كتابات صحفية حركت المياه الراكدة وغيّرت الواقع

القلم سلاح، والكتابة رسالة قد تصنع فارقًا جوهريًا أو تُحدث تغييًرا حقيقيًا في المجتمع. حقيقة أدركها كثير من الصحفيين/ات، وعرفوا خطورة الكلمة، فاجتهدوا في توصيل صوت المجتمع إلى أصحاب السلطة، وكانت موضوعاتهم الصحفية دافعًا لتحريك مياه راكدة أو لحل أزمة بعد اتخاذ المسؤولين قرارات صارمة لتغيير أوضاع خاطئة.

 

وبالتزامن مع العاشر من يونيو كل عام، وهو اليوم الذي اختارته الجمعية العمومية للصحفيين عام 1995 ليكون عيدًا سنويًا لحرية الصحافة، وهو اليوم الذي انتفض فيه الصحفيون ضد القانون رقم 93 لسنة 95، وأطلق عليه المجتمع الصحفي كله “قانون اغتيال حرية الصحافة”، فى مواجهة امتدت لأكثر من عام، وفي ذكرى هذا اليوم، يسلط المرصد المصري للصحافة والإعلام، الضوء على بعض الموضوعات الصحفية التي غيّرت الواقع وحرّكت المسؤولين لاتخاذ قرارات صارمة.

 

هند خليفة صحفية جريدة الفجر

 

قبل أربع سنوات، قادت الصدفة صحفية جريدة الفجر “هند خليفة”، إلى إحدى صفحات موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، تدعو إلى التعدد في الزواج، وتستقطب النساء والرجال إلى ذلك الفكر، تتبعت القصة حتى تواصلت مع صاحب الصفحة الأصلي يدعى”الشيخ طارق”، متقمصة شخصية سيدة مطلقة لتفاجئ بعرض الزواج العرفي عليها من أحد رجال الصفحة من مؤيدي التعدد في الزواج.

 

حينها قررت”خليفة” تقصي حقيقة الأمر بشكل أعمق من مجرد مكالمة هاتفية أو محادثة إلكترونية، تم الاتفاق على الرؤية الشرعية فى اليوم التالى بمسجد بمنطقة عزبة النخل عقب صلاة العصر، وقبل المقابلة ارتدت صحفية الفجر النقاب لتخفي ملامح وجهها وتوجهت إلى مقر الجمعية السلفية التابع لها هذا الكيان في منطقة عزبة النخل بالقاهرة، وحينما دخلت إلى مكتب الشيخ طارق، وجدت أمامه على سطح المكتب عدة آلاف من الجنيهات على شكل “رزم”، وبدأت اللقاء مع “العريس” الذي أشار إلى أنه يرغب فى الزواج من أرملة حتى ترعى طفلًا يتيمًا، وتنال ثواب تربيته.

 

باستكمال البحث حول خبايا الصفحة اكتشفت “هند” أن تلك المجموعة تقوم بتصوير حلقات حول نشر ثقافة التعدد، وتحرت الدقة بمزيد من التفاصيل فسألت عن”الشيخ طارق” أهالي المنطقة لتكتشف أنه اعتاد على ذلك منذ خمس سنوات بعد اتجاهه للعمل بالدعوة.

 

استجابة بعد النشر

 

عقب نشر التحقيق المنشور بتاريخ 24 أبريل 2021، بعنوان “تجربة شخصية لمحررة «الفجر» تكشف: سوق الجواري على الإنترنت”، تلقت صحفية “الفجر” اتصالًا هاتفيًا من أقارب أحد الأشخاص المنتمين لتلك الصفحة يستنجد بها ويطلب منها التدخل بعد أن تم إلقاء القبض عليهم، وعلمت الصحفية بصدور قرار بإلقاء القبض على القائمين على تلك الصفحة وإغلاقها تماما، استجابة لمغامرتها الصحفية التي قامت بها للكشف عنهم.

 

الصحفية راندا خالد وحل أزمة قرية العطواني

 

من “هند خليفة” إلى الصحفية “راندا خالد” التي نجحت من خلال صفحات جريدة الوفد، في تسليط الضوء على العديد من المشكلات المجتمعية وهموم الأهالي في محافظتها “أسوان” من خلال تقارير صحفية حرّكت المسؤولين، ودفعتهم لتصحيح الأوضاع القائمة، عكفت على تصويرها بنفسها لتوثيق الوضع ولم تكتفِ بالحصول على تصريحات هاتفية من أصحاب المشكلات.

 

أزمة قرية العطواني

 

تحت عنوان: “غرق مقابر وشوارع قرية العطواني بمركز إدفو والأهالي يصرخون”، على صفحات جريدة الوفد انطلقت “راندا” في رحلتها الصحفية داخل قرية العطواني التابعة لمركز ومدينة إدفو بمحافظة أسوان، لكشف معاناة الأهالي هناك بسبب طفح مياه الصرف الصحي منذ سنوات، دون تدخل من المسؤولين لحل تلك المشكلة، التي تسببت في انهيار منازل سكنية وانتشار الروائح الكريهة والأمراض والأوبئة في ظل تفشي جائحة كورونا، حينها. 

 

 

استمرت صحفية الوفد خالد في نشر سلسلة موضوعات عن الوضع في قرية “العطواني”، تخللها تحركات جادة منها للتواصل مع المسؤولين لحل المشكلة، وحسب حديثها مع مؤسسة المرصد المصري للصحافة والإعلام، حضرت إحدى اجتماعات المحافظ لمناقشته في أزمة القرية المهملة من جانب المسؤولين منذ سنوات حتى وصل الأمر إلى غرق الوحدة الصحية وغرق الشوارع وعدد من المنازل.

 

استجابة حكومية

 

بالفعل تغيّر المشهد في قرية “العطواني” بعد سلسلة موضوعات نشرتها “راندا خالد”، وتم تقديم طلب إحاطة في البرلمان من الدكتورة رشا أبو شقرة، أمين سر لجنة الشئون الإفريقية بمجلس النواب، في ذلك الوقت، أعقبه تحرك من المحافظ الذي وجه أوامره للجهات المختصة بحل مشكلة الصرف في القرية وإصلاح التلفيات التي تسببتها المياه وتوفير احتياجات المواطنين المتضررين.

 

الصحفية مي مصطفى وإنقاذ مسنين دار مصر الجديدة

 

“مي مصطفى” الصحفية بجريدة الطريق، استطاعت أن تسلط الضوء عبر تحقيق صحفي بعنوان: “بدون رخصة ولا رقابة.. سكان مصر الجديدة يستغيثون بالمسؤولين بسبب تعديات دار مسنين”، سلطت فيه الضوء على بعض الانتهاكات التي يتعرض لها أحد دور كبار السن، من خلال شهود عيان وأفراد محيطين بالدار، وأيضا ذهبت إلى الدار بنفسها، مع الحرص على التخفي، وتقمصت دور فتاة تريد تقديم أوراق التحاق لوالدتها حتى تتمكن من رصد الواقع بنفسها.

 

بعد الانتهاء من إثبات الوقائع بالأدلة، تواصلت الصحفية “مي مصطفى” مع وزارة التضامن بأدلة وشكاوى الشهود وتتبعت القصة، حتى نجحت في نهاية الأمر في غلق الدار ونقل كبار السن المتواجدين بها إلى دار  مسنين أخرى، وتوصيل البعض لذويهم ومنع الانتهاكات التي كانوا يتعرضون لها.

 

الصحفي مصطفى رحومة و تحقيق “الزي الكهنوتي”

 

استطاع صحفي جريدة الوطن “مصطفى رحومة”، أن يُحدث تغييرًا حقيقيًا من خلال تحقيقه الصحفي الذي أجراه عن”الزي الكهنوتي” بعنوان “من البابا إلى الراهب.. ثياب الكنيسة تنتظر “التقنين”، فقد أثار ضجّة كبيرة فور كتابته حيث ألقى الضوء على محاولات البعض انتحال صفة رجال الدين المسيحي بالكنيسة للنصب على الأقباط، أو إثارة الفتن، ما جعل الكنيسة تطالب بتقنين تلك الملابس وتجريم ارتدائها بغير وجه حق، وطالبت الدولة بسن قانون لذلك، بل وأعدت الكنيسة مشروع قانون حوله، ما زال حتى اليوم “حبيس الأدراج بالكنيسة”.

 

وحسب حديث “رحومة” مع مؤسسة المرصد المصري للصحافة والإعلام، فإنه عقب نشر التحقيق في عام 2019 وصل صداه إلى المسؤولين و طالبت الكنيسة رسميًا بسن تشريع لوقف عمليات النصب على الأقباط بالملابس الكنسية.

 

عبد الله أبو ضيف وانتفاضة لمرضى الإيدز

 

تحت عنوان ” التعايش الممنوع: الإيدز في مصر”، استطاع الصحفي “عبدالله أبو ضيف” أن يكشف الغطاء عن أزمة مجتمعية يواجهها مرضى “الإيدز” في مصر، من خلال تحقيق متلفز بالتعاون مع شبكة أريج للصحافة الاستقصائية، يكشف بالمستندات وشهادات موثقة عن رفض عاملين بالمنظومة الصحية المصرية من تقديم الخدمة الصحية للمصابين بهذا المرض أو ذويهم ما يعرضهم للوفاة.

 

التحقيق الذي نفذه “أبو ضيف” قبل نحو أربع سنوات، أحدث تغييرًا بعد نشره، حيث تم تقديم طلب إحاطة عاجل في البرلمان حول منع مستشفيات تقديم الخدمة الصحية لمرضى الإيدز، أعقبه تشكيل لجنة مركزية لمواجهة الفيروسات المنتقلة عن طريق الدم، ولأول مرة تم توفير أدوية الإيدز في الصيدليات في ديسمبر عام 2020.

 

وباء كوفيد 19

 

تحقيق “الإيدز” لم يكن الوحيد الذي نجح من  خلاله “أبو ضيف” في تحريك المسؤولين، حيث أحدث تحقيق “ضريبة مرضية” الذي سلط الضوء على جهات عمل تنتهك حقوق عامليها في إجازات كورونا المرضية عن طريق الفصل من العمل، وذلك خلال فترة تفشي الوباء في مصر.

 

التحقيق متلفز ومكتوب بالتعاون بين القاهرة 24 وأريج للصحافة الاستقصائية، وساهم التحقيق في وصول الموضوع لمجلس النواب، والذي تقدم أعضاء داخله بطلب إحاطة عاجل لحل الأزمة وفتح تحقيق عاجل في تلك القضية.

 

في إطار وباء كورونا أيضًا، كان للتحقيق الذي نشره “أبو ضيف” بعنوان: “48 ساعة في أكثر المدن إصابة بكورونا.. الطريق إلى حلوان ينتهي بـ”عزل غير معزول” (معايشة)”، تأثيرًا واضحًا خلال تفشي الوباء في مصر، وبحسب حديث الصحفي الشاب لمؤسسة المرصد المصري للصحافة والإعلام، تمثل دور التحقيق في تغيير إدارة المستشفى وغلقها لفترة لوقف تلك المخالفات، وهو ما اعتبره الهدف الأسمى للصحافة.

 

شهاب طارق وملف الآثار

 

على مدار السنوات القليلة الماضية، كرّس الصحفي شهاب طارق، وقته وجهده لتسليط الضوء على الإهمال الذي تعانيه بعض الأماكن الأثرية عبر تحقيقات صحفية منشورة في “أخبار الأدب” و”باب مصر”، منهم تحقيق بعنوان موقع أثري أم مباني أثرية.. هل تُلبي لجنة «القلعة» طلبات المستثمر؟، سلط فيه الضوء على ما يحدث في قلعة صلاح الدين الأيوبي التاريخية ومحيطها، إذ أعلن أحمد عيسى، وزير الآثار،  عن خطة الوزارة لفتح مزارات سياحية جديدة داخل قلعة صلاح الدين الأيوبي لتحسين التجربة السياحية -على حد وصفه- كما أعلن بشكل رسمي تخصيص أكثر من 300 مليون جنيه لتطوير مسار الزيارة.

 

وفي تحقيقه، كشف “شهاب” خلال الأيام اللاحقة لهذا التصريح الصحفي العديد من الإجابات التي ظهرت في شكل مستندات رسمية تحكي تفاصيل الاعتداءات المستمرة على هذا الموقع الأثري المدرج على لائحة التراث العالمي «اليونسكو».

 

مطالبات كثيرة طرحها متخصصون بمحاسبة مدير عام منطقة آثار القلعة، لتسببها في هدم الكثير من المباني الأثرية المحيطة بمنطقة القلعة خلال الفترة الأخيرة، وكان آخرها، قبة الشيخ عبدالله المسجلة في الآثار وتم هدمها قبل استكمال إجراءات شطبها الرسمية، وذلك في إطار خطة التطوير المعلن عنها سلفا، وبحسب رواية الصحفي “شهاب طارق” في حديثه مع مؤسسة المرصد المصري للصحافة، حققت وزارة الآثار فى هدم قبة الشيخ عبدالله المحيطة بمنطقة القلعة، عقب نشر التحقيق.

 

وقرر رئيس قطاع الآثار الإسلامية الدكتور جمال مصطفى تشكيل لجنة للنظر فى هدم قبة الشيخ عبدالله أثر رقم 413 والواقعة بمنطقة عرب آل يسار، وجاء قرار تشكيل اللجنة بعد التحقيق الذي نشرته أخبار الأدب بتاريخ 25 فبراير 2024 والذى جاء بعنوان: «شطب مع سبق الإصرار.. هدم قبة أثرية نادرة بعد أيام من التوصية بترميمها!».

 

النماذج السابق عرضها ليست الوحيدة في ذاكرة الصحافة التي أحدثت تغييرًا جذريًا وكشفت المسكوت عنه، إذ نحتاج عشرات الصفحات للحديث عن الأعمال الصحفية التي انتصرت فيها الكلمة لصالح المواطن، وحركت المياه الراكدة وغيّرت الواقع، فقط أردنا تسليط الضوء على القليل منها كمناذج لدور الصحفيين والمهنة وتأثيرهما في كافة أوجه الحياة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى