بروفايل

وفاء بكري.. من “صوت الجامعة” إلى الصحافة الرياضية ثم حضور مهني مميز في “المصري اليوم”

من داخل بيتٍ امتلأ بالصحف والكتب والحوارات التي لا تهدأ، تفتح وعي الكاتبة الصحفية وفاء بكري على عالم تُصنع فيه المعاني قبل العبارات. في هذا المناخ الفكري الذي كانت فيه القراءة عادة يومية، والنقاش جزءا من تفاصيل البيت، بدأ شغفها بالصحافة ينمو ليقودها لاحقا إلى رحلة مهنية بارزة.

بداية عشقها للصحافة كانت من والدتها، فرغم أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، إلا أنها لم تكن يومًا أمية، بل كانت امرأة مثقفة وواعية، حريصة على إدخال الكتب والصحف والمجلات إلى البيت بانتظام، أما والدها فكان يحرص على قراءة جريدة الأهرام والشرق الأوسط والحياة اللندنية، ويلفت انتباه أبنائه للمقالات والأعمدة الصحفية وفنون الكتابة المختلفة، بينما كان إخوتها يتابعون جريدتي الأخبار والمساء، فكانت تجلس وسط أسرتها تشاهدهم وتستمع لمناقشاتهم وتخزنها في ذاكرتها.

بين هذه الصفحات والسطور، تعلق قلب وفاء بالصحافة وتعلق عقلها بكتاب كبار مثل يوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وصلاح منتصر. هنا بدأ شغفها بالصحافة يظهر عمليا، فقد كانت أولى خطواتها تجربة تحرير مجلة الحائط في المدرسة، حيث كانت تختار المواد والصور، وتعمل مع زميل موهوب في الرسم لتنفيذ المجلة بالكامل، كانت تلك المجلة بمثابة ولادة صغيرة لشغف لا ينطفئ، شغف بالصحافة بالكلمة وبحكاية الناس كما يجب أن تروى.

في المرحلة الثانوية اختارت وفاء بكري القسم الأدبي، حيث كان الهدف واضحًا منذ البداية وهو تحقيق الحلم الذي يراودها؛ فتخبر نفسها سألتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة.. إلا أنها حصلت على 82.3% في الثانوية العامة وكان الفارق الذي يفصلها عن حلمها 1.7% فقط.

لم يكن قسم الإعلام في جامعة عين شمس قد تأسس بعد، فحاولت والدتها مرارًا إقناع الأب بالسماح لها بالالتحاق بقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، إلا أن الأخير رفض مخافة الغربة، وهو ما تقبلته وفاء، فكان خيارها البديل كلية التربية بجامعة عين شمس. لكن طموحها لم يقف عند هذا الحد، فقد أتاح نظام الثانوية القديم إمكانية تحسين بعض المواد لزيادة المجموع، فاختارت تحسين ثلاث مواد لتعويض الفرق، وحصلت في النهاية على 90%، متجاوزة الحد المطلوب للالتحاق بكلية الإعلام الذي كان 86%، وفي النهاية استطاعت تحقيق حلمها المنشود.

كان التحاق وفاء بكلية الإعلام هو بداية تحقيق حلمها الكبير، ففي أروقة الكلية نشأت بدايات حب الكتابة لديها، وتجلى شغفها أثناء تدريبها في مجلة صوت الجامعة، حيث أتيحت لها فرصة إجراء حوارات مع مشاهير لم يستطع بعض الصحفيين الكبار مقابلتهم، ومن بين هذه التجارب تظل لحظة موافقة صالح سليم على حوار معها عالقة في ذاكرتها، رغم أنه اضطر لتأجيله بسبب سفره إلى لندن قبل التخرج.

ومن المواقف الطريفة التي لم ولن تنساها، حوارها مع اللاعب إبراهيم حسن الذي كان يرفض إجراء أي مقابلات صحفية حتى تدخل الكابتن الراحل عماد اليماني بناءً على توصية صالح سليم، فاستطاعت إجراء الحوار وطباعة المجلة بالكامل، وبيعت النسخ العشر كلها، بينما لم يستطع زملاؤها بيع نصف نسخهم. هنا أدركت وفاء معنى الانفراد وأهمية تأثيره في جذب القراء، وتعلمت كيف يمكن للقصة الحقيقية أن تصنع الفارق في عالم الصحافة.

في مسيرتها المهنية بدا واضحًا أن وفاء حملت معها منذ الطفولة صورة مثالية للصحفي الحقيقي، فقد تشكل وعيها المهني على كتابة الأستاذ عبدالوهاب مطاوع بقربه من هموم الناس، وعلى نموذج أحمد بهاء الدين في جرأته واعتزازه بمهنته وكرامته، كما أسرتها الشخصيات التي رسمها أسامة أنور عكاشة في أعماله، أولئك الذين جعلوا من الصحافة سلاحًا لمواجهة الفساد، فوجدت نفسها تنجذب إلى هذا الطريق وتتمسك به.

لا تنكر وفاء أن تخرجها من كلية الإعلام شكل قاعدة صلبة لانطلاقتها الصحفية، فقد اكتسبت خلالها أسسًا حقيقية للعمل الإعلامي بفضل أساتذتها الذين تركوا بصمتهم العميقة في مسيرتها، فكان الدكتور محمود خليل مرشدًا لها في فن الحصول على الخبر، فعلّمها أن الخبر ليس مجرد معلومة بل قصة تحتاج إلى العناية والدقة.

أما الدكتورة عواطف عبدالرحمن فقد زرعت داخلها قواعد البحث المنهجي، وجعلتها تفهم أن المعرفة الصحفية تحتاج إلى الصبر والمثابرة قبل أن تتحول إلى نص نابض بالحياة، بينما علمها الدكتور أشرف صالح فن الإخراج الصحفي، وهو ترتيب الكلمات والصفحات بطريقة تجعل القارئ يعيش الحدث وكأنه جزء منه.

وخلال دراستها خاضت تجارب ميدانية مع بعض المشاهير الذين كانوا يفضلون إجراء الحوارات عبر الهاتف، وكانت آنذاك غير متمرسة لكنها تجربة علمتها الكثير، فكانت هذه اللحظات نواة لتطوير مهارات الاتصال بالمصادر بعد التخرج دون رهبة أو خوف، مع القدرة على الكتابة اعتمادا على المصدر نفسه والدردشة السريعة معه دون المساس بدقة أي معلومة.

في بداية عملها الصحفي بعد التخرج مباشرة عام 2000 واجهت وفاء الكثير من السخرية حسبما تروي، لكن أكثر ما أغضبها حينما طلب الأستاذ جلال دويدار رئيس تحرير الأخبار من عميد الكلية الدكتور الراحل فاروق أبوزيد 7 من خريجي الكلية للعمل في الجريدة شريطة أن يكون جميعهم ذكور وليس فيهم فتاة واحدة، وعندما سألت عن السبب، قال أبوزيد إن الفتيات يلتحقون بالعمل ثم يتزوجون ويحملون وينشغلون.

ظلت تلك الجملة في ذاكرتها فقررت تحدي الصورة النمطية عن النساء في عالم الصحافة، فالتحقت بجريدة المصري اليوم بعد زواجها وحملها بابنها الأول. وللمفارقة وُلد طفلها مبكرًا عن موعده بشهرين بسبب ضغط العمل بجولتها في جميع الاتحادات الرياضية باستاد القاهرة، أما ابنها الثاني فقد كان يوم ولادته هو يوم نشر مانشيت خاص بها لا يزال يتم تداوله حتى الآن، وتؤكد أنها من شدة عشقها للمهنة لم يفُتها خبر واحد وهي في إجازة الوضع رغم أنها لم تصرف لها مكافأة رغم إشادة رئيس التحرير بعملها خلال تلك الفترة.

في سطور كثيرة من رحلتها تظهر شجاعتها المهنية، فقد كانت تصعد إلى السقالات التي تصل إلى 4 أدوار وأكثر وهي حامل في شهورها الأخيرة، ولم يمنعها حملها ولا أمومتها من التفوق في مهنتها حتى وصلت إلى درجة مستشار وزير بفضل تفوقها المهني.

طوال عملها الممتد على مدار أكثر من 20 عامًا بقيت بعض المواقف محفورة في ذاكرتها، منها دهشة مانويل جوزيه حين صافحها في لقاء بالنادي الأهلي وقال البنات كمان في الكورة، فشعرت بضيق من أفقه الضيق وهو الرجل الأوروبي، لكن إصرارها في طرح الأسئلة جعله يشيد بها في النهاية.

أما الموقف الثاني فهو ملف تطوير أرض مطار إمبابة والدفاع عن حق الأهالي في عدم التهجير، وهو الملف الذي استجاب له الرئيس الراحل حسني مبارك للموضوعات التي أثارتها، لكنها لا تنسى حين تقدمت لجائزة التفوق الصحفي بملف متكامل لمدة 3 سنوات، ثم فوجئت بمنح الجائزة لاسم آخر قريب من الحزب الوطني، فعرفت أن حتى الجوائز في المهنة معركة تحتاج إلى مهارات من نوع آخر.

وفي مسيرتها الطويلة لم تكن التحديات أقل قسوة، فكانت رحلتها اليومية من 6 أكتوبر إلى وسط القاهرة شاقة ومكلفة، وكانت تبدأ يومها بعد الفجر تحمل طفلها كل صباح إلى أمها في إمبابة ثم تنطلق إلى الجريدة، مما أصاب الرضيع بالحساسية وأصابها بالتعب المزمن، لكنها لم تتراجع يومًا عن شغفها بالمهنة.

واجهت وفاء ما يواجهه كل من دخل الصحافة، من قلة المقابل المادي وكثرة السطو على المجهود، فعملت صباحًا في إحدى المدارس الخاصة لتمويل عملها في مجلة البداية التابعة لحزب الوفد رغم مساعدة أسرتها، لكنها شعرت أن واجبها أن تعتمد على نفسها، ثم تعرضت لسلب موضوعاتها من بعض المذيعين والصحفيين ممن عملوا معها.

وسط هذه الضغوط تلقت عروضًا تشبه الرشوة، مبالغ كبيرة تلقى أمام صحفية تحصل على القليل، لكنها بقيت صامدة تحافظ على مهنتها بقلب قابض على الجمر.

وعلى مدار 27 عامًا تفخر وفاء بقيادتها في المصري اليوم وبالجوائز التي حققتها مع زملائها، فالإدارة عندها ليست نوعا اجتماعي لكنها طريقة تفكير وانضباط، والنساء من واقع تجربتها أكثر حرصا على النجاح، وقد رافقتها في هذه الرحلة شخصيات تركت أثرًا كبيرًا في خطواتها، مثل الأستاذ أنور الهواري، والأستاذ الراحل محمد أبوذكرى بجريدة الأخبار، والدعم المعنوي الكبير للشاعر العظيم الراحل مجدي نجيب أبي الروحي، والأستاذ محمد السيد صالح الذي كان يعطى لها ولزملائها تليفونه الشخصي للتواصل مع المصادر في بدايات المصري اليوم.

وفي نهاية رحلتها الطويلة بقيت وصيتها المهنية ثابتة، إذ تؤمن أن النصائح لا يطبقها الصغار إلا بعد التجربة بأنفسهم وهذا في معظم المجالات، لكنها ترى أن هناك وصية واحدة تستحق أن تظل حاضرة في وجدان الأجيال الجديدة، وهي أن كل حرف يكتبه الصحفي يكتب عليه، وأن عليه أن يجعل هذه الحروف من نور.. نور يضئ له في دنياه وآخرته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى