر مصطفى، التي فتحت له باب التدريب في كلية الإعلام من خلال مركز الرأي العام، والأستاذ الدكتور عثمان فكري، الذي استضافه أكثر من مرة لإلقاء محاضرات للطلاب، وكذلك الصحفية إيمان الوراقي ومبادرتها “ثورة الذكاء الاصطناعي”، التي فتحت له باب التدريب في النقابة على تدقيق المعلومات والمصادر المفتوحة.

حين يقف أبو زيد مدربا في كليته يشعر أن هذا واجب تجاه الكلية التي علمته.

أما الأشخاص الذين يدين لهم بالفضل الأكبر في حياتهم المهنية، فهم والده أولًا وأخيرًا، الذي علّمه أن الكلمة شرف وأمانة، وكان مثالًا في رفض أي عمل يخالف ضميره، ودعمه في جميع اختياراته حتى إن لم يكن مقتنعًا بها. ثم الدكتورة سحر مصطفى، التي يعتبرها في مقام والدته، والدكتور أحمد عبد المقصود، الذي يعدّه أخًا أكبر وأستاذًا، وهو أول من فتح أعينهم على عالم المصادر المفتوحة، والكاتب الصحفي خالد البرماوي، الذي منح أول فرصة عمل حقيقية بعد التخرج، وعبد الرحمن الجلود، الذي يعتبر صديقا ومديرا وأخا أكبر، ولم يبخل يوما بعلم أو دعم أو نصيحة، بل كان دائمًا يقدمه للفرص حتى وإن كانت متاحة له شخصيًا.

ويؤمن أبو زيد بأن كل ما يتعلمه الصحفي يجب أن يوظفه في المادة التي يعمل عليها، فالأداة وحدها لا قيمة لها، وإنما تكتسب معناها عندما تُدمج مع أدوات أخرى ضمن بناء منهجي واضح، يؤدي في النهاية إلى مادة متماسكة ذات فرضية واضحة.

يركز أبو زيد حاليا على تطوير نفسه أكثر في تحقيقات مناطق النزاع والتحقيقات البيئية، إلى جانب تجربة مجالات جديدة مثل تتبع الشركات والأشخاص والسفن والطائرات، وكشف حملات التضليل المنسقة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهدفه القريب هو العمل مع مؤسسات صحفية أوروبية مثل «بلينكات» و«لايت هاوس ريبورت» و«فوربيدن ستوريز»، أما هدفه الأكبر فهو حصد جوائز عالمية وأن يصبح خبيرًا في مجال المصادر المفتوحة.

أخيرا، لا يرى نفسه أبو زيد مؤهلًا لتقديم نصائح، لكنه يرى أن الصحفيين الذين يخطون خطواتهم الأولى في مهنة الصحافة عليهم أن يتعلموا كثيرا ويجربوا كثيرا ليعرفوا ما يرغبون في التخصص فيه مبكرا، لأن التخصص المبكر يختصر الطريق.. وحتى الآن، لا يزال يبحث عن تخصص دقيق داخل مجال المصادر المفتوحة، رغم ميوله الواضحة نحو البيئة وتحقيقات مناطق النزاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى