بيان المرصد المصري للصحافة والإعلام بشأن الهجمة الرقمية والتمييز القائم على النوع الاجتماعي ضد مُقدّمة برنامج “دولة التلاوة”

تكشف الهجمة الرقمية الواسعة التي تعرّضت لها الإعلامية آية عبدالرحمن، عن تحوّل خطير في استخدام الفضاء الرقمي، كساحة للعقاب الجماعي ضد النساء، عبر موجات ضغط تستهدف تقليص حضورهن المهني، وإخضاع المجال العام لرؤية أحادية تُقصي مشاركة المرأة.
ويتابع المرصد المصري للصحافة والإعلام هذا التصاعد بقلق بالغ، بعدما تجاوزت الهجمة حدود النقد المهني، ودخلت نطاق التمييز القائم على النوع الاجتماعي، بما يُشكّل اعتداءً مباشرًا على الحق في المشاركة المتكافئة في الشأن العام وعلى الوجود الرمزي للنساء داخل المساحات الدينية والإعلامية.
وقد رصد المرصد خلال ساعات قليلة، حجمًا ضخمًا من التعليقات التي تجاوزت عشرات الآلاف، انصرف جزء كبير منها إلى التشكيك في حق المرأة في تقديم المحتوى الديني، لا استنادًا إلى تقييم موضوعي للأداء أو الإعداد، بل اعتمادًا على تصورات مسبقة مرتبطة بالنوع الاجتماعي.
ولاحظ المرصد تكرارًا لافتًا في العديد من التعليقات، بما يعزّز احتمال وجود نمط موجّه أو شبه منظّم، لا مجرد اختلاف طبيعي في الآراء، وساهمت آليات الترويج في المنصات الرقمية في دفع المحتويات المُثيرة للغضب إلى صدارة المشهد، بما يعكس طبيعة اقتصاد رقمي يُكافئ الإثارة، ويُقصي النقاش الهادئ.
وفي خضم هذا المشهد، دفعت بعض المواقع سؤالًا صريحًا إلى الجمهور: “هل تؤيد استبدال مقدّمة برنامج دولة التلاوة برجل؟”، وهو سؤال يكشف انزلاقًا واضحًا من تقييم مضمون البرنامج ومعاييره المهنية إلى التشكيك في حضور المرأة داخل المجال الديني ذاته؛ فالصياغة تفترض مسبقًا أن المشكلة تكمن في كون المقدّمة امرأة، وهو افتراض يعيد إنتاج خطاب إقصائي، يسعى إلى حصر المجال الديني في إطار ذكوري مُغلق، ويتعارض مع الدستور، ومع مبدأ تكافؤ الفرص، ومع القيم المهنية التي تقوم على الكفاءة والخبرة لا النوع الاجتماعي، مثل هذه الأسئلة لا تُثري النقاش العام، بل تعيد تدوير تحيزات قديمة تحت غطاء الاستفتاء، وتحول النقد من الأداء إلى الهوية، بما يرسّخ أنماطًا تمييزية تحدّ من حضور النساء، في واحدة من أكثر المساحات الرمزية تأثيرًا في الوعي العام.
ولا يقف الخطاب المتداول عند حدود التمييز بين النساء والرجال، بل يمتد أحيانًا إلى تعبيرات طبقية ومجتمعية، تنتقص من النساء العاملات أو المنتميات لطبقات أو مناطق معينة، مما يكشف أبعادًا اجتماعية عميقة للهجمة.
ويشير هذا النمط إلى بقاء رواسب ثقافية ترى المجال الديني مساحة ذكورية بطبيعته، وهي رؤية تناقض التطور الطبيعي للمجتمع ودور المرأة التاريخي في المعرفة الدينية، وجزء من الهجمة ينبع من تحيزات غير واعية متراكمة عبر الوقت، تُعاد صياغتها كلما ظهرت امرأة في موقع ديني أو رمزي، ويتخذ الخطاب في كثير من الأحيان شكل “فزع أخلاقي”؛ حيث يُقدّم مجرد حضور المرأة في المجال الديني باعتباره تهديدًا لهوية المجتمع، وهي آلية تُستخدم عادة لتبرير الإقصاء وإعادة إنتاج السلطة الرمزية.
وتزداد خطورة الهجمة حين تستهدف مجالًا دينيًا، لما يحمله من ثِقل رمزي وقدرة عالية على تشكيل الوعي الجمعي؛ فإقصاء النساء من هذا المجال ليس حكمًا مهنيًا على أداء فردي، بل محاولة لإعادة ترتيب حدود النفوذ داخل المجال العام عبر استخدام الدين كأداة للضبط الاجتماعي، لا كمنظومة قيمية أو معرفية. وهذا يقوّض استقلال المجال الديني عن الاستقطاب الاجتماعي، ويفتح الباب أمام صراع يهدد توازن المجال العام.
ويرى المرصد أن تحويل النقاش من تقييم البرنامج إلى مساءلة المرأة نفسها عن “أهليتها” للظهور في مجال ديني يُعدّ انحرافًا خطيرًا في طبيعة النقاش العام، ويتجاهل الدور البارز الذي لعبته النساء في التعليم الديني والقراءة والإسناد ونقل العلم عبر العصور، كما يتعارض هذا التوجه مع المادة (11) من الدستور التي تحظر جميع أشكال التمييز، ومع المبادئ الأساسية لحرية التعبير التي تُعد أساسًا لسلامة المجال العام، وقد أدت الهجمة إلى إزاحة النقاش المهني بالكامل؛ إذ اختفى تقييم الأداء والمعايير، وحلّ محلّه جدل قائم على النوع الاجتماعي، وهو ما يضر بجوهر العمل الإعلامي.
ولا تتوقف آثار الخطاب على النساء المعنيات مباشرة، بل تمتد إلى الجمهور نفسه؛ فالهجمات تُسهم في ترسيخ تصورات تمييزية، تُقلّص من حضور المرأة في المجال العام، وتُغذي أفكارًا خاطئة حول قدراتها، كما تؤثّر على الأطفال والمراهقين الذين يتابعون المحتوى، فتُرسّخ لديهم أنماطًا تمييزية يصعب تفكيكها لاحقًا.
ويحذّر المرصد من خطورة التطبيع مع هذا النمط؛ لأن التغاضي عنه يحول العنف الرقمي إلى ممارسة عادية، تمتد آثارها لسنوات، وتفتح الباب أمام موجات أوسع تستهدف النساء العاملات في الإعلام، خاصةً في المجالات ذات الحساسية الرمزية.
وقد اعتمد المرصد في تقييمه للهجمة، على تحليل منهجي عينات واسعة من التعليقات، شمل مضمونها، ومفرداتها المتكررة، وسياقها، ومسارات انتشارها، ودرجة التشابه بينها، لتحديد ما إذا كانت الهجمة عفوية أو موجّهة.
وأسفر التحليل عن أن جزءًا كبيرًا من الخطاب لم يكن موجّهًا إلى أداء المقدّمة، بل إلى محاولة نزع الشرعية عن وجود النساء أصلًا داخل البرامج الدينية، وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للتنوع الإعلامي وإفقارًا للمجال العام.
ويُحمّل المرصد المؤسسات الإعلامية، والدينية، والرقابية، مسؤولية واضحة في مواجهة هذا الخطاب، وإصدار مواقف صريحة ترفض التمييز والعنف الرقمي، وتؤكد أن معيار الاختيار هو الكفاءة لا النوع الاجتماعي.
كما يدعو هذه المؤسسات إلى تبنّي سياسات فعّالة لرصد الهجمات الرقمية، وتقديم الدعم القانوني والنفسي للعاملات المتضررات، وحماية بياناتهن وسلامتهن الرقمية، بما يضمن بيئة عمل آمنة وعادلة.
ويدعو المرصد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، إلى متابعة الخطاب المتداول حول البرامج – لا محتواها فقط – واتخاذ إجراءات واضحة تجاه الحملات المُنظّمة، وإصدار قواعد مهنية مانعة للتمييز تضمن تمثيلًا عادلًا للنساء في المحتوى الديني والثقافي.
كما يدعو المنصات الرقمية إلى تطبيق إجراءات أكثر صرامة للحد من خطاب الكراهية، ومنع آليات الانتشار من أن تتحوّل إلى أدوات لتضخيم الهجمات العدائية.
ويدعو المرصد، المؤسسات التعليمية والجامعات، إلى إدماج قضايا المساواة والنوع الاجتماعي في مناهجها وبرامجها، دعمًا لبناء وعي مجتمعي قادر على مواجهة التمييز وصون كرامة الإنسان.
ويؤكد المرصد أن مواجهة التمييز القائم على النوع الاجتماعي مسؤولية مجتمع كامل، وليست مسؤولية مؤسسة واحدة، وأن حماية حضور المرأة في الإعلام الديني تتجاوز الدفاع عن واقعة فردية، لتصل إلى صون مبدأ المواطنة الكاملة، وحق الجميع في المشاركة الحرة والمتكافئة.
إن المجتمع الذي يخشى صوت المرأة في المجال الديني، هو مجتمع يخشى ذاته؛ لأن حضور النساء ليس تهديدًا للقيم، بل شرط من شروط اكتمالها، ويرى المرصد أن مستقبل الإعلام الديني في مصر لن يكتمل نضجه ولا تأثيره، إلا بمشاركة النساء مشاركة كاملة، وعادلة، وحرة، من أي ضغوط أو تهديدات؛ فوجودهن ليس أمرًا تكميليًا، بل ركنًا أساسيًا لاستقامة المجال العام وثرائه.
وسيتخذ المرصد خطوات تواصل رسمية مع الجهات المعنية؛ لإحاطتها بخطورة هذه الهجمة، كما ستُدرج الواقعة ضمن التقرير الختامي لحملة الـ16 يومًا لمنهاضة العنف ضد المرأة، مُتضمّنةً تحليلًا لاتجاهات العنف الرقمي، وخطاب الكراهية ضد الإعلاميات، استنادًا إلى منهجيات الرصد والتحقق المُعتمدة لدى المرصد المصري للصحافة والإعلام.



