آمال عويضة.. مسيرة صحفية بين الالتزام الإنساني والتجارب الثرية المُلهمة

من طفولة هادئة في أحد أحياء القاهرة، إلى أروقة كُبرى المؤسسات الصحفية، ومن قاعات الدراسة إلى ميادين الصراع، نسجت آمال عويضة مسيرة مهنية وإنسانية استثنائية.
ابنة أسرة بسيطة من دلتا مصر وصعيدها، وجدت في القراءة ملاذًا وشغفًا، جعلها أول امرأة في عائلتها تلتحق بالجامعة، قبل أن تصبح صحفية بارزة وكاتبة ناقدة.
مسيرتها المُمتدة لأكثر من ثلاثة عقود تحكي عن التزام بالحرية والإنسانية، وعن تجربة مهنية متشعبة بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والعمل الدولي، لتترك أثرًا يتجاوز حدود المهنة إلى رسالة أوسع: أن الكتابة حياة، وأن المحبة هي البصمة التي تود أن تبقى في قلوب الناس.
النشأة والدراسة
وُلدت آمال عويضة، الابنة الرابعة لأسرة مصرية بسيطة، والدتها فلاحة بسيطة من إحدى قرى طنطا، ووالدها صعيدي من إحدى قرى الأقصر، يعمل موظف وعامل في هيئة السكك الحديدية، لم يحظَ الوالدان بتعليم نظامي، وكانت الأسرة أقل من متوسطة الحال، وبينها وبين أشقائها فارق عمري ملحوظ؛ إذ جاءت بعد أختها السابقة لها بست أو سبع سنوات، ما جعلها تعيش طفولة أقرب إلى الوحدة، لكنها وجدت ملاذها في القراءة وبدأت رحلتها الحافلة بالتجارب الملهمة والثرية والأفكار التي أعطت الأولوية دائما للحرية والإنسانية.
في سبعينيات القرن الماضي، كانت المدارس الحكومية بيئة غنية بالأنشطة، تقول “آمال” إن مدرستها الابتدائية في حي الزيتون ـ وهو حي متوسط يجاور المطرية من جهة وسراي القبة وروكسي الأعلى مستوى من جهة أخرى ـ كانت تضم مكتبة تديرها “أبلة حياة”، وغرفة للموسيقى، وأستاذًا للرسم؛ حيث كانت لوحات التلاميذ تُعلق أسبوعيًا، كما كان الحي نفسه يعج بالمكتبات، مثل “مكتبة سندباد” التي أتاحت للأطفال شراء أعداد “المغامرون الخمسة” وتجديدها مقابل قروش قليلة، شريطة الحفاظ عليها.
تُشير “آمال” إلى أثر كبير تركته مدرستها الابتدائية، حيث كانت أبلة هدى معلمة الصف الأول والثاني، وأبلة حياة مسؤولة المكتبة، تلزمان كل تلميذ بشراء قصة في مطلع العام، مثل قصص “مكتبة كامل الكيلاني” أو “جحا وابنه والحمار”، وتبادلها بين الطلاب أسبوعيًا، مع تقديم ملخص شفهي أمام الفصل، وهكذا أنهت العام وقد قرأت عشرات القصص، واعتادت التلخيص والعرض.
أما في المرحلة الإعدادية والثانوية، كانت آمال عضوًا في جماعة الصحافة والإذاعة المدرسية، وتولّت في الثانوية مسؤولية مجلة الطالبات بإشراف “أبلة سوزان محمود” ـ رحمها الله، وكان والدها يجلب صحيفة الأخبار يوميًا، فتمارس هي تدريبًا ثابتًا على قراءة العناوين له، وعلى قراءة صفحة الحوادث لأمها من أخبار اليوم كل سبت. وإن غابت الصحيفة عن البيت، استعارتها من الجيران.
وكانت “آمال” تحصل وهي في المرحلة الإعدادية شهريًا تقريبًا على جائزة “ثمرة القراءة” من مكتبة المدرسة، وهي مسابقة تطلب من الطلاب تلخيص الكتب المستعارة في كشكول مخصص.
لم تكن الجوائز كبيرة ـ ممحاة على شكل دبدوب، أو مسطرة ملونة، أو توكة شعر ـ لكنها كانت تعتز بالتكريم العلني أمام المدرسة. بالإضافة إلى أنها عملت مبكرًا في سن الخامسة عشرة، بعد الصف الإعدادي الثاني، فتحكي “لدى جار يملك مصنعًا للملابس القطنية، بأجر جنيه يوميًا، مكّنها من شراء الكتب التي تحبها”، وتقول إن العمل المبكر منحها استقلالية ودافعًا للبحث عن فرص أخرى، وعلمها قيمة الكسب بعرق الجبين، وهو ما جعلها لا تستكين أبدًا.
وفي المرحلة الجامعية، وجدت ضالتها في المكتبة بجامعة القاهرة؛ حيث قرأت كتب مصطفى صادق الرافعي، وأدب ومؤلفات بدايات القرن العشرين، إضافة إلى كتب التاريخ والفكر المصري، أما في كلية الإعلام، فكانت المقررات أكثر تخصصًا، لكنها لم تشبع شغفها بالقراءة الإبداعية.
اللقاء الأول بالكتابة
مع مرور السنوات، وجدت “آمال” نفسها تحلم بالكتابة مثل نجيب محفوظ، وبأن تُخصص لها صفحة في صحيفة كما كان يفعل محمود صلاح في الأخبار، وبالفعل، عملت في الأهرام، وتولّت صفحة “ثقافة عربية وعالمية”.
حُبها للغات فتح أمامها نافذة على ثقافات أخرى في زمن لم يكن فيه إنترنت، وكانت تطلع على المجلات الأجنبية التي يوفرها الأستاذ عبدالله مطاوع أثناء تدريبها، لتتعرّف على أخبار السينما والفنون عالميًا.
تقول آمال: “كنت محظوظة بأشخاص منحوني فرصًا، وممتنة للمدارس الحكومية التي غرسَت فيّ حب القراءة والكتابة، وللعمل المبكر الذي جعلني أبحث دائمًا عن إنجاز جديد، لقد شكّلت القراءة عالمي، وصاغت أحلامي، وأعطتني ما أقدمه حتى اليوم”.
وفي حديث آمال عويضة للمرصد، كشفت أن أول احتكاك لها بالكتابة والنصوص الكُبرى، كان في مجالات الدين والأدب والفكر.
وكحال ملايين المصريين في ثمانينيات القرن الماضي، وجدت نفسها وسط تيار قوي من “الأسلمة”؛ حيث انتشرت آنذاك كتب مجانية ذات طابع ترهيبي، مثل كتب “عقوبات تارك الصلاة”، وأشرطة الوعظ عن عذاب القبر لعبد الحميد كشك، ولم تكن هذه المواد تعبّر عن جوهر الفكر الديني، بقدر ما كانت نصوصًا تخويفية تحد من أفق القارئ، كما تصفها.
وهنا، تستعيد آمال موقفًا من سنوات الثانوية العامة، حين ناقشت صديقة عمرها المسيحية حول معتقدها، محاوِلةً إقناعها بترك دينها والدخول في الإسلام.
تقول إنها اليوم تدرك أن ذلك كان انعكاسًا مباشرًا لما كانت تقرأه آنذاك، وإنها حين التقت بصديقتها مؤخرًا ذكّرتها ضاحكة: “تتذكرين ماذا فعلت بكِ؟”، مؤكدةً أنها باتت تؤمن بحق كل إنسان في الإيمان بما يشاء، وأن تجربتها تلك كانت نتاج قراءة مشوشة ومشوهة.
لكن هذا التيار لم يبتلعها تمامًا؛ فقد كان هناك توازن صنعته قراءتها الأخرى؛ ففي المرحلة الثانوية، أنهت قراءة أعمال نجيب محفوظ كاملة تقريبًا، واطلعت على شكسبير وتوفيق الحكيم، حتى وإن لم تفهم كل التفاصيل في ذلك الوقت، كان هذا المزيج بين النصوص الدينية والنصوص الإبداعية يمنعها من الانجراف الكامل نحو التشدد أو الانحياز المُطلق إلى الإبداع وحده.
أما عن تأثير العائلة في توجيهها نحو الكتابة، فتؤكد أنه كان شبه معدوم؛ فجذورها تنقسم بين عائلة أمها من فلاحين الدلتا البسطاء، وعائلة أبيها من أعيان وأشراف صعيد مصر، محافظين إلى حد كبير.
لم يكن في العائلتين اهتمام بالقراءة أو الكتابة أو الإبداع، وبذلك، كانت آمال أول امرأة من العائلتين تلتحق بجامعة القاهرة، بل وأول من يدخل الجامعة من النساء على الإطلاق، في زمن كان فيه مستقبل الفتيات غالبًا إما الزواج المبكر بعد الإعدادية أو الدبلوم، أو العمل مع الأسرة في الأرض.
الخطوات الأولى في بلاط صاحبة الجلالة
اختارت آمال دراسة الإعلام بعد حصولها على نسبة نحو 86 أو 87%، وكانت الأولى على مدرستها، ورغم توفر فرص لدراسة السياسة والاقتصاد، إلا أن انخراطها في الصحافة المدرسية وجماعات الإذاعة، جعل من كلية الإعلام خيارها الطبيعي، رغم عدم معرفتها بأي شخص من العائلة في هذا المجال.
وفي سنتها الجامعية الأولى، كان هناك ارتباك طبيعي، لكن لحسن الحظ عرّفتها صديقتها أمل الشريف، التي أصبحت لاحقًا صحفية في “نص الدنيا”، على فرصة تدريب في مجلة الشباب بالأهرام بعد تولّي الأستاذ عبدالوهاب مطاوع رئاسة تحريرها عام 1987 أو 1988، خلفًا للأستاذ صلاح جلال، وكان المطلوب فقط تقديم طلب مكتوب، وبعد إرسالها الطلب، تلقّت خطابًا من المجلة يحدد موعد المقابلة.
تتذكر “آمال” شعورها وهي تستلم خطابًا يحمل توقيع رئيس تحرير مجلة في مؤسسة بحجم الأهرام، وتقول إنه كان حدثًا كبيرًا في حياتها.
وفي اللقاء، طلب منها مطاوع أفكارًا لموضوعات، رفض بعضها، لكنه وافق على فكرتها بإجراء حوار مع المطربة سيمون، التي كانت في أوج شهرتها حينها.
أجرت الحوار في أحد فروع أمريكانا بالجيزة؛ حيث كانت سيمون تعمل على حملة إعلانية أو ألبوم غنائي، ونُشر الحوار في فبراير 1988، وتصدرت صورة سيمون الغلاف مع جزء من صورتها داخل الموضوع، وكان ذلك أول عمل منشور لآمال، احتفظت بنسخته حتى اليوم، بما فيه من تعديلات في المقدمة والعناوين.
كانت الأهرام آنذاك قلعة لها هيبتها، ورئاسة تحريرها بيد الأستاذ إبراهيم نافع ـ رحمه الله ـ مما جعل دخول مبناها أشبه بدخول عالم آخر.
تصف “آمال” الصدمة الأولى بالتعامل مع رئيس تحرير شديد المراس، محافظ وتقليدي، وأن الحصول على موافقته للنشر كان أصعب ما في الأمر؛ إذ قد تعود من مقابلة مع وزير أو فنان ولا يُنشر الموضوع، مما كان يضعها في موقف حرج أمام المصادر.
استمرّت هذه الصعوبات لأكثر من عشر سنوات، منذ التحاقها بمجلة الشباب عام 1988 وحتى تعيينها عام 1995، قبل أن تتركها في 2003 أو 2004 لتنتقل إلى الأهرام اليومي عام 2005، ومع ذلك، ترى أن تلك السنوات شكّلت جزءًا أساسيًا من خبرتها ومهاراتها المهنية.
التجربة المهنية المتنوعة
ترى “آمال” أن كل محطاتها المهنية، من الصحافة المكتوبة إلى الإذاعة والعلاقات العامة والعمل الدولي، كانت محاولات للبحث عن صوتها الخاص والخروج من قيود كل مجال، قضت ثلاث سنوات في الإذاعة قبل أن تشعر أنها وصلت إلى أقصى ما يمكن تحقيقه فيها، وعملت عشر سنوات في مجلة الشباب بالأهرام؛ حيث كانت لها صفحات كاملة، وشاركت في ندوات وسفريات ومغامرات مهنية، من بينها تغطية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 في غزة ورام الله والقدس، والحصول على جائزة النقابة، وتأليف كتاب عن الشباب الفلسطيني مع جمعية أحمد بهاء الدين.
كما خاضت تجارب قصيرة في المؤسسات الدولية، منها الصليب الأحمر، لكنها كانت دائمًا تعود إلى الكتابة باعتبارها جوهر هويتها المهنية، كما عملت في مناطق صراع، بينها العراق بعد 2003 ودارفور في ذروة أزمتها عامي 2007 و2008، وهي التجربة التي تصفها بالأقسى؛ إذ قضت 15 شهرًا هناك، وعادت لتحتاج ستة أشهر من العزلة والعلاج النفسي للتعافي.
وتشرح آمال برؤية نقدية وتقول: “الصحافة أسستني، لكن العمل الميداني في مناطق الصراع أعاد صياغة نظرتي للحياة. رغم كل التجارب، أرى أن الإعلام العربي والمصري لا يزالان بحاجة إلى قفزات نوعية، لأننا نستحق إعلامًا أفضل، إعلامًا يبني ويؤهل ويؤدي رسالة واضحة، لا يكتفي بالترفيه أو التعليم، بل يعكس هوية المجتمع ويخدمه بصدق”.
مفكرة وناقدة
أما عن الفكر والنقد، تقول آمال، كان شغفي بالمسرح والسينما حاضرًا منذ الصغر. كنت أتابع برنامج “نادي السينما” والأفلام الأجنبية على القناة الثانية، وأذهب أحيانًا إلى السينما مع الأصدقاء، وعندما التحقت بكلية الإعلام، درست الدراما والنقد الأدبي، وكان ذلك امتدادًا لحبي للأدب منذ الطفولة مع المغامرين الخمسة وأجاثا كريستي وميكي.
تقول: “بعد دخولي عالم الصحافة، التحقت بمعهد النقد الفني لدراسة نقد القصة والمسرح والسينما، وتلقيت على يد أساتذة كبار مثل نهاد صليحة ورفيق الصبان ونبيل راغب، كانت تجربة ثرية، إذ كنا نشاهد الأعمال الفنية ثم نحللها ونناقشها بعمق، بعيدًا عن النقد المجامل أو الكليشيهات السطحية المنتشرة”.
بماذا كانت تحلم؟
سألنا آمال عويضة، إذا عاد بك الزمن، هل كنتٍ تختارين نفس المسار المهني رغم ما فيه من صعوبات؟
أجابت بلا تردد: “لقد مارست تدريبات كثيرة على الامتنان، فامتننت لكل ما أنجزته وما لم أنجزه. ما حققته وكان من نصيبي منحني الكثير، وما لم أحققه أو أصل إليه لم يثنني أو يورثني الندم، أنا راضية عن كل اختياراتي في لحظتها، لأنها كانت أفضل ما يمكن وفق ما كنت أعرفه في ذلك الوقت. قد لا تمثلني بعض تلك الاختيارات اليوم، لكنها كانت في لحظتها الاختيار الأمثل والحلم الأكبر”.
وتستشهد بحوار أجراه محمد حسنين هيكل مع عبدالله السناوي في جريدة العربي، حين قال: “أعلم أنني خسرت أشياء عظيمة، ولكني عشت حياة رائعة”.
وتضيف: “وأنا أيضًا ممتنة لأنني عشت حياة رائعة، بكل ما فيها من خسارات ومكاسب”.
وتوضح آمال أنها لو كانت تستطيع تغيير شيء، لكانت أدرجت دراسة علم النفس كخط رئيسي في حياتها إلى جانب الإعلام، وهو ما بدأت في فعله متأخرًا خلال السنوات الخمس الأخيرة، هذه الدراسة منحتها فهمًا أعمق لذاتها، وأتاحت لها الإفادة من خبراتها في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، في إنتاج محتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليكون مساحة لتبادل المعرفة والفائدة، لا مجرد ساحة للتفاهة أو السجالات الفارغة.
واقع الصحافة اليوم
تتوقف آمال عويضة طويلًا عند المقارنة بين واقع حرية الصحافة في بدايات مسيرتها أواخر الثمانينيات، وما آلت إليه الأوضاع اليوم؛ حيث تقول: “في تلك الفترة، كانت هناك شعرة من الحرية تتيح بروز أصوات متعددة، وظهور صحف معارضة تموَّل أحيانًا من رجال أعمال يسعون إلى موازنة علاقاتهم مع السلطة، كانت هناك صناعة حقيقية اسمها الصحافة، ومع انطلاق القنوات الفضائية العربية في التسعينيات، نشأ زخم إعلامي واسع سمح للصحفيين بالإنتاج والابتكار، وكانت مصر سوقًا أساسية للإنتاج والاستهلاك، بل ومصدرًا رئيسيًا للكوادر الصحفية في المكاتب العربية، حيث كان نحو 80% من العاملين بها مصريين”.
وترى “آمال” أن هذه الحقبة أتاحت للصحفيين المصريين فرصًا أكبر في الدخل والانتشار، مُقارنةً بما كانت توفره المؤسسات الصحفية المحلية، التي كانت مُقيّدة بأجور وظيفية ثابتة، لكن بداية الألفية الثالثة شهدت تغيرًا كبيرًا؛ إذ بدأت الفضائيات العربية بالاستعانة بجنسيات أخرى، وتراجع تمثيل المصريين لأسباب قد تكون سياسية، رغم كونهم جزءًا من أكبر سوق متابعة في المنطقة.
تستأنف “آمال” حديثها قائلة إن المحاولات لإنشاء إعلام مصري قوي بدأت، لكن الإعلام العربي ظل متفوقًا بالإمكانيات والتمويل والصورة الجاذبة، في الوقت الذي خفت فيه صوت ماسبيرو، ومع 2010 و2011، كانت خطوات تهميش الإعلام القومي قد اكتملت، وتوقفت المؤسسات الكبرى مثل ماسبيرو والأهرام والأخبار عن التعيين، وترتب على ذلك أن اليوم أصبح متوسط أعمار الصحفيين في المؤسسات القومية يتراوح بين 40 و45 عامًا، ولا توجد وجوه شابة جديدة، بينما يعمل الصحفيون الشباب المتاحون بإمكانيات محدودة، كما نقول: “يغزلون برجل حمار”.
وتعدد “آمال” التحدّيات التي تواجه الصحفيين الشباب اليوم والتي منها: غياب التدريب، نقص المعدات اللازمة للعمل الميداني مثل الهواتف المزودة بتقنيات التصوير الحديثة أو الكاميرات، وارتفاع تكاليف المواصلات في ظل تراجع قيمة الجنيه.
وتضيف: “الصحافة فقدت دورها الرقابي إلى حد كبير، تحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، الدولة، في مواجهة تحدياتها، رأت أن من الأفضل تجنب النقد الداخلي، فأصبح الإعلام يسير في ركابها، ولم يعد يمارس الرقابة إلا في حالات نادرة، في المقابل، صارت وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بهذا الدور بسرعة وفاعلية أكبر، من بث مباشر لملاحقة متحرشين ولصوص، إلى كشف وقائع كان الصحفي ينتظر لنشرها حتى اليوم التالي أو الأسبوع التالي.
وترى “آمال” أن بعض الصحف القومية تحاول اللحاق بالركب عبر مواقعها الإلكترونية، لكنها لا تزال في مرحلة البدايات، وتعاني من ارتباك في التعامل مع أخبار عاجلة، مثل حريق سنترال رمسيس الذي لم يتم تغطيته بآليات صحافة المواطن رغم قربه من المؤسسات الصحفية.
التشريعات والقوانين المنظمة
تشدد آمال عويضة على ضرورة أن تصدر القوانين المنظمة للعمل الإعلامي من نقابة الصحفيين أو الإعلاميين المشهود لهم بالكفاءة، وألا تظل حِكرًا على الجهات الرسمية، حتى وإن خرجت عبر البرلمان.
وتابعت: “أي قانون يخص الصحفيين ولا يمر عبر نقابتهم أو جمعيتهم العمومية يكون غالبًا مجحفًا، نتذكر إضراب الصحفيين والفنانين في التسعينيات ضد القوانين المقيدة، حين وقف رموز مثل يوسف شاهين وتحية كاريوكا للدفاع عن حرية المهنة، هذا هو الصوت الموضوعي الذي يضع العاملين في الاعتبار، أما القوانين التي تخرج دون الرجوع لأصحاب الشأن، فهي غالبًا ظالمة وغير معبرة عن الواقع”.
الخطوط الحمراء.. هنا والآن ودائمًا
ترى “آمال” أن الخطوط الحمراء ستظل موجودة في الحاضر والمستقبل، في بلادنا العربية وغيرها، لأسباب ترتبط بالسلطة والارتباكات السياسية، خاصة منذ أحداث 2011 وما قبلها
واستكمل قائلةً: “الحرية حلم لم يتحقق كاملًا في أي مكان، سافرت إلى أوروبا وأمريكا وآسيا، وفي كل مرة وجدت أن الحرية موجودة بنسب متفاوتة، في لندن، شهدت مظاهرات مليونية ضد الحرب، وكنت أرى في صحيفة الجارديان كاريكاتيرات ومقالات ضدها، لكن الحرب وقعت رغم ذلك، هذه حرية منقوصة: حرية القول بلا فعل”.
وتشير إلى أن الغرب، رغم اتساع حريات التعبير والجنسية والعقيدة فيه، يفرض قيودًا على موضوعات معينة، مثل إنكار المحرقة أو انتقاد قضايا حساسة بعينها، وهو ما يعكس أن الحرية دائمًا نسبية ومشروطة.
العلاقة بين الصحافة والسُلطة.. شراكة اضطرارية
تصف “آمال” العلاقة بين الصحافة والسلطة بأنها علاقة معقدة، أقرب إلى “التوأم السيامي الملتصق”، قد تكون علاقة تنافرية، أو تكاملية إذا كانت السلطة قادرة على الحوار، أو صراعًا صفريًا ينتهي بالقمع، لكنها في كل الأحوال علاقة قدرية لا يمكن فصلها، لأن الإعلام سُلطة رابعة تراقب السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا بطبيعته يخلق صدامًا.
تقول: “لا أتخيل أن تكون العلاقة بين السلطة والإعلام وردية دائمًا، لأن الدور الحقيقي للإعلام ليس التطبيل، بل المراقبة والمساءلة، وفي واقعنا العربي، من يختار أن يُمارس هذا الدور الواعي، يضع نفسه في مواجهة قد يدفع ثمنها غاليًا”.
قضايا كُبرى
تقول آمال عويضة إنها ترى جيلها، جيل المولودين الذين عاشوا السبعينيات والثمانينيات، جيلًا مختلفًا، فقد قضوا طفولتهم ومراحل تعليمهم الأولى قبل أن تجتاح الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي الحياة اليومية وتنتزع منها جزءًا كبيرًا من العمق لصالح الخفة والسطحية، تتذكر أول مرة ذهبت فيها إلى معرض الكتاب، وهي طالبة في المرحلة الإعدادية، ودخلت جناح فلسطين بعد وقت قصير من مجزرة صبرا وشاتيلا، وظلت تبكي كلما رأت الصور، اشترت بطاقات بريدية وطوابع تحمل اسم فلسطين، وكانت تكتب على سبورة المدرسة بخطها الجميل “فلسطين عربية”، وتلصق الملصق ذاته على حقيبتها المدرسية.
ورغم أن أسرتها لم يكن بها شهداء أو مجندون، فإن فلسطين شكّلت بالنسبة لها جرحًا عميقًا والتزامًا إنسانيًا صرفًا؛ فقد رأت أن القضية تعكس جوهر الإنسانية، وأن التعاطف مع الفلسطينيين المهجرين والمعتقلين هو جزء من التعاطف مع كل ضحية ظلم، تمامًا كما تشعر بالأسى على ضحايا المحارق النازي،بالنسبة لها، فلسطين ليست مجرّد اسم أو قضية سياسية، بل رمز لمعاناة إنسانية أوسع.
كتب وأبحاث
تستعيد “آمال” بعض أعمالها البحثية، مثل أحد كتبها الذي تناول كيفية دمج القيم الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية، بمشاركة أحزاب سياسية دينية من المغرب والأردن، وكان يستهدف تدريب طلاب المدارس الثانوية على نسخة معتدلة من المفاهيم السياسية، كما شاركت في بحث لصالح مركز الباحثات العربيات في تونس عن المشروعات الصغيرة للنساء، ضمن فريق ضم باحثين من فلسطين والأردن والمغرب، وفاز البحث بجائزة من البنك الدولي، وقدّمت عرضًا له في بوسطن.
أما عن كتابها “الأدوات الخفية للجزيرة الوثائقية” فكان في الأصل جزءًا من رسالة دكتوراه أرادت تقديم من خلالها نموذجًا لقناة وثائقية مصرية، لكن تحليل مضمون 129 فيلمًا أنتجتها الجزيرة بين 2010 و2012، كشف لها إعادة كتابة للتاريخ العربي من منظور محافظ وعدائي تجاه مصر، مع تضخيم لرموز تيارات دينية ورفض تناول شخصيات تنويرية، تقول: “أدركت حينها أن هناك جريمة فكرية ترتكب، وأن غياب البدائل ترك المجال مفتوحًا لهذا النوع من التوجيه”.
النساء في الصحافة
وعن قضية المرأة، تقول إن المرأة في المنطقة العربية ما تزال تُسحق بفعل تراكمات دينية واجتماعية وعادات وتقاليد، وأن الأمر لا يرتبط بالدين الإسلامي فقط، بل يطال أيضًا المسيحية، باعتبارهما الديانتين الرئيسيتين في المنطقة.
أشارت “آمال” إلى أنه رغم توقف تطبيق كثير من الحدود الشرعية القديمة، وإلغاء العبودية وملك اليمين منذ قرون، فإن أي نقاش يتعلق بحقوق المرأة يعود بالمجتمع 1400 عام إلى الوراء، وهو ما ترى أنه يضر بالمرأة وبالمجتمع ككل.
أما الحديث عن المرأة في الإعلام حديث ذو شجون كما تصف آمال عويضة، فتقول: “لقد حالفني الحظ أن أعمل ثلاث سنوات مذيعة في إذاعة “صوت العرب”، المؤسسة العريقة، ثم أُتيحت لي فرصة رائعة للعمل في جريدة الأهرام، متنقلة بين مجلة الشباب وقسم السياسة الخارجية ثم القسم الثقافي مع الشاعر بهاء جاهين، وصولًا إلى عملي كمراسلة للأهرام في جنيف”.
وتابعت: “الحقيقة أن النساء في الإعلام لا يحصلن على نصيبهن كاملًا، بل ينتزعنه من فم الأسد، التمييز كان موجودًا بوضوح، بل ويُقال صراحة في قوائم التعيينات، رغم أن الأغلبية التي تتدرّب أو تعمل في المؤسسات الإعلامية من النساء، إلا أن التعيين غالبًا ما يكون لصالح الرجال بحجة أن الشاب مقبل على الزواج وله مستقبل، أما المرأة فيتم استغلال أفضل ما لديها، فإذا حملت أو انشغلت بأسرتها تُهمَّش، وكانت هناك أعمال تُسند حصريًا للرجال، وإن كان عبدالوهاب مطاوع قد منحنا في مجلة الشباب بعض المساحة للقيام بمهام ميدانية، حتى إنه وافق على اقتراحي بالسفر إلى فلسطين، وكانت رحلة استثنائية لم تتكرر”.
واستطردت بأن التمييز يظهر أيضًا في غياب الترقيات المناسبة، رغم أن معظم الصحفيين المتميزين في المؤسسات الكبرى نساء، في الأهرام مثلًا، لا نجد امرأة في قسم الديسك منذ عقود، ومن النادر أن تصل امرأة إلى منصب رئيس تحرير إلا في مجلات موجهة للنساء مثل “نصف الدنيا” أو “البيت” حتى في نقابة الصحفيين، من بين 12 عضوًا، بالكاد نجد امرأة واحدة، رغم أن النساء يشكلن نحو 45% من الأعضاء.
تضيف الدكتورة “آمال” أن الصحفيات يتعرضن للمحاسبة المضاعفة: أي تأخير أو غياب يفسَّر باعتباره ضعف التزام “لأنها امرأة”، والمؤسسة نفسها، رغم حجمها الهائل ووجود آلاف الموظفات، رفضت إنشاء حضانة لأبناء العاملات، أما اليوم، ومع توقف التعيينات منذ أكثر من عقد، أصبح الانضمام للنقابة حلمًا قد يتأخّر عشر سنوات، ما يجعل أوضاع الصحفيات الشابات مأساوية، إذ يعملن فقط لتغطية تكاليف المعيشة والمواصلات.
ترى الدكتورة آمال أن الأصوات خفتت، وأن التحديات صارت أكبر، ولم يعد المشهد يسمح بظهور أسماء بحجم أحمد بهاء الدين أو محمد حسنين هيكل أو حتى نجيب محفوظ، مضيفةً أن كثيرًا من المثقفين والصحفيين اليوم يمارسون المهنة كحرفة تقنية، لا كرسالة تنويرية، وأن زمن حامل الرسالة قد انحسر، وتضرب مثالًا بأن أي مقال لا يرضى عنه البعض، إذا نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي سيتعرض صاحبه لسيل من الاتهامات بالكفر أو التنمر أو السب أو التشهير، مما يجعل كثيرين يختارون تأجيل المعارك الفكرية، لاقتناعهم بأن المجتمع بحاجة إلى إعادة تربية من جديد قبل أن يصبح التغيير ممكنًا.
الكتابة إرث وحياة
بعد أكثر من ثلاثة عقود في العمل الصحفي، تقول أمال عويضة: “يؤرقني ما يؤرقني كإنسانة، ويحرضني على الكتابة رغبتي في التعبير عن ذاتي، الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد مهنة، بل هي وسيلة للحياة، مثل التنفس والطعام والماء، تغذي الروح وتبقيها حية، البعض يرى دوافع أخرى، أما أنا فأرى أن الكتابة، والإعلام، والاكتشاف، هي المحرّك الأول الذي يدفعني للاستيقاظ كل صباح”.
وتضيف: “حين أفتح عيني صباحًا، لا أسأل نفسي فقط عمّا سآكله أو أشربه، فهذه أمور فسيولوجية بحتة، بل أتساءل: كيف سأعبّر عن نفسي اليوم؟ ما المنشور الذي سأكتبه على فيسبوك ليكون مفيدًا للآخرين؟ عملي الرسمي كمراسلة الأهرام في جنيف يفرض عليّ كتابة تقارير سياسية عن الأمم المتحدة وقضايا الاحتباس الحراري، ومنظمة التجارة العالمية، وشؤون اللاجئين والمهاجرين، وحياة المدينة نفسها، لكن عملي الإنساني، ذلك الذي يحرّكني حقًا، هو ما أكتبه يوميًا أو ما أقدمه من فيديوهات مصورة تهدف للتوعية ومساعدة الآخرين”.
ترى “آمال” أن ما يؤرقها هو كل ما هو إنساني، وما يحرضها على الكتابة هو كل ما يخدم البشرية، ولو كتبت بروفايلًا عن نفسها، ستختار له عنوان: “عاشت حياة رائعة”، لأنها تعتبر نفسها كاتبة وإعلامية مصرية بنت بلد، عاشت حياة ثرية بالتجارب.
وعن إرثها الذي تود تركه، تقول: “أريد أن أترك أثرًا إنسانيًا في قلوب القرّاء، يسعدني أن يكتب إليّ أحدهم ليقول إنه ينتظر منشوراتي، أو أنه يستعين بها لمواجهة صعوبات الحياة، أو أنه يستمد طاقة من ابتسامتي وتحفيزاتي للحياة الجميلة، والاهتمام بالنفس، والمحبة، والتسامح، وعدم إصدار الأحكام”.
لا تسعى آ”مال” لمدرسة فكرية خاصة أو لمشروع أدبي ضخم، بل ترى نفسها منتمية إلى “مدرسة الإنسانية” التي تؤمن بحق كل إنسان في العيش والاختيار، وبواجب كل إنسان في الحب، وهي تدعو إلى الانفتاح على تجارب الآخرين حتى لو اختلفت مع اختياراتهم الشخصية، شريطة ألا تضر بالغير.
وتشرح قناعتها بمثال بسيط: “لن أعمل راقصة أبدًا، لكن لو اختارت امرأة أن تكون راقصة، فهذا حقها. إن بذلت جهدها وتدريبها لتكون راقصة محترفة بلا ابتذال، أو حتى اختارت الابتذال، فهي حرة. طالما أنني أقبل خيارات الآخرين، فإنني أضمن في الوقت نفسه ألا يفرض أحد وصايته على خياراتي”.
وتختتم الدكتورة آمال عويضة حديثها قائلة: “المحبة، ورفض الحروب، ورفض استعباد البشر أو التمييز بينهم أو التنمر عليهم، ورفض فكرة أن الحقيقة لها وجه واحد، هذه كلها مبادئ أساسية عندي، أريد أن أترك أثرًا إنسانيًا يجعل الناس يتعلّمون قيمة المحبة، وفكرة تقبُّل الآخر، والإيمان بأن الحياة تتسع للجميع”.