ليلى عبدالمجيد.. جمعت بين ممارسة المهنة وصناعة من يمارسونها

حياة الدكتورة ليلى عبد المجيد كانت حافلة بالشغف منذ الصغر، فقد بدأ حبها للصحافة والكتابة في طفولتها واستمر معها طوال سنوات الثانوية والجامعة، وخاضت خلالها تجارب متتابعة شكلت شخصيتها وصقلت مهاراتها. ومع مرور الوقت تحولت الصحافة لديها من مجرد نشاط طفولي إلى رسالة أخلاقية تعلمها لطلابها، لتصبح كل تجربة جديدة امتدادًا لما قبلها، وخطوة نحو ما ستصبح عليه فيما بعد، رحلة متصلة من الحلم والقراءة والمثابرة.
أما طفولة الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذ الإعلام، وعميد كلية إعلام جامعة القاهرة الأسبق، فتفتح نافذة على زمن نقي تشكلت فيه ملامحها الأولى، فقد ولدت في الإسكندرية وعاشت عمرها كله في القاهرة وظلت الإسكندرية رغم البعد حاضرة فيها بما تمنحه من حس مرهف وخيال واسع، وكانت هذه المدينة الأولى جزءًا من تكوينها الإنساني الذي نما معها وصار جذرا خفيا في رؤيتها للصحافة وميلها إلى كل ما يحمل روح الإبداع.
ومنذ سنواتها الأولى أدركت أن الموهبة لا تدرس بل تنمو في التربة الصالحة، فكان البيت المليء بالمثقفين والأدباء ومكتبة عملاقة بكتب لا تنتهي هو تلك التربة، الأب كان شاعرًا وكاتبًا من كتاب الإذاعة القدامى، فربى أولاده على القراءة كأنها طقس يومي، وتعلمت منه ليلى أن تحب الكلمة وأن يكون للقلم احترام يليق به. ومن تلك البيئة بدأت خطواتها الأولى نحو عالم الكتابة.
وفي المدرسة كانت الصحافة المدرسية ملعبها الأول والإذاعة المدرسية صوتها الأول، أما في البيت فصنعت مجلتها الخاصة لأشقائها الصغار، يوزعون المهام عليها وهي تتولى التحرير والتنظيم، لذلك حين وصلت إلى المرحلة الثانوية وعرفت أن هناك معهدا للإعلام بجامعة القاهرة خارج التنسيق ويتطلب مقابلات واختبارات تقدمت بأوراقها وقبلت، لتكون ضمن الدفعة الثانية من دفعات المعهد عام 1972 قبل أن يتحول إلى كلية الإعلام في 1974. وكانت تلك النقلة علامة فارقة فتحت أمامها أبوابا جديدة.
ومنذ اللحظة الأولى أحاط بها أساتذة كبار، لكن تأثير الدكتور جلال الدين الحمامصي ظل الأعمق، وقد كانت تروي أنه علمهم الصحافة الأخلاقية وقدم لهم كتابه الصحيفة المثالية وفتح لهم باب الكتابة عبر مجلة صوت الجامعة، وهناك كتبت أول تحقيق لها مع الزميلات سلوى الخطيب وسناء صليحة عن حركات الشباب في باريس عام 1968 وكيف انتقلت إلى باقي البلدان، ورغم أن اسمها نشر بالخطأ ليلى عبدالحميد إلا أن فرحتها كانت طاغية. وكانت تلك اللحظة أول اعتراف مهني شعرت بقيمته.
وبعد تخرجها عام 1976 وزعهم الدكتور جلال على المؤسسات الصحفية، فذهبت إلى مؤسسة “الأخبار”، لكن بعد فترة صغيرة طلبت نقلها إلى “روزا اليوسف” و”صباح الخير”، وهناك بدأت رحلتها المهنية. ومن هذه النقطة بدأت تدرك أن الطريق الذي تسير فيه لا يزال يتشكل أمامها.
وجاء اليوم الذي غير مسارها بعدما اقترحت على رئيس قسمها تحقيقا عن البنية التحتية وقالت إنها تحتاج أسبوعين لإنجازه، ليجيبها بأن هذا ليس من طبائع العمل الصحفي وأن الموضوع يجب أن ينجز خلال يومين، حينذاك تركت القسم بلا تردد واتجهت إلى العمل الأكاديمي، وكانت تصف لاحقًا أنها كانت تسير إلى مكانها الحقيقي. وهكذا انحازت للدور الأبقى لا للأكثر صخبا.
ومن موضوعاتها التي ما زالت عالقة في ذاكرتها تحقيق عن تحويل المدارس التجارية إلى مدارس متخصصة نشرته في مجلة أكتوبر ووصفته بأنه أحدث ضجة في فترة السبعينيات، كذلك كتبت موضوعًا نقديًا عن فيلم “انتبهوا أيها السادة” ربطت فيه بين الفن وعلمي الاقتصاد والاجتماع، وحللت رواية عطفة خوخة بأسلوب نقدي لافت. وكانت تلك الأعمال انعكاسًا لرؤيتها التي تمزج بين الفن والمعرفة.
كان للدكتورة ليلى عبدالمجيد محطات شكلت وعيها الإنساني والمهني، من بينها لقاءات جمعتها بالدكتور عبدالملك عودة الرجل الذي جمع بين عمادة الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية ومعهد الدراسات الإفريقية، وقد ترك فيها أثرا إنسانيا سبق أثر العلم نفسه، فانعكس لاحقا على طريقتها في التعامل مع طلابها. كما كان لويس جريس رئيس تحرير “صباح الخير” واحدا من النماذج المهنية التي بقيت حاضرة في ذاكرتها، خاصة تعليقه في عام 82 حين بدأت تحضير الدكتوراه مؤكدا أن رحيلها عن الصحافة كان خسارة، تعليق ظل يحمل قيمة إنسانية عميقة رافقتها سنوات طويلة.
أما عام 1999 فعملت مع سناء البيسي لمدة عام كامل على مشروع استفتاء القرن في مجلة نصف الدنيا لتسليط الضوء على الشخصيات المميزة في القرن وأحداثه، وكان هذا العمل امتدادا لخبرتها وخبرتها المتراكمة في تحليل الظواهر والشخصيات.
وكانت تروي أنها لم تكن أستاذة تشرح وتغادر، ففي إحدى السنوات وقع طالب في أزمة كبيرة بسبب غياب الأب الذي يعمل في الخليج فاتصلت به وعرضت عليه حقيقة ما يمر به ابنه فاستقال الرجل فورا وعاد ليستقيم البيت من جديد. وقد اعتبرت تلك اللحظة تجسيدًا لما تؤمن به من أن التعليم عمل إنساني لا يقف داخل الفصل.
ولم تندم يوما على ترك الصحافة، فقد اختارت طريقًا أعمق يترك أثرا كبيرا في قلوب تلاميذها، إلا أنها كتبت تجربة إنسانية شديدة الخصوصية بعد رحيل زوجها الدكتور محمود علم الدين فكتبت كتاب سيرة ومسيرة كوثيقة حب ووفاء وقصة تلهم أجيال، وكانت تقول فيه إن زوجها لم يكن مجرد زوج بل كان رفيق روح، مؤكدة أن كتابة هذا الكتاب أعاد إليها توازنها الذي فقدته بعد وفاته وطمأنها على إرثه العلمي والإنساني. وهكذا تحولت الكتابة إلى ملجأ روحي يعيد بناء ما كسرته الفقد.
وابنتها مروة ورثت الكثير من والدها، اختارت طريقها بعيدًا عن الإعلام بحرية كاملة وبإنسانية تشبه تربيتها، لا تحب الظهور الإعلامي لكنها ناجحة وبارة بأهلها. وكان هذا الامتداد الإنساني جزءًا من رضائها العميق عن مسارها الأسري.
وفي ختام حديثها كانت تردد أن مهنتهم لا تعرف اليأس وأن الصحافة تحتاج إصرار ومبادئ وأن الطريق مهما كان صعبًا فإن التعب آخره نتيجة والنتيجة آخرها قيمة. وكانت تلك الخلاصة مرآة لمسيرتها كلها.



