منى مجدي.. رحلة في صناعة الذات والإعلام بين الميكروفون والمدرج

من طفلة بدأت على المسرح وأمام الميكروفون إلى شابة جمعت بين محاضرات كلية الإعلام والتعامل مع الأجانب، ثم امرأة وجدت ذاتها بين ميادين الصحافة ومدرجات الجامعة، عاشت الدكتورة منى مجدي فرج رحلة علمتها أن التجربة هي المعلم الأول وأن الشغف لا يخون صاحبه.
وبالعودة إلى الجذور، خرجت الدكتورة منى مجدي من قلب حي السيدة زينب إلى العالم محملة ببذور شخصية استثنائية تشكلت في بيت مصري يجمع بين البساطة والطموح، فكانت الابنة الوحيدة وسط أربعة إخوة، لكن ذلك لم يكن امتيازًا بل مساحة أوسع كي تثبت نفسها وسط أسرة متوسطة آمنت بأن تكوين الإنسان يبدأ منذ الطفولة.
ومن هذه البيئة التي احتضنت بداياتها، انطلقت في طفولتها بين الأنشطة المدرسية كمن يكتشف عوالم جديدة كل يوم، فحرص والداها على أن تكون الهوايات جزءًا لا يتجزأ من تكوينها الأساسي، فمارست السباحة وعزف الموسيقى والإلقاء، وكل تلك الخطوط الصغيرة رسمت ملامح موهبة ظلت تنمو على مر الزمان ودفعتها دفعًا إلى مجال الإعلام.
ومع مرور السنوات، نشأت وسط أسرة تعتبر قراءة الصحف طقسًا يوميًا، فوالدها عمل سنوات طويلة في جريدة الأهرام، أما والدتها مدرسة التربية الرياضية، وهذا الخليط زرع فيها حب الحركة والانضباط ومنحها قدرة التعبير بالجسد في الحفلات المدرسية والرقصات الإيقاعية التي صنعت منها طفلة لا تخجل من المسرح ولا ترتبك أمام جمهور.
ولم تتوقف دوائر اكتشاف الذات عند حدود البيت والمدرسة، فقد كانت الرحلات ومعسكرات الكشافة محطاتها الأولى مع العالم خارج الحي، فسافرت لمحافظات مختلفة وصادقت أناسًا من مختلف الأيديولوجيات ووجدت نفسها قادرة على الاندماج بسرعة أينما ذهبت، تلك التجارب الصغيرة صنعت منها طفلة اجتماعية وقوية وواسعة الخيال.
ومن هذا الاتساع المبكر في التجربة، دخلت مبنى الإذاعة والتلفزيون للمرة الأولى وهي في الثامنة من عمرها فشاركت في برنامج مسابقات الأطفال مع بابا ماجد فوقفت أمام الميكروفون وقدمت نشرة أخبار للأطفال وتعاملت مع كبار المخرجين مثل إناس جوهر وحسني غنيم، ومن بعدها انطلقت رحلتها فشاركت في العديد من برامج الأطفال، وظهرت في برنامج كانوا في طفولتهم، كما شاركت في فوازير رمضان مع عمو فؤاد، وبرامج إذاعية مثل صوت العرب وصوت فلسطين وإذاعة الشعب وبرنامج أبلة فضيلة الذي كان له دور كبير في تشكيل حبها للصحافة والإعلام.
وبعد هذه الانطلاقة المبكرة، جاءت اللحظة التي رسخت داخلها حب الإعلام عندما أصبحت مراسلة ميدانية للأطفال وهي في العاشرة، فقفت في حديقة زينهم بعد افتتاحها تجري أول حوار في حياتها مع الدكتور فوزي فهمي، ومنذ تلك اللحظة أدركت أن للكلمة أثرًا وأن الإعلام قادر على تغيير حياة المواطنين.
ومع مرور الوقت، لم تكن المرحلة الجامعية بالنسبة لها مجرد فصل دراسي جديد، بل كانت بداية عبور حقيقي نحو الوضوح والنضج، فبعد الثانوية العامة التحقت بكلية الإعلام كما حلمت منذ الطفولة، لكنها لم تكتف بالالتحاق بالجامعة بل قررت بناء مسارها العملي بالتوازي مع الدراسة، فطلبت من والدها أن تبدأ حياتها العملية في تلك الفترة فشجعها ووافق على أن تعمل بأحد الفنادق لتطوير لغتها واكتساب خبرات جديدة.
وانطلاقًا من هذا التشجيع العائلي، كان فندق شيراتون القاهرة أول بوابة واسعة تطل منها على عالم مختلف، فكانت تذهب صباحًا إلى المحاضرات بكلية الإعلام ثم ترتدي ثوب الجدية وتتوجه إلى عملها مساءً، وهناك ومع الاختلاف الثقافي والتواصل الدائم مع الأجانب اتسعت رؤيتها للعالم واكتسبت ثقة كانت تعرف أنها ستحتاجها يومًا ما، كما تعلمت مهارة ظلت رفيقتها حتى اليوم في عملها الأكاديمي وهي السرعة في الكتابة.
وتواصل ارتباطها بالمؤثرين في رحلتها، فقد ظلت أبلة فضيلة مثلها الأعلى، ولذلك عندما وصلت إلى السنة الثالثة واختارت تخصص الإذاعة والتلفزيون قررت أن يكون مشروع تخرجها امتدادًا لذكرياتها معها، فاقترحت استضافتها داخل استوديوهات كلية الإعلام بجامعة القاهرة لتتحدث عن طفولتها، وأنجزت الفكرة والتنفيذ بنفسها واعتبرته فيما بعد من أجمل ما قدمته طوال دراستها.
وبينما كانت خطواتها الأكاديمية تتشكل، بقيت الأسرة سندها الأول، فالأب رأى في ابنته قوة تستحق الدعم، والأم غرست فيها استقلالية مبكرة وقدرة على اتخاذ القرار، لذلك أصبحت الجرأة جزءًا لا يتجزأ منها، وكانت التحديات في بدايات الطريق طبيعية لكنها بالنسبة لها لم تكن عقبات بل دروسًا تتعلم منها يومًا بعد يوم، فالجمع بين الدراسة والعمل لم يكن سهلًا لكنها أدركت أن هذه التجربة أصلب من أي شهادة.
ومن هذا الإصرار الواضح، كان حلمها أن تتخرج ثم تقدم أوراقها لماسبيرو لتصبح مذيعة تحمل صوت الناس إلى صناع القرار، وبالفعل تخرجت عام 1990 وهو العام نفسه الذي دخلت فيه قنوات ART مصر، فأجرت اختبار كاميرا واجتازته وبدأت في رسم خططها، إلا أن خطاب التعيين في الجامعة جاء في الوقت نفسه الذي قُبلت فيه في شبكة القنوات.
وبين مفترق طرق دقيق، كانت على وشك الاعتذار عن العمل الأكاديمي، لكن والدها طلب منها أن تجرب العمل الأكاديمي لمدة عام واحد، فطبقت نصيحته ثم أحبت الجامعة والطلبة وأدركت أن العمل الأكاديمي ليس بديلًا عن حلمها كإعلامية بل امتداد مختلف له.
ومن خلال مسيرتها الأكاديمية، تروي بأن كثيرا من الأساتذة تركوا أثرًا كبيرًا في تشكيل رؤيتها، مثل د محمد الوفائي ود عواطف عبد الرحمن ود جيهان رشتي ود فاروق أبو زيد، وكذلك أساتذة من خارج الجامعة مثل مفيد شهاب ومحمود سلطان، فالمرحلة الجامعية بالنسبة لها ليست محطة ماضية بل رحلة مستمرة كل يوم فيها اكتشاف جديد وكل دفعة طلاب تفتح نافذة لعالم يتغير أسرع مما نتخيل.
وانطلاقًا من هذا الشغف بالبحث والمعرفة، كانت تجربتها في الصحافة الاستقصائية أحد الأبواب التي أسرت قلبها، فشاركت في تطوير مناهجها داخل كلية الإعلام وتلقت تدريبًا على يد مارك هانتر مؤسس منهج تدريس الصحافة الاستقصائية وصاحب أول كتاب مترجم له، فوجدت أن الصحافة الاستقصائية قريبة من روح البحث العلمي فهي منهج وتفكير وحقائق ومسؤولية.
وفي النهاية تقدم الدكتورة منى مجدي فرج خلاصة تجربتها فتوصي بأن يجرب الطلاب قبل أن يتخرجوا وأن ينزلوا إلى العمل بأنفسهم لأن التجربة هي التي تصنع الرحلة كما صنعت رحلتها.



