ندى جمال.. صوت نسائي في الصحافة الجندرية وصناعة المحتوى العربي

في كل مرة كانت تكتب فيها موضوع تعبير طويل وهي طفلة، لم تكن تراه مجرد واجب مدرسي، بل فرصة لتلمّس العالم من حولها، بينما كان زملاؤها يهربون من الكتابة، كانت ندى ترى فيها ساحة لاكتشاف الذات، ومتنفسًا لرصد التفاصيل اليومية الصغيرة التي كانت تدمجها ببراعة في موضوعاتها.
تشكل لديها شعور داخلي بأنها ستكون يومًا ما جزءًا من هذا العالم الكبير الذي اسمه “الإعلام”، حتى وصلت إلى العمل في منصات عريقة منها: منصتي الشرق للأخبار بلومبيرج، ومنصة Quiektake و”الشرق ديسكفري”.
لم يكن ذلك حلمًا طفوليًا عابرًا، بل بوصلتها الحقيقية التي سارت خلفها بخطى ثابتة، دعمتها أمٌ مؤمنة بها، ومجتمع نسوي شكل لها مظلة الأمان والدعم، فصارت هي الآن من تحكي قصص الآخرين بعد أن صنعت قصتها بنفسها.
بدايات الدراسة وحلم الصحافة
تخرجت ندى من كلية الآداب قسم الإعلام بجامعة الإسكندرية، دفعة 2019، وكانت الأولى على دفعتها. منذ طفولتها، أظهرت ميلًا واضحًا نحو الكتابة، خاصة في موضوعات التعبير التي كانت تعدها بعمق ومعنى، بينما كان زملاؤها ينفرون منها. كانت تمزج بين الأحداث اليومية وموضوع التعبير، وهو ما لفت انتباه مدرسيها ووالدتها، التي لطالما آمنت بموهبتها. في المدرسة، كانت تشارك في إعداد الإذاعة المدرسية وتختار المشاركين فيها، ممارسة مبكرة للمهنة الإعلامية التي لم تكن تعرف آنذاك أنها تنتمي إليها.
في المرحلة الإعدادية، بدأت تقرأ الصحف اليومية رغم كلفتها التي كانت أعلى من مصروفها، لكنها كانت حريصة على متابعة الجرائد الحكومية مثل “الأخبار” و”الأهرام” و”الجمهورية”، ولاحقًا، الصحف المعارضة كـ”المصري اليوم” و”اليوم السابع”، وكانت طفولتها متزامنة مع ظهور برامج أثرت في وعيها الإعلامي، مثل “قلم رصاص” لحمدي قنديل، و”في الممنوع” لمجدي مهنا، ثم برامج التوك شو مثل “البيت بيتك”، ما عزز يقينها بأنها ستكون جزءًا من هذا العالم.
أسرتها كانت مهتمة بالمناظرات التي عرفت في التسعينات وبداية الألفينات، ومنها مناظرات نوال السعداوي، وكانت تشاهدها معهم، فيما كانت جدتها تقول دائمًا: “نفسي أشوفك زي منى الشاذلي”.
التحقت بمدرسة راهبات كاثوليك، والتي وفرت لها مساحة لاكتشاف قدراتها، لكن التجربة كانت منقوصة بسبب غياب الوضوح. في المرحلة الثانوية، انتقلت إلى مدرسة حكومية، وكانت تلك الفترة مهمة لاختبار قدراتها في الكتابة والنقاش، خصوصًا في أجواء سياسية نشطة. وقتها، بدأت تدمج بين الكتابة والسوشيال ميديا، وأطلقت صفحة ساخرة بعنوان “قانون ساكسونيا”، حققت تفاعلًا كبيرًا، ما دفع إحدى صحفيات اليوم السابع للتواصل معها، وهو ما ملأ والدتها فخرًا بها.
في الجامعة، كانت تحرص على حضور الفعاليات الثقافية والفنية إلى جانب الدراسة، وقد أبهرتها قدرتها على التفوق الأكاديمي في السنة الأولى، فحصلت على تقديرات تتراوح بين جيد جدًا وممتاز.
انطلاقات مهنية
بدأت العمل الصحفي مبكرًا، بعد السنة الأولى مباشرة، مع مؤسسة “ولاد البلد للخدمات الإعلامية”، وهي من أهم التجارب في الصحافة المحلية. عملت هناك لمدة أربع سنوات، في الصحافة والسوشيال ميديا، حتى أصبحت نائب مدير السوشيال ميديا. كانت أصغر أعضاء الفريق سنًا، لكن المؤسسة دعمتها أكاديميًا ومهنيًا، وسافرت معهم إلى محافظات مختلفة، ما أتاح لها التواصل مع صحفيين من خلفيات متنوعة.
رغم تخوف والدتها في البداية، إلا أن حصول ندى على أول راتب (1200 جنيه) بدد الشكوك وأكد جديتها، فزاد دعمها لها، خاصة في الموازنة بين الدراسة والعمل. وعن هذه المرحلة تقول ندى في حديثها للمرصد: “لاحقًا كتبت في منصات مختلفة مثل “+18″ مع دعاء سلطان، و”ساسة بوست”، وفي عام 2017، بدأت الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي، وبشكل عام أسهمت والدتي في تأسيس كل ما بَنَيت عليه لاحقًا، من القيم التعليمية في المدرسة، إلى الأدوات التكنولوجية التي وفرتها لها بثقة كبيرة، وفي عام 2018، خضعت لتدريبات عديدة في التحقيقات الاستقصائية المعمقة”.
ورغم أن نتائج هذه التدريبات لم تظهر فورًا، إلا أنها أدركت أهمية تخزين المعرفة وتوظيفها لاحقًا عندما تنضج الفكرة وتتوافر الفرصة، وهو ما تعتبره درسًا مهمًا بألا يتسرع الصحفي/ة في تطبيق ما تم تعلمه.
محطات فارقة:
واحدة من أبرز محطات التكوين المهني لدى ندى كانت ورشة تدريبية في تونس عام 2017، حول إنتاج الأفلام الوثائقية المرتبطة بالجندر. من هنا، بدأت ندى تنأى قليلًا عن الصحافة المكتوبة، معتقدة في البداية أنه انفصال، لتدرك لاحقًا أن كل هذه الفروع تخدم بعضها.
بدأت تركز أكثر على صناعة الوثائقيات، والكتابة النسوية، وموضوعات الجندر، خاصةً أن أكثر الداعمين لها في مراحل حياتها كن نساء: مدرسات، والدتها، جدتها، وزميلات في العمل، ولهذا شعرت أنها قادرة على العطاء أكثر في هذه المساحة.
نشرت أعمالها في “مدى مصر” و”فايس عربية”، وبدأت تكتب عن موضوعات تبدو عادية، لكنها كانت ترتدي “نظارة الجندر” لتُظهر الأبعاد الإنسانية فيها. كتبت مثلًا عن حق الرؤية دون تهميش للرجل، و لتسليط الضوء على تأثيره على النساء والأطفال، كما كتبت عن جنسانية ذوي القدرات الخاصة، حيث يتعرض النساء منهن لتمييز مضاعف، وتكتب حاليًا في منصات الشرق للأخبار بلومبيرج، ومنصة Quiektake و”الشرق ديسكفري”.
بعد ورشة تونس، أنتجت ندى عدة أفلام وثائقية مع “مدى مصر”، وارتبطت أكثر بالتصوير الصحفي. كان أحد أفلامها بعنوان البحر غضبان مبيضحكش، تناول أزمة مُلاك الشاليهات على شاطئ الماكس بالإسكندرية، والتهديدات التي واجهوها بالإزالة، وقد أُدرج الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة للفيلم القصير عام 2019، رغم ما واجهه من صعوبات في التصوير ومحدودية الإمكانيات، لكن قوة الفكرة وتوقيت تناولها كانا فارقين.
خلال فترة كورونا، عملت ندى مع “مدى مصر” ومع الإعلامي محمود سعد في برنامج “باب الخلق”. وبسبب ظروف الجائحة، كانت تقوم بكل مراحل الإنتاج بنفسها: الفكرة، التصوير، كتابة السكربت، وحتى المونتاج. ثم عملت في برنامج “بتوقيت مصر”، حيث أنتجت تقارير ميدانية رغم التحديات، من غياب تصاريح التصوير إلى مقاومة الشارع نفسه لفكرة التصوير.
تحديات مهنية:
تعتبر ندى إن أحد الموضوعات التي عملت عليها وتفتخر كان جنسانية ذوي القدرات الخاصة كما عما قدمت موضوعات التحرش، وتقول: “جميعها كانت صعبة التناول، خصوصًا مع مجتمع غير متقبل لتناولها من صحفية تكتب باسمها الحقيقي، وبشكل تلقائي يتم إسقاط ما تكتبه على حياتها الشخصية” كما واجهت صعوبات في التعامل مع بعض المصادر، وصلت إلى تحرش أو مواقف سلبية، لكنها تغلبت عليها عبر تدريبات ساعدتها في تطوير أدواتها.
رؤية للمستقبل وطموحات لا تنتهي:
ترى ندى أن الصحافة في مصر تمر بأزمة مؤسفة، حيث تحولت مؤسسات عريقة إلى مادة للسخرية، وصحفيون مرموقون أصبحوا بلا عمل. ترى أن كثيرين اضطروا للاتجاه إلى التسويق أو السوشيال ميديا، لأن الصحافة لم تعد مهنة تضمن العيش الكريم. ومع تسارع الزمن، يشعر الصحفي بأنه غير كافٍ، لأن المهنة باتت تتطلب مهارات متعددة، بينما يظل كثيرون لا يجيدون سوى الكتابة فقط.
لذا، تسعى ندى دائمًا لتطوير نفسها، بالاطلاع على صناعة الأفلام الوثائقية ومتابعة ما توصلت إليه، حتى لا تظل حبيسة التكرار، بل تستلهم أفكارًا جديدة من القراءة والمشاهدة والتغذية البصرية.
تطمح ندى أن تكون واحدة من أهم صناع المحتوى في الوطن العربي، وهي تسير بخطى واثقة نحو تحقيق ذلك.