«عاش هنا».. الكاتب الصحفي رجائي الميرغني «سيرة أطول من عُمر»

«عاش هنا».. الكاتب الصحفي رجائي الميرغني «سيرة أطول من عُمر»

 

كانت الساعة 12 ظهرًا، حينما رن هاتف الكاتبة الصحفية خيرية شعلان، وحينما توجّهت إليه، وجدت رقم صاحب العقار، الذي لم يعتد أن يطلبها إلا في وجود أمر مهم.

 

فتحت «شعلان» الهاتف، وسألته بلهفة: «فيه حاجة؟»، فكان رده: «فيه ناس عاوزينك مين معرفش»، فردت عليه قائلة: «أدّيهم التليفون»، حتى جاءها صوت ودود يقول: «صباح الخير إحنا من وزارة الثقافة، حضرنا لنعلق لافتة الأستاذ رجائي الميرغني على مدخل العقار»، فردت السؤال: «أي لافتة؟»، وجاء الرد سريعًا: «عاش هنا».

 

لم تصدّق «شعلان» ما سمعته في تلك اللحظات، لقد حلمت كثيرًا أن يتم تكريم زوجها الكاتب الصحفي الراحل رجائي الميرغني، حتى ولو بلافتة صغيرة تُعلّق على باب العقار، يخلّد تاريخه واسمه، وحان وقت تحقيق الحُلم.

 

غادر الموظّف وفي عينيها دموع الفرح، وهي تقول: «شوفت بقي يا رجائي، كنت عاوزة أزورك أفضفض معاك، فجئت إليّ كريمًا مُكرّمًا كما تعودناك.. أسعدت قلبي، وقلب أولادك، وقلوب جيراننا، وكل من عرفك».

 

من هو الكاتب الصحفي والشاعر والرسام الراحل رجائي الميرغني؟

 

ميلاده وعائلته

 

رجائي محمد الميرغني عبدالعال، ابن محافظة المنيا، الكاتب الصحفي والشاعر والرسّام، ولد في 25 سبتمبر 1948، لعائلة تمتد جذورها في عُمق التاريخ المصري والعربي، جدّه الأكبر كان مُصلحًا اجتماعيًا كبيرًا بين أهل الصعيد، وشيخًا وطنيًا، أورث أبنائه وأحفاده حُب الوطن، والذود عنه، والتسامح، والعفو، والفداء، وخدمة المُحتاج.

 

حصل والد «الميرغني» على شهادة عالمية الأزهر الشريف في 3 فبراير 1938، وعمل محاميًا شرعيًا بعد الحصول عليها، واُختير عضوًا في اللجنة الوطنية التي أدارت شؤون بندر المنيا، وذلك أثناء ثورة 1919، وأشار المؤرخ عبدالرحمن الرافعي في كتابه تاريخ مصر القومي من 1914 حتى 1921، إلى الدور البطولي الذي لعبه الشيخ «الميرغني» في أحداث ثورة 1919 في بندر المنيا، واللجنة التي حكمت البندر في هذه الأثناء.

 

خاض «الميرغني الكبير» انتخابات مجلس النواب، وتصدّر الدعوة إلى الأفكار المستنيرة ضد الفقر، والجهل، والمرض بالمحافظة، وكان شديد الإيمان بالوحدة الوطنية؛ فكان يُلقي خطبه في الكنائس والمساجد على السواء.

 

‏واصل الكاتب الصحفي رجائي الميرغني مسيرة والده الشيخ محمد الميرغني في التجرّد، والوطنية، وتلقّي العلم، والبحث، والثقافة.

 

المسيرة التعليمية

 

أمضي «الميرغني» مراحل تعليمه الأولى بالقاهرة، بمدارس منطقة حدائق القبة، واستكمل المرحلة الثانوية في مسقط رأسه المنيا، مع انتقال الأسرة للعيش هناك، ثم عاد إلى القاهرة مع دخول الجامعة، والتحق بقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظلّ بها حتى رحيله.

 

تخرّج «الميرغني» من قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام 1970 بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف، وأسهم في الحركة الوطنية للطلاب منذ تفجرها في فبراير 1968.

 

مشواره الصحفي

 

على الرغم من اختياره ضمن سلك التدريس بالجامعة لتفوّقه، إلا أن حُلم الصحافة راوده، وخطفته نداهة صاحبة الجلالة، وعمل «الميرغني» محررًا بقسم الأخبار بوكالة أنباء الشرق الأوسط عام 1970، وفضّل العمل في الصحافة.

 

تنقّل الكاتب الصحفي الكبير بين مختلف إدارات التحرير الصحفي، وتخصص في الشؤون العربية والفلسطينية، وعمل نائبًا لرئيس التحرير بوكالة أنباء الشرق الأوسط، وذلك اعتبارًا من 2007، ثم مسؤولًا عن شبكة المراسلين للوكالة داخل مصر وخارجها حتى 2013.

 

عمل أيضًا مديرًا لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في العاصمة اليمنية صنعاء، خلال الفترة من 1988 إلى 1992، وتابع أهم أحداث هذه الفترة من تاريخ اليمن والمنطقة، وكان أبرزها تغطيته لفعّاليات الوحدة اليمنية بين اليمن الشمالي والجنوبي 1990/3/22، ومؤتمر المصالحة العراقي الكويتي في المملكة العربية السعودية، قبيل احتلال العراق للكويت 1990/8/2، وكان الصحفي المصري الوحيد الذي قام بتغطية الزيارة التاريخية للرئيس المصري حسني مبارك لليمن/ تعز 1991.

 

قاد «الميرغني» مع زملائه بوكالة أنباء الشرق الأوسط، حملة رفض إلحاق مؤسستهم العريقة لوزارة الإعلام عام 1984، والتي انتهت بإعلان الحكومة تخلّيها عن هذا المخطط.

 

وآخر المناصب التي عمل بها قبل رحيله، كانت نائب رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، والأمين العام المساعد للجنة الدائمة للحريات باتحاد الصحفيين العرب، منذ عام عام 2001، وأيضًا المنسق العام للائتلاف الوطني لحرية الإعلام.

 

مشواره النقابي

 

انخرط الكاتب الصحفي الكبير في العمل النقابي منذ عام 1980، وشارك في مختلف معارك الدفاع عن حرية الصحافة واستقلال النقابة، واُنتخب عضوًا في مجلس نقابة الصحفيين لدورتين متتاليتين لمدة 8 سنوات، بدءًا من عام 1995 وحتى عام 2003، فكانت الدورة الأولى من 1995 حتى 1999، والتالية من 1999 حتى 2003.

 

تميّز «الميرغني» بإسهامه الفكري والقانوني في التصدّى لـ «قانون اغتيال حرية الصحافة» رقم 93 لسنة 1995، وشغل منصب وكيل أول نقابة الصحفيين خلال الدورة من عام 1999 وحتى 2003، واُختير وكيلًا أول للنقابة، ورئيسًا للجنة القيد.

 

أسهم الكاتب الصحفي الراحل ضمن لجنة صحفية قانونية، ضمّت الأساتذة أحمد نبيل الهلالي، والمستشار سعيد الجمل، والدكتور نور فرحات، وحسين عبدالرازق، ومجدي مهنّا، في صياغة إعداد «مشروع قانون الصحافة»، في مواجهة مشروع القانون الحكومي إبان أزمة القانون 93.

 

وشارك أيضًا مع الصحفيين صلاح الدين حافظ وحسين عبدالرازق، في صياغة مشروع ميثاق الشرف الصحفي، الذي أقرّته الجمعية العمومية في يونيو 1996، وتولّى مسؤولية الحفاظ على تراث النقابة من الدوريات التي يرجع تاريخ بعضها لزمن الثورة العرابية، وكذلك الكتب القديمة والتاريخية، التي ضمّتها مكتبة النقابة قبل هدم مبناها القديم بشارع عبدالخالق ثروت، حتى تم إعادتها للمقر الجديد الموجود حاليًا.

 

ساعد «الميرغني» أساتذة من كلية الفنون الجميلة، في فك ونقل جدارية الفنان «فتحي محمود»، التي كانت تزين مدخل مبنى النقابة القديم، وصيانتها، والحفاظ عليها بالمقر المؤقت للنقابة بالأزبكية، حتى تمت إعادتها إلى المبنى الحالي، وتركيبها في قاعة الاجتماعات الرئيسية بالدور الرابع بالنقابة.

 

أسهم الكاتب الصحفي رجائي الميرغني في تطوير إجراءات القيد بالنقابة، واعتماد معايير موضوعية للعضوية، والتي كانت تعتمد على أساليب غير مناسبة للقيد بهذه النقابة العريقة، وكان أبرزها نظام «الكوتة» في اختيار الأعضاء بديلًا عن المعايير المهنية والصحفية السليمة.

 

وشارك في لجنة الإشراف على إنشاء واستلام مبنى النقابة الجديدة، وتحديث النظام الإداري والخدمات المُقدّمة للأعضاء، وأسهم في أعمال اللجنة المكلفة بإعداد مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر، التي رأسها المستشار عوض المر، رئيس المحكمة الدستورية الأسبق.

 

كما اختارته اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام الرابع للصحفيين، برئاسة النقيب جلال عارف، أمينًا عامًا للمؤتمر، بمشاركة النشطاء من الجمعية العمومية خلال الفترة من 23 إلى 25 فبراير 2004، وكان من أهم المؤتمرات العامة للصحفيين/ات بما خلص إليه من نتائج وأبحاث ودراسات، كانت الأولى في تاريخ هذه المؤتمرات، وحصل الصحفيون/ات في ختام المؤتمر على «الوعد الرئاسي» من الرئيس السابق حسني مبارك، والذي أعلنه وزير الإعلام -حينها- صفوت الشريف، بمنع حبس الصحفيين/ات في قضايا النشر.

 

التكريم

 

كرّمته الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية ضمن 34 شخصية عامة، أسهمت في تعزيز جهود التحول الديمقراطي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة 2010 «جائزة الحريات».

 

حصل «الميرغني» في ديسمبر 2014 على درع الشهيدة ميادة أشرف لـ «حرية الصحافة» من الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية، بالتعاون مع نقابة الصحفيين الإلكترونية، في ختام أعمال المنتدى الرابع للصحافة الإلكترونية، تقديرًا لجهوده في العمل الإعلامي ومناصرة الحريات، بالإضافة إلى جهوده في وضع التشريعات الإعلامية والصحفية في مصر على مدار العقود الماضية.

 

كما أهدته جامعة الأهرام الكندية درعها عام 2013، عن دوره في الدعم الأكاديمي لطلاب كلية الإعلام بالجامعة، وشارك أيضًا في مراجعة، ومناقشة العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات المختلفة وكلية الإعلام بجامعة القاهرة.

 

‏واختارته نقابة الصحفيين كمُحكّم في مسابقات التميّز الصحفي لسنوات طويلة لعدد من فروع المهنة، وحظيت ملاحظاته بالإسهام في تطوير لائحة تنظيم المسابقة، كما نال العديد من الأوسمة والدروع وشهادات التقدير من مؤسسات، وهيئات مدنية، وصحفية، مصرية وعربية، ودولية؛ لدوره البارز في أنشطة المجتمع المدني المتصلة بقضايا حرية التعبير والصحافة، وتطوير الإعلام، وتكريمًا لمشواره النقابي والصحفي المتميّز، وانحيازه لحرية الصحافة، والدفاع عن حق التعبير والنشر.

 

حرب أكتوبر

 

استطاع «الميرغني» أن يضيف لتاريخه المُشرّف ملمحًا كبيرًا، ظلّ يفخر به حتي رحيله، وهو مشاركته  كجندي في حرب أكتوبر 1973، خلال الفترة من 1972 إلى 1975، وقاتل ضمن صفوف الكتيبة 16، اللواء 16 مشاة، تحت قيادة الفريق عبدرب النبي حافظ ورئاسة المشير محمد طنطاوي.

 

كما ‏تم الاستعانة به خلال تجنيده في عمليات الاستطلاع والمأموريات الخاصة خلف خطوط العدو، والاستفادة من خبرته كصحفي في جمع المعلومات ورصد الوقائع.

وكانت معركة «المزرعة الصينية» بالدفرسوار التي تكبّد فيها العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، أحد أهم المعارك التي شارك فيها مع كتيبته، وأصيب بشظية مدفعية خلال هذه المعركة، وعاد لأرض المعركة مرة أخرى بعد تضميد إصابته، والتي لم يتم استخراجها حتى رحيله، وذهبت معه وسامًا في عالم خلوده.

 

وثّّق «الميرغني» تجربته الثرية في الحرب، بكتابة عمل روائي طويل، تناول فيه بطولات المواطن المصري في حرب أكتوبر، و‏نشرت عديد من  الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي فصولًا من رواية أكتوبر في ذكرى الحرب خلال السنوات السابقة.

 

و‏شاء القدر أن يرحل الميرغني قبل أن تخرج رواية أكتوبر للنور.

 

أنشطة صحفية عربية

 

اُختير «الميرغني» أمينًا عامًا مساعدًا للجنة الدائمة للحريات، باتحاد الصحفيين العرب عام 2001، وحصل على ميدالية الاتحاد في يوبيله الذهبي؛ تقديرًا لجهوده الصحفية على المستويين المصري والعربي.

 

كما شارك في المؤتمر التأسيسي للمنظمة العربية لحرية الصحافة، الذي عُقد في لندن عام 2000، وأيضًا اختارته لجنة تفعيل ميثاق الشرف الصحفى مقررًا لأعمالها في يونيو 2007، وشارك مع النقابة في توثيق العلاقات النقابية المصرية/العربية بما أسهم في إيجاد تواصل وتعاون في القضايا والهموم العربية المشتركة، وتقديم خبرات النقابة المصرية لأشقائها العرب على كافة المستويات.

 

مؤلفات وكتابات

 

‏أعد كتاب «الصحفيون في مواجهة القانون 1993»، الذي صدر عن مؤسسة دار الهلال، ونشر في عام 2005 كتاب «نقابة الصحفيين» ضمن سلسلة النقابات المهنية، التي يشرف عليها مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام.

 

له العديد من الأحاديث الإذاعية، والتليفزيونية، والمقالات، والدراسات المنشورة بمختلف الدوريات، والصحف، والمواقع الصحفية، حول قضايا الصحافة والتطوّر السياسي والنقابي، وحصاد المؤتمرات العامة للصحفيين.

 

كان له عمود أسبوعي ثابت في جريدة البديل اليومية بعنوان «قاب قوسين»، خلال الفترة (2008-2009)، وانتهى قبل رحيله من إعداد كتاب أكتوبر، ومؤلف شعري باسم «رباعيات الزمن البخيل»، وتعهّدت أسرته بنشرهما قريبًا.

 

مجالات أخرى عامة

 

تولّى رجائي الميرغني منصب المنسق العام للائتلاف الوطني لحرية الإعلام، الذي شارك في تأسيسه في أعقاب ثورة 25 يناير (أبريل 2011)، وهو إطار ديمقراطي، يستهدف تجميع وتنسيق جهود منظمات مجتمع مدني، وناشطين/ات إعلاميين/ات مهتمين/ات بتطوير الإعلام المصري، على قاعدة الاستقلال عن مختلف أشكال التبعية، والاحتواء الحكومي والسياسي والاقتصادي.

 

‏في عام 2012، أعد خطة مفصلة لإنشاء هيئة وطنية للتنظيم الذاتي للصحافة ووسائل الإعلام المصرية بالتنسيق بين نقابة الصحفيين ومكتب اليونسكو بالقاهرة، تعد الأولى فى مجالها فى مصر، لإيمانه بضرورة تكوين هيئة مستقلة للإعلام غير تابعة للدولة، وتكون كل الصحف والمنظمات الإعلامية مرتبطة بهذه الهيئة، وتابع من أجل ذلك تجارب الدول التى أسست هذه الهيئة، والتي تبلغ أكثر من 80 هيئة حول العالم، كما نظّم عددًا من ورش العمل في نقابة الصحفيين وبعض المؤسسات الصحفية، للتدريب على هذا النظام.

 

فنان وشاعر

 

لم يكن الكاتب الصحفي رجائي الميرغني صحفيًا قديرًا فقط، بل كان فنانًا مبدعًا، وشاعرًا متمكنًا، وكاتبًا يملك زمام الكلمة، ومارس النقد الأدبي والفني.

 

أهدى «الميرغني» نقابة الصحفيين إحدى لوحاته الفنية «فلسطين الشهيدة»، وتم وضعها في صدارة الدور الأول المبني الحالي للنقابة، كما تميّز باتساع الفكر، وفهم القوانين والتشريعات، خاصة المتعلّقة بالصحافة.

 

وكان يهوى الرسم وعمل اللوحات الفنية والتشكيلية بمختلف أقلام الرسم، وأبدع في أعوامه الأخيرة فن الجرافيتي.

 

تزوج «الميرغني» عام 1985 من الكاتبة الصحفية خيرية شعلان، وهو والد الإعلامية سوسنة الميرغني، التي تعمل بقطاع الأخبار بالتليفزيون المصري، والمهندس حاتم الميرغني الخبير الزراعي.

 

تقول زوجته خيرية شعلان، إن الكاتب الراحل حظي بثلاثة أحفاد، هم فرحة وآدم خزعل ونبيل حاتم، ونالت فرحة وآدم محبته وتمتعا بصحبته الرقيقة الدافئة، حتى رحيله في 2020/6/3، وولد نبيل عقب رحيله، لكنه ترك لهم تاريخًا مُشرّفًا، وأودع فيهم لمساته الفنية والإنسانية الرفيعة.

زر الذهاب إلى الأعلى