مي ياقوت: استهدفتني قنوات الإخوان بسبب عملي
هذه شهادة الصحفية مي ياقوت، مدير تحرير الجمهورية للملف الأمني ونائب رئيس تحرير موقع المواطن، التي قررت أن تروي للمرصد المصري للصحافة والإعلام، ما حدث معها كي ﻻ يظل العنف الرقمي في الظل:
لا أعلم من أين أبدأ، ولكن صحافة المغامرة كانت في معظمها مواقف عنيفة، إلا أنها تستدعي السرد لبيان أهميتها في كشف الحقائق، وأن الأنثى في عملها الصحفي – مهما بلغت خطورته – ربما أنجزته وأبدعت فيه أكثر من نظرائها من الرجال، لأنها تتحدى فيه نفسها.
في البداية كان لي حظٌ سعيدٌ وشرفٌ كبيرٌ أن أَنضمَّ منذ أول يوم إلى قسم الحوادث الأسبوعي ملحق دموع الندم في جريدتي الغرّاء الجمهورية. وقد منحنا الراحل العظيم الأستاذ محمد علي إبراهيم، ومن بعده الراحل محمود نافع، ثم المحترم جمال عبد الرحيم، ومن بعده الأستاذ اللامع أحد أعمدة الصحافة الاستقصائية في مصر أشرف عبد الغني، فرصًا كبيرة في بداية مشواري؛ منذ كنتُ صحافية تحت التمرين ثم مُعَيَّنة ثم مناوبة ثم رئيسة للقسم. فقد كانوا يدعمون فكرة التحقيق الاستقصائي والمغامرة الصحفية، قائلين إنها صحافة حقيقية كاشفة ومغيّرة، تجبر المسؤول على التحرك، وأنها عادةً ما تكشف سبب مشكلة أو أزمة أو فساد، وعادةً أيضًا ما تعطي الحلول.
كان لي نصيب الأسد من المغامرات الصحفية منفردة أو مع زملائي في الملحق، وهو ما أتباهى به في تاريخي الصحفي كله. فقد تعرضتُ خلال كشفي لبؤر المخدرات للكثير من المواقف الصعبة والعنيفة.
أتذكر إحداها عندما كنت مع زميل من المتدربين، وذهبنا لأحد الأوكار الشهيرة وقتها في المثلث الذهبي بالقليوبية، تحديدًا في الخرقانية. وقد نسي زميلي إحدى التعليمات العامة بألا يندهش من أي خروقات، لكنه كان أول مرة يرى “دواليب” مخدرات، فأشار بإصبعه بدهشة كونهم كانوا يبيعونها علنًا. ففوجئنا ببائعها الذي تشوَّه وجهه بـ“البشلات” – كما يقولون – يقترب بعصبية موجِّهًا سيلًا من السباب. حاولت تهدئته بعد أن لمحت لافتة لعيادة طبيب، فقلت: “كان قصده يسألك على الدكتور”، ليوجه لي بعدها عبارات صعبة، إلا أنني تحملتها لإنجاز مهمتي الصحفية، ولم أتقهقر. وكانت كلمات أمٍّ مات ابنها بـ“الأوفر دوز” أو الجرعة الزائدة تزيدني ثباتًا انفعاليًا وإصرارًا على إكمال مهمتي.
مرة أخرى كُلِّفت بتغطية أحداث عين شمس، تحديدًا معسكر الإخوان الذي اتخذوه في الألف مسكن وقتها. تَنَكَّرتُ مع زميل لي كبائعة مناديل، وبالفعل دخلنا، حيث رصدنا كيف اتحد أصحاب “الدقون” مع أرباب السوابق متفقين على ألا يسمحوا للداخلية بالدخول مهما كلف الأمر. ورأينا كيف سمحت الجماعة الإرهابية لتجّار الصنف ببيع كميات للشباب في أمان تام، وكيف كانت غايتهم تبررها أي وسيلة. وفي آخر أيام المهمة وأثناء خروجنا، تعرّف أحد الأهالي على زميلي فناداه بصوت عالٍ، لنفاجأ بسباب جماعي من “الإخوانجية”. ونجونا لأننا ركضنا في الوقت المناسب نحو الشارع الذي كان في نهايته تمركز للداخلية. فلم يهتموا بكوني امرأة، إلا أنني آثرت كشف الحقيقة عمّا حدث.
أتذكر أيضًا بعد عرض ثاني حلقات فطين وبلبل، وهي سلسلة حلقات كنت قد ألّفتها في إطار مبادرة إيدك في إيدنا نحمي عقل ولادنا تحت إشراف قطاع الإعلام والعلاقات في وزارة الداخلية. وكانت فكرة جديدة من نوعها، انبثقت لدي بعد سلسلة تحقيقات مطوّلة نشرتها في الجمهورية عن سبب سرقة الإرهاب لعقول أطفالنا وتحويلهم إلى إرهابيين صغار أو مراهقين؛ مستشهدة بالأحداث وقتها في 2018 و2019 وما قبلهما، حيث كانت الجماعات الإرهابية تعمد إلى إنتاج كرتونات وألعاب فيديو جيم يهاجم فيها الطفل الجيش والشرطة، وإن فشل فبدلًا من “Game Over” تُكتب له: “مبروك لقد استشهدت”، لتغيير عقيدته تدريجيًا، ثم الدخول إليه عبر مواقع السوشيال ميديا. لأفاجَأ بعدها بهجوم من قنوات الإخوان الإرهابية على الحلقات، بزعم أننا “نحصّن عقل الطفل ضد الإرهاب”، إضافة إلى إرهاب لفظي وتهكمي وقتها من بعض مَن حُسبوا على التيار.
والحقيقة أن الوطن يحتاج دومًا إلى التكاتف، وإلى قواه الناعمة لتقف كتفًا بكتف كحائط صد؛ فالحروب لم تعد تُدار بالرصاصة، بل بتغيير الأفكار والمفاهيم وتشويش المعتقدات وتدمير الأجيال بأقل التكاليف. وهو ما رأيناه في حروب الجيلين الرابع والخامس؛ فمن يريد تدمير دولة في زمن حروب الاستشعار عن بُعد، يدمرها داخليًا أولًا.