عيد ميلاد مؤجل… خالد ممدوح يكرر سؤاله: أنا هنا ليه؟

دائرة مفرغة تنتهي لتبدأ وتبدأ لتنتهي وتدور بك فإذا انتهت دورتها أسلمتك إلى ما تركته في النهاية، دورات لا تكف عن الدوران. هكذا يصف الكاتب والصحفي أحمد بهجت شعور الخواء واللاجدوى. وهكذا هو حال السجين الذي ألقي به في السجن، يعيش في ظلام دائم لا تشرق عليه شمس، منزوع الحرية، منسي بين الجدران الباردة؛ لكن الأمر يزداد قسوة حين يكون هذا السجين صحفياً، أو صاحب رأي، لم يحمل سلاحاً سوى كلمته، هناك يتحول الزمن إلى كابوس ممتد، لا يدري متى بدأ ولا متى سينتهي، يستيقظ كل يوم على السؤال ذاته، لماذا أنا هنا؟ ومتى سينتهي هذا العبث؟ هي دائرة جديدة من دوائر الألم… تدور به كما تدور الكلمات في رأسه، كلما حاول أن يجد معنى لما يحدث، وجد نفسه يعود إلى النقطة ذاتها.
في زحام الطرق الطويلة والشاقة المؤدية إلى سجن أبو زعبل تقطع زوجة الصحفي خالد ممدوح المسافة المرهقة رفقة أولادها، وهي تحمل قلبها على كفها، لا شيء يتعبها مثل الانتظار، الانتظار على بوابات حديدية صامتة وانتظار الكابوس كله أن ينتهي، ولا شيء يُثقلها كنظرة زوجها التي تغيرت بعد عام وثلاثة أشهر من الحبس الاحتياطي، دون أمل قريب في الحرية، كان اجتماعيًا شديد الولع بالحياة والتواصل والحركة، كل ذلك تغير تمامًا، غيرته أيام السجن الطويلة الباهتة.
تصف زوجة الصحفي خالد ممدوح الزيارة الأخيرة بأنها الأقسى منذ بداية الكابوس، فتقول “من ساعة ما دخل السجن، دي أول مرة أشوفه منهار بالشكل ده، كان يائس تمامًا، بيقول خلاص أنا هموت هنا، أنا مش عارف أنا هنا ليه.”. تلك الكلمات، البسيطة والموجعة، كانت كافية لتصيبها وأولادها بقلق لم يعرفوه من قبل، فخالد الذي كان دائمًا صبورًا ومتماسكًا، بدا هذه المرة فاقدًا لكل ما تبقى من صبر، كان عمود المنزل وملاذهم الآمن الذي يقيهم شر اليأس ويمنحهم الأمل في الغد، لم يعد يرى هذا الغد أبدًا ولم تعد هي وأولاده يتحملون ما وصلت إليه حالته النفسية المريرة.
خالد ممدوح، البالغ من العمر ستة وخمسين عامًا، قضى أكثر من ثلاثين عامًا في العمل الصحفي والإعلامي، عمل مذيعًا، ثم عمل في الصحافة المكتوبة، قبل أن ينتقل إلى مجموعة MBC ويصبح مدير إدارة السوشيال ميديا بقناة MBC مصر، وهو منصب جمع فيه بين المهنية والنجاح وحب زملائه، ولم يكن يومًا منخرطًا في السياسة أو متورطًا في جماعة مشبوهة أو إرهابية، كما تقول زوجته:
“عمره ما اشتغل سياسة ولا انضم لأي حزب ولا جماعة، كل شغله كان عن الفن والرياضة، وكان محبوب وناجح، بعيد تمامًا عن أي نشاط سياسي.”
لكن ذلك لم يشفع له، فحبسه على ذمة القضية رقم 1282 لسنة 2024 أمن دولة عليا واتهامه بـ “الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة وتلقي تمويل من الخارج” جاء ليقلب حياته رأسًا على عقب منذ يوليو 2024 الماضي، داخل جدران السجن، يحاول أن يفهم لماذا وُضع في هذا المكان، ولماذا يُعامل كمتهم بلا أي دليل، تقول زوجته:
“هو بيقول دايمًا أنا مش متهم، لا في دليل ولا أحراز ولا حتى بوست على الإنترنت، طيب أنا هنا ليه؟” وتضيف بأسى: “بيقول لي لو كنت عامل حاجة كنت هتحمل العقوبة، بس أنا بتعاقب على حاجة ماعملتهاش!.”
لم يكن خالد يعاني من أمراض خطيرة قبل الحبس، لكن الضغط النفسي والحرمان من الحرية تركا أثرهما عليه، تتنهد زوجته وهي تكاد تبكي من وضع زوجها وتستطرد “هو مريض ضغط، بس المرض الحقيقي جواه، في روحه، المرة دي شفته مكسور فعلاً، فقد الأمل تمامًا.”
تتحدث أيضًا الزوجة عن زياراتها المرهقة، التي تبدأ فجرًا وتنتهي بعد ساعات انتظار طويلة من أجل بضع دقائق معه. “أحيانًا بنستنى خمس أو ست ساعات عشان نقعد معاه عشر دقايق، المرة دي بس كانت أطول، حوالي 45 دقيقة، لكنها كانت الأصعب، كلها وجع وألم.”
خلال الزيارة الأخيرة، أحضرت معها “كب كيك” صغيرًا ومبهجًا لتحتفل بعيد ميلاده والذي يوافق يوم 22 أكتوبر القادم، تحكي ” عيد ميلاده يوم 22 أكتوبر، جبت كب كيك صغيرة عشان نقوله كل سنة وأنت طيب، لأن التورتة ممنوع دخولها كنت بفكر إني أخفف عنه لكن ما عرفناش نفرح ولا عرفت أعمل حاجة كان حزين جدًا، وما قدرش حتى يبتسم وبيتكلم عن اللاجدوى”.
تتحدث الزوجة أيضًا عما يسميه خالد ممدوح “العقوبة المزدوجة” أن يعيش سجينًا دون أن يعرف جريمته، وأن يرى الوقت يمضي بينما الأحلام تتبدد والعمر يمضي، “بيقول لي الرئيس قال الحبس الاحتياطي مايبقاش عقوبة، بس أنا فعلاً في عقوبة على حاجة ماعملتهاش. أنا هنا ليه؟ لحد إمتى؟” وهي أسئلة معلقة لا تجد جوابًا سوى في الصمت الثقيل والتهرب بكلمات المواساة التي فقدت قدرتها تمامًا.
بين لحظة وأخرى في حديثنا مع زوجة الصحفي خالد ممدوح، تستعيد ملامح حياتهم قبل السجن؛ بيت صغير مليء بالضحك والموسيقى والأحاديث ورائحة الطبخ الدافئة والمشاركات الأسرية مع خالد ممدوح وأبنائهم، تحكي لنا وهي تفتقد هذه الأجواء ، “ابني يشجع نادي الزمالك بشدة، بينما خالد يشجع الأهلي، فكانت بينهما دائمًا منافسة لطيفة وحماس دائم حول كرة القدم. كما أن كلاً منهما يشجع فريقًا مختلفًا في الدوريات الأوروبية، فكان جو التحدي والمتعة حاضرًا دائمًا في البيت، كانوا يقضون وقتًا جميلًا معًا، يلعبون أو يشاهدون المباريات، وأحيانًا يدخلون المطبخ ليطهو شيئًا أو يعدوا الحلويات، أما إسلام الصغير، فكان يحب تصوير الفيديوهات، وكان يستعين برأيه ويأخذ منه الأفكار والملاحظات، واثنان من الأولاد درسا الإعلام بدافع حبهما للمجال ورغبتهما في أن يسيرا على خطى والدهما، وله أيضًا ابنتان: ليلى التي التحقت بالجامعة، وزينة التي تدرس في الصف الأول الثانوي.
أي أن الجو العائلي بينهما كان مليئًا بالتفاعل والمشاركة؛ كانوا يحكون له كل تفاصيل حياتهم، ويشاركونه حتى في إعداد الطعام أو اختيار الأفلام، ولم يكن من النوع الذي ينعزل عن أسرته أو يعيش في عالم منفصل، بل كان أبًا قريبًا من أبنائه، متعاونًا وحنونًا، رغم هيبته التي كانت تجعلهم يحترمونه ويخشونه قليلًا، إلا أنهم كانوا يحبونه حبًا كبيرًا، وغيابه ترك فراغًا هائلًا، وأحدث اضطرابًا نفسيًا قاسيًا داخل البيت، وعندما رأوه في تلك الحالة في الزيارة الأخيرة، كان المشهد مؤلمًا إلى حد لا يُحتمل، وصعبًا جدًا على التصديق أو التحمل.
وفي مجمل التغييرات التي طرأت بعد تجربة السجن، تغيرت أيضًا اهتمامات الزوجة والأولاد، أصبحوا يتابعون باستمرار صفحات الأخبار ومجموعات أسر الصحفيين المحبوسين وتبدلت مشاويرهم الأسرية إلى مشاوير أكثر بؤسًا لمحاولة نجدة الزوج والأب مما حل به، تحاول أسرة الصحفي خالد ممدوح التماسك قدر ما تستطيع، تتابع الأخبار يومًا بعد يوم في انتظار أي بادرة أمل أو عفو، يجمع شملهم، تتمنى لو تفيق من هذا الكابوس الطويل، تتنهد الزوجة وتدعو أن تحدث المعجزة ويخرج قبل عيد ميلاده ليحتفلوا في منزلهم وتعود الطمأنينة التي انتزعتها التجربة القاسية، تتمنى لو يعود كل سجين رأي لأسرته وأن يغلق نهائيًا ملف الحبس الاحتياطي للصحفيين.
تغادر الزوجة السجن في نهاية كل زيارة، وهي تمسك بيد أولادها وتحاول أن تبدو قوية، لكن داخلها تعرف أن أكثر ما تخشاه ليس الجدران، بل أن يتحول الانتظار الطويل إلى عادة، وأن ينسى خالد ويصبح مجرد قصة أو مجرد رقم، خالد ممدوح الذي أحب الحياة يومًا، وهي لم تحبه بالقدر الكافي.