غير مصنف

مصادرة الحقوق والحريات في مشروع قانون الإجراءات الجنائية

مصادرة الحقوق والحريات في مشروع قانون الإجراءات الجنائية

لا يمكن بحال من الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم جزاء بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها ويتعين أن يكون منصفًا ومبررًا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندًا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.

وإذ أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وإذ أن المشروع الأخير لتعديل قانون الإجراءات الجنائية لم يكن كافيًا أو وافيًا بالمتطلبات التي يفترضها الواقع الحالي، أو المستحدثات التي جدت في الواقع القضائي، وذلك بما يضمن تحقيق أولويات المحاكمات العادلة، أو محققًا لحق الدفاع، وحاميًا لمصالح المتهمين، ومقرًا بإعلاء الحرية الشخصية في مقالبة الإدانة، ومنطلقًا في ذلك من قاعدة أن الأصل في المتهم البراءة، وميسرًا لكافة إجراءات التقاضي، وهو الأمر الذي يتفق مع مشروعية الإجراءات الجنائية بشكل عام، وأن يتخذ في ذلك جميعه من باب حقوق المواطنين الوارد بالدستور المصري بداية من نص المادة 92 منه إطارًا حاكمًا لأية تعديلات تشريعية يسعى إليها.

وبشكل تقني، فإنني لست متخيلًا لماذا هذه العجلة في تسويق مشروع لقانون الإجراءات الجنائية، على الرغم من خطورته في وقت الإجازة البرلمانية، كما أنني لست مستوعبًا لكيفية أن يكون بلجنة صياغة ذا المشروع ممثلاً لنقابة المحامين، ثم يخرج هذا المشروع بهذه الصياغة التي على أقل وصف تقديري لها، أنها لا تتوافق مع أي تطلعات إيجابية فيما يخص حماية حقوق المواطنين في مراحل الدعوى الجنائية.

وبشكل رئيسي فلابد لنا وأن نؤكد على مواد هذا المشروع تتعارض مع أمور جادة وحقوق رئيسية للأفراد، بداية من الحق في الدفاع وسماع الشهود، نهاية بالمحاكمات العادلة، هذا بخلاف قضية الحبس الاحتياطي، وهي بمثابة حجر الأساس في قضايا الحريات الشخصية، حيث أتت نصوص القانون بحسب ما ورد بالمشروع المتداول بالمواقع الإخبارية، مضيقًا من ممارسة تلك الحقوق، وعلى سبيل التمثيل:

فقد عالج موضوع الشهود النصوص من 86 : 97 من ذلك المشروع، والمادة الأساسية في الموضوع هي المادة رقم 86، والتي أجازت للنيابة العامة سماع من ترى سماعه، ولكن الجيد في الأمر أن النصوص المستحدثة قد ألغت النص الوارد بالقانون رقم 1 لسنة فيما يتعلق بما ورد بها من قصور في سماع الشهود.

ثم ما جاء بالمادة 526 من أن للنيابة العامة أن تقرر منع الكشف عن الشخصية الحقيقية للشهود بكافة وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة المناسبة أثناء الإدلاء بأقوالهم.

ولم يقف لأمر عند حد الشهود، بل جاء مضيقًا كذلك بالحق في الدفاع، وهو ذلك الحق الذي لا يمكن تصور وجود أي محاكمات جنائية من دون إتاحته بشكل كامل للمتهمين، حيث يعد ضمان الحق في الدفاع أحد أهم مفردات وجود الحق في المحاكمات العادلة والمنصفة، إذ بعدم توافر الحق في الدفاع لا يمكن أن يتصور أينا أن هناك تحقق للمحاكمات العادلة، ولا يكون توافر ذلك الحق بشكل صوري أو ما يضمن تحققه نصه، بل يجب أن يكون هناك دفاعًا حقيقيًا يحقق للمتهم كافة حقوقه في الذود عنه ورد التهم، حتى ولو لم يكن له دفاعًا مختارًا في حالات عدم القدرة، حيث يجب على الدولة أن تضمن له ذلك الدفاع بكافة ضماناته منذ لحظة المثول أمام جهات التحقيق حتى نهاية القضية بالحكم النهائي، وأقصد بذلك أن يتولى القضية محام قادرًا على الدفاع تتاح له فرصة الحصول على صورة كاملة من أوراق الدعوى، وتتاح له الفرصة الكاملة والوقت الكافي اللازم لتحضير دفاعه، كما يجب أن يتاح له فيها كذلك ما يعن له من استدعاء شهود أو أهل خبرة، كما يجب أن تتاح له الفرصة كاملة في تقديم مذكراته أو التعقيب على مرافعة النيابة أو مذكرات الخصوم.

لكن أتى هذا المشروع مضيقًا من ممارسة الحق في الدفاع، حيث بمطالعة نص المادة 72 منه، تجد أنه تسلب في أولى خطوات المحاكمة الجنائية، وهي مرحلة التحقيق، أهم ميزة للمحامي، وذلك بكونه جعلت لسلطة المحقق الحق في منع المحامي من الحديث، فكيف إذن يتحقق دوره في إبداء أي ملاحظات على أي تجاوزت في حقوق المتهم.

ذلك بخلاف تقنينه لانعقاد المحاكمات الجنائية داخل السجون والمؤسسات العقابية، بحسب نص المادة 532 من المشروع، وهو ما لا يتفق والحق في المحاكمات العادلة، وضمانة استقلال القضاء، كما أنه يجهض المحاكمات العادلة ما جاء بنص المادة 368 من هذا المشروع، من تأسيسها الحرمان من التصرف في الأموال أو إدارتها على مجرد صدور الأحكام الغيابية، وهذا لا يتفق مع العدالة الطبيعية، فكيف إذا كانت هناك دعوى أو محضر لا يعلم من حرر ضده عنه شئ، فهل ترتضي العدالة أن يتم حرمانه من التصرف في أمواله أو إدارتها. وكذلك أيضا تقييد الحق في نشر ما يدور في أروقة المحاكم وفقا لنص المادة 266 إلا بموافقة كتابية من رئيس المحكمة، كل ذلك بخلاف المغالاة في الرسوم وغيرها من المصروفات القضائية، ومضاعفتها عما كانت عليه.

الأمر ليس بالهين، والسلبيات في هذا المشروع ليست بسيطة، أو معدودة، فكيف يمكن تخيل أنه بعد المزيد من جلسات الحوار الوطني والمطالبات بتعديل مواد الحبس الاحتياطي، يأتي هذا المشروع بما لا تتحقق معه أي تطورات إيجابية تحسب له، حيث يعالج مشروع القانون موضوع الحبس الاحتياطي في المواد أرقام 112 : 124، لكن الملاحظة الرئيسية على هذا المشروع أنه لم يأت بأي جديد، إلا النذر اليسير فيما يخص الحبس الاحتياطي، حيث أجاز الحبس الاحتياطي في مواد الجنح بما لا يتجاوز ثلاثة اشهر، إلا إذا كان المتهم قد تمت إحالته إلى المحكمة المختصة. وفي مواد الجنايات أجاز الحبس الاحتياطي لمدة تصل إلى خمسة أشهر، وفي حالة التعدي يجب الحصول على إذن من المحكمة المختصة، بما يجيز حبسه لمدة خمسة وأربعين يومًا، أو لمدد أخرى مماثلة، وذلك جميعه بما لا يتجاوز أربعة أشهر في مواد الجنح، واثنا عشر شهرًا في مواد الجنايات، وثمانية عشر شهرًا في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو المؤبد، ثم أجاز مشروع القانون أنه لمحكمة الجنايات المستأنفة ولمحكمة النقض في أحوال الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد أن تأمر بحبس المتهم احتياطيا لمدة خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدد أخرى بما لا يجاوز سنتين.

فهل هذا ما تعالت الأصوات لأجل تحقيقه، وهل هذا هو نتاج الحوار الوطني، وهل هذا ما يتفق مع طموح الشعب المصري؟

أسئلة كثيرة حيرى، لا تجد لها إجابات، وكأنها أصوات في مهب الريح، وكأن مصر بلد أعظم فقهاء القانون، وعلى الأخص الجنائي، أمثال محمود محمود مصطفى، ومحمود نجيب حسني، وفقهاء وقضاة عظماء، من بينهم المرحوم/ عوض المر، لا تجد من يضع لها قانون إجراءات جنائية يتوافق على أقل تقدير مع باب الحقوق والحريات في الدستور المصري نفسه، ولا أبالغ وأدعو لأن يكون متسقًا مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية الحقوقية، وأخصها ما هو مرتبط بشؤون العدالة واستقلال القضاء.

 

زر الذهاب إلى الأعلى