بروفايلسلايدر رئيسي

سوسن عبد الباسط.. حكاية الصحفية التي صنعتها أم مؤمنة بالكلمة

لم تكن بداية قصة الصحفية سوسن عبد الباسط في لحظة نجاح، بل في معركة صغيرة خاضتها أم بسيطة حين وقفت أمام العائلة لتقول: “محدش ليه دعوة ببنتي”، لتمنح ابنتها حق اختيار مصيرها، فكانت تلك اللحظة المفتاح الأول خلال رحلتها، التي حملت فيها قلما كالسيف، مدفوعة بإيمان أم رأت في الكلمة قوة، وبقناعة أن الصوت الحقيقي يُنتزع رغم الأعراف والصعوبات.

كانت أمها السيدة البسيطة التي لم تحصل سوى على الشهادة الابتدائية، تملك شغفًا لا تخطئه العين، فمع أول نهار جديد كانت تبحث عن الراديو لتسمع برنامج “إلى ربات البيوت” للإذاعية صفية المهندس، تسمعه بتركيز امرأة تسمع كلام من أجلها وحدها.

لم تكن علاقة الأم بالصحافة والإعلام مجرد علاقة عابرة، بل كانت تؤمن بها كما لو كانت طريق الخلاص والنور في نهاية الطريق المعتم، فمنذ أن بلغت ابنتها “سوسن” العاشرة، زرعت في قلبها وعقلها كلمات لا تنسى: “نفسي تبقي زي صفية المهندس وكلمتك تبقا مسموعة”.

سنوات طويلة مرت وظنت “سوسن” أن الحياة ستقف في صالحها، إلا أن عام 1977 ومع انتهاء امتحانات الشهادة الإعدادية، تكتل أهل أبيها حول مستقبلها الذي حلمت به ليلًا نهارًا، كأن حياتها تًكتب بيد غيرها، قرروا إلحاقها بالثانوية التجارية لتنتهِ حياتها بمجرد أن تحصل على “الدبلوم” وتتزوج وتتفرغ لأسرتها، يومها، شعرت أنها مجرد تابع لا يحق لها الحلم.

لكن “سوسن” لم تكن وحدها، فخلفها وقفت امرأة بسيطة الملامح عظيمة الإصرار، لم تكمل تعليمها لكنها حملت في قلبها حكمة كبيرة، إضافة إلى عشق صفية المهندس التي أحبتها بلا حدود، وقفت الأم في وجه العائلة، التقاليد والخوف، حتى انصاع الأهل إلى رغبتها بتحويل أوراق ابنتها إلى الثانوية العامة، فظلت 3 سنوات تسعى لتحقيق حلمها بدراسة الإعلام، إلا أن الحياة – كعادتها – عاجلتها بصدمة أخرى عقب إعلان نتائج الثانوية العامة والإفصاح عن حلمها بالالتحاق بجامعة سوهاج لدراسة الإعلام. هنا؛ جاء الرفض أشد قسوة، كيف تسافر فتاة وحدها؟، كيف تعيش ابنة البندر غريبة في قلب الصعيد؟، اجتمعت العائلة من جديد، ارتفعت الأصوات، والقرار: لا سفر.

للمرة الثانية قاتلت الأم التي لا تملك سوى إيمانها بابنتها، وقفت أمام العائلة، دافعت، واجهت وقاتلت قائلة: “محدش ليه دعوة ببنتي”، حتى صار طريق جامعة سوهاج” مفتوحًا وممهدًا أمام “سوسن”، التي كتبت افتتاحية قصتها الخاصة التي لم يعد لأحد سواها حق صياغتها.

تعلمت الفتاة مبكرًا أن الحياة لا تُمنح، بل تنتزع انتزاعًا، فقاتلت في ظل فترة تفشي الجماعات الإرهابية، فتؤكد أن تلك الفترة شهدت انتهاكات كبرى، فقد شاهدت بعينها معيدًا بالجامعة وقف لدقائق معدودة مع طالبة فاعتدى عليه عناصر الجماعة بالضرب المبرح على مرآى ومسمع من الجميع.

بدأت تدريب في جريدة “صوت سوهاج” الصادرة عن الحزب الوطني، عام 1981 ومارست الأنشطة الطلابية حتى أصبحت مقررة مبنى الطالبات الذي حوى ما يزيد عن 300 طالبة، عاشت في قلب الصعيد وكانت – دونًا عن زميلاتها – تعود لأسرتها في الإجازات الرسمية فقط طوال سنوات الجامعة، حتى تخرجت في مايو 1985 والتحقت بجريدة المساء في دار الجمهورية في أكتوبر من ذات العام.

تصف “سوسن” فرحة والدتها بعد مشاهدة ابنتها في أيامها الأولى بالصحيفة، وهي تترجل من سيارة المؤسسة التي تحمل شعار “الجمهورية”، أمام منزلها في الزاوية الحمراء، قائلة: شعرت بفخر لأن مقاتلتي حققت حلمها

بعد سبع سنوات من العمل في انتظار التعيين والحصول على عضوية نقابة الصحفيين، استيقظت “سوسن” على كارثة منعها من من دخول مقر الجريدة بسبب وشاية زميل لها نقل لرئيس التحرير بعض آرائها الشخصية في أداءه، وهكذا وجدت نفسها خارج المؤسسة التي عاشت فيها 7 سنوات، فأغلقت بابها أمامها بلا ذنب يذكر، إلا أن المرأة التي خاضت كل تلك الحروب لن تهزمها وشاية.
منتصف عام 1992 تزوجت وباتت زوجة تحمل مسؤولية منزل، وأمًا تجري خلف طفلة، ورغم كل هذه المسؤوليات، التحقت بجريدة الوطن العربي حيث تولت مسؤولية الصفحة الطبية، ففتحت ملفات شائكة، إلا أن الجريدة أغلقت بعد عام واحد، فخاضت معركة جديدة في مجلة “حواء”، إلا أنها أمضت عامين فقط قدمت فيهما تحقيقات استقصائية، أبرزها تحقيق أمضت فيه أيامًا طوال بسبب سفرها إلى العريش لتلتقِ برجل سيناوي له قلبين وأطلق عليه أهل سيناء “بعبع الإسرائيليين”، ووضعوه على قائمة الاغتيالات.

انتهت رحلة “سوسن” في مجلة “حواء” بعد عامين، لتنتقل إلى جريدة العمال وتُعين بها كرئيسًا لقسم البيئة، وفي عام 2001، التحقت بجداول نقابة الصحفيين بعد رحلة استمرت 16 عامًا، وبعد مضي 5 سنوات، عادت مرة أخرى لجريدة المساء، وعملت فيها حتى يومنا هذا كمديرًا للتحرير.

مواقف لا تنسى عاشتها على مدار 35 عامًا، فأحد التحقيقات الاستقصائية التي عملت عليها طويلًا كان يخص شركة كبرى طرحت كمية من ألبان الأطفال التي انتهت صلاحيتها أو قاربت على الانتهاء بالمدارس، فقررت حمل كاميرا والتوجه إلى مدرسة بالزاوية لتوثيق الحدث، إلا أنها فوجئت باحتجازها داخل المدرسة لساعات طوال حتى تدخلت الشرطة في النهاية.

أما الحوارات الصحفية، تؤكد أنها حاورت الروائي نجيب محفوظ قبيل محاولة اغتياله، واكتشفت بعد لقائها أن الروائى مُقل في حديثه ويعاني من مشاكل في السمع؛ إلا أنها شعرت بالفخر أن الروائي الكبير موجودًا بين أرشيفها الصحفي.

تروي “سوسن”، أن بعد سنوات طوال من القتال في المهنة، فوجئت بابنتها الكبرى تقترب منها وهي تحمل في عينيها نفس اللمعة التي شهدتها طفولتها وهي تقف أمام أهل والدها وتخبرهم بحلمها، لمعة شغف بالمهنة؛ لتخبرها بأنها تريد السير على نفس خطاها والالتحاق بكلية الإعلام.

وتؤكد، أن الصحافة كانت قوة جبارة إلا أنها حاليًا في حالة انهيار بسبب مواقع التواصل الاجتماعي وعدم توافر المعلومات وصعوبة الوصول للمصادر بالإضافة إلى أزمة التعيينات ووضع الصحفي الهزيل.

في الختام، وجهت الصحفية سوسن عبد الباسط، رسالة للأجيال الجديدة من الصحفيين بأن يسعوا خلف حلمهم مهما كانت الصعوبات، لأن الصحافة كـ”النداهة”، ومن يتركها سيعود لها مرة أخرى مهما طالت الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى