أربع سنوات على الرحيل.. ومكرم لا يزال حاضرًا

أربع سنوات على الرحيل.. ومكرم لا يزال حاضرًا
في مثل هذا اليوم، 15 أبريل من عام 2021، أسدل الستار على رحلة أحد أبرز وجوه الصحافة المصرية والعربية، الصحفي الكبير مكرم محمد أحمد. وبينما تمر أربع سنوات على رحيله، لا تزال سيرته حاضرة بقوة، كأنها تُروى اليوم لأول مرة. فمكرم لم يكن مجرد كاتب عمود أو نقيب صحفيين، بل كان شاهدًا ومشاركًا في محطات فارقة من تاريخ مصر والمنطقة، ورمزًا لمدرسة صحفية جمعت بين الحرفية والموقف، وبين الهدوء والحسم.
عاش مكرم صحفيًا حتى آخر لحظة، وكتب كأن الحياة تتجدد كل صباح بمقال جديد، حتى وهو يواجه المرض. وفي زمن تتغير فيه مفاهيم الصحافة، وتتسيد فيه ضوضاء “التريند”، تظل تجربته تذكيرًا بأن الكلمة، إن كُتبت بضمير، لا تموت.
مكرم ..من مراسل إلي نقيب أمة
وُلد مكرم محمد أحمد في 25 يونيو 1935 بمحافظة المنوفية، وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1957. بدأ مسيرته المهنية في صحيفة “الأخبار”، قبل أن ينتقل إلى “الأهرام” حيث ترأس قسم التحقيقات الصحفية، ثم تولى إدارة مكتب الصحيفة في العاصمة السورية دمشق.
في عام 1981 تولى رئاسة تحرير مجلة “المصور” واستمر حتى عام 1991، كما شغل في الوقت ذاته رئاسة مجلس إدارة مؤسسة “دار الهلال” منذ عام 1987. وتميز خلال تلك السنوات بتحقيقات صحفية معمقة، وسبق صحفي استثنائي حين دخل سيناء بتصريح من الأمم المتحدة قبل انسحاب القوات الإسرائيلية بشهرين.
كما عُرف بقدرته على فتح قنوات حوار في أكثر القضايا تعقيدًا، منها لقاءاته بقيادات الجماعة الإسلامية داخل سجن العقرب، والتي ساعدت في إحداث مراجعات فكرية مهمة في منتصف التسعينيات.
العمل النقابي.. دفاع مستمر عن الصحفيين
لا يمكن الحديث عن تجربة مكرم محمد أحمد دون التوقف مطولًا أمام دوره كنقابي بارز. فقد انتُخب نقيبًا للصحفيين أربع مرات؛ عامي 1989 و1991، ثم عاد بقوة إلى مقعد النقيب في 2007 و2009، بعد غياب استمر أكثر من 15 عامًا.
خلال ولاياته النقابية، خاض معارك عديدة دفاعًا عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين المادية والمعنوية. تصدّى لمحاولات التضييق على المهنة، ووقف في وجه سياسات كانت تهدد استقلال الصحافة، كما كان من أوائل المدافعين عن مطلب إلغاء الحبس في قضايا النشر، وساهم في طرح مسودات بديلة لقوانين تضمن توازنًا بين الحرية والمسؤولية.
دعم إنشاء صندوق الطوارئ لدعم الصحفيين المفصولين أو المتعطلين، وكان حريصًا على الحضور في تحقيقات النيابة أو ساحات المحاكم حين يتعرض أي صحفي للملاحقة القضائية بسبب عمله.
شهدت فترته الثانية كنقيب العديد من الوقفات الاحتجاجية داخل نقابة الصحفيين، وكان مكرم حاضرًا فيها رغم كونه محسوبًا على تيار الدولة، ما أظهر مرونة سياسية ومهنية في التعامل مع المتغيرات، دون أن يفقد هيبة موقعه أو احترام زملائه.
كما تبنّى ملفات شائكة تتعلق بأوضاع الصحف الحزبية والمستقلة، وساهم في إدماج الصحفيين الجدد داخل العمل النقابي، وكان يردد دائمًا..”النقابة بيت كل الصحفيين، بمن فيهم المختلفون معي.”
تنظيم الإعلام.. بين الضبط والانتقاد
في أبريل 2017، كلّف مكرم برئاسة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهو منصب جديد وقتها، جاء في إطار إعادة هيكلة مؤسسات الإعلام المصري. وقد حمل المنصب صلاحيات تنفيذية وتنظيمية واسعة وفقًا لقانون الإعلام الجديد.
خلال ولايته التي استمرت حتى يونيو 2020، أطلق المجلس في عهده أولى المعايير المهنية للبرامج الحوارية، وفرض ضوابط على الإعلانات، واتخذ إجراءات رقابية على المحتوى الإعلامي، خاصة ما يتعلق بـ”الأخبار الكاذبة” والمحتوى غير المهني، كما نشر تقارير رصد دورية حول الأداء الإعلامي في القنوات والصحف والمواقع.
قوبلت هذه السياسات بتقدير من جهة، وانتقاد من جهة أخرى؛ حيث رأى فيها البعض محاولة ضرورية لضبط حالة من الفوضى المهنية، بينما اعتبرها آخرون خطوة لتقييد حرية التعبير والإعلام.
لكن مكرم ظل يُصرح أن دوره تنظيمي لا رقابي، قائلًا:“نريد إعلامًا قويًا لا فوضويًا، ومعايير تحمي الجميع بدلًا من ترك الساحة للعبث .
بين القلم والكرسي.. مكرم والسلطة
منذ بداية مشواره، ظل مكرم قريبًا من دوائر السلطة، وعُرف بعلاقاته القوية بصانعي القرار، بدءًا من السادات وحتى مبارك. وقد أوقعه هذا القرب في مرمى الانتقادات أحيانًا، حيث اتهمه البعض بتبرير سياسات السلطة أو الدفاع عنها إعلاميًا.
غير أن مؤيديه رأوا في علاقته بالسلطة أداة لحماية المهنة لا وسيلة للخضوع، مشيرين إلى أن مكرم لم يتورط يومًا في حملات تشهير أو تحريض ضد زملائه، بل حافظ على قدر من الاستقلال جعله محاورًا مقبولًا لدى السلطة وقطاع واسع من الصحفيين على حد سواء.
لم يكتف مكرم بالتحقيقات والمقالات، بل دوّن شهادته على عصره في عدد من المؤلفات، تمزج بين الحضور الصحفي والرؤية السياسية.
الثورة في جنوب الجزيرة – عن اليمن الجنوبي.
حوار مع الرئيس السوفيتي – عن لقاءه مع ميخائيل جورباتشوف.
مؤامرة أم مراجعة؟ – عن مراجعات الجماعة الإسلامية.
الثورة والجماعات الإسلامية – تحليل لفترة ما بعد 2011.
القدرة النووية الإسرائيلية – دراسة استراتيجية مبكرة عن اختلال ميزان القوى بالمنطقة.
دبلوماسية الكلمة.. مكرم في المشهد العربي والدولي
لم يكن مكرم صوتًا محليًا فقط، بل نُشرت مقالاته وتحليلاته في صحف عربية مثل “الشرق الأوسط” و”الاتحاد”، واستُضيف في مؤتمرات ومنتديات فكرية في العواصم الكبرى، وكان يُنظر إليه بوصفه أحد أبرز المعلقين السياسيين القادمين من القاهرة.
مكرم الذي لم يُشبه أحد: في شهادات المحبين والخصوم
الراحل محمد حسنين هيكل: “كان مكرم أحد أبناء مدرستي، وها هو يبني له مدرسته الخاصة.”
الراحل ياسر رزق: “كان مكرم رجل دولة وصحفيًا حتى آخر لحظة، يكتب من قلبه ويتكلم من عقله.”
ضياء رشوان نقيب الصحفيين الأسبق: “فتح الملفات الصعبة دون أن يفقد بوصلته الأخلاقية.”
الصحفي مجدي الجلاد: “الكلمة عنده مسؤولية، لا ضوضاء.”
الإعلامية لميس الحديدي: “عقلاني بلا برود، جريء بلا استعراض.”
سكرتير عام نقابة جمال عبد الرحيم: “كان أكثر نقيب مهني تعاملت معه، دافع عني حين فُصلت، وكان حاضرًا دائمًا في الأزمات ودعا إلى تخليد اسمه داخل النقابة وقال يجب أن تحمل إحدى القاعات اسمه، لأنه دافع عن الصحفيين كما يدافع الأب عن أبنائه.
كلمات لها ظل ثقيل.. اقتباسات من مكرم محمد أحمد
“أنا أكتب لأنني أحب الناس، وأحاول أن أكون ضميرهم في لحظة ما.”
“الصحافة ليست مهنة من لا مهنة له.. إنها مهنة من لا يخاف.”
“كلما تقدمت في العمر، أيقنت أن الحياد في بعض المواقف خيانة.”
“لا توجد حرية بدون مسؤولية، ولا صحافة بدون ضمير.”
“الصحافة موقف، والموقف لا يُؤخذ بالتردد، بل بالشجاعة والاقتناع.”
مكرم الصحفي لا يغيب
رغم الغياب الجسدي، لا تزال تجربة مكرم محمد أحمد تنبض في تفاصيل المهنة، وفي ذاكرة أجيال من الصحفيين والقراء. لم يكن مجرد اسم كبير، بل نموذج لصوت اجتهد ليظل حيًا في زمن تتآكل فيه القيم المهنية تحت وقع السرعة والضجيج.
في حياته، جمع بين الكتابة والإدارة، وبين التنظيم والموقف، وبين الاقتراب من السلطة والتمسك بكرامة المهنة. وفي مماته، ترك سيرة لا تزال تُقرأ، ومواقف لا تزال تُناقش، وتجربة تُستلهم.
لقد كتب مكرم كثيرًا، لكن الأهم أنه عاش ما كتب.