حوارات

سلسلة حوارات| مستقبل المؤسسات الصحفية: نموذج اقتصادي لم يعد صالحًا.. هل المشكلة نقص مال أم خلل في النموذج؟

  • بقاء الصحافة مرهون بإعادة تعريف علاقتها بالجمهور لا بالإعلانات.. والخوف من التغيير أخطر على المؤسسات الصحفية من نقص التمويل

  • المؤسسة الصحفية تعيش في منطقة رمادية.. والخطر يبدأ حين ننكر منطق السوق أو الدور العام

  • القيمة الحقيقية للصحافة اليوم ليست في المحتوى.. بل في الثقة والتفسير

  • الجمهور المشتت لا ينتظر الصحافة بدافع العادة.. بل يختارها إن شعر بمعناها

تواجه المؤسسات الصحفية المصرية اليوم تحديات عدة تهدد وجود الكثير منها في ظل التحولات الرقمية المتسارعة والضغوط الاقتصادية، فضلا عن غياب تطبيقات/ ممارسات الاستدامة في معظم المؤسسات إن لم يكن جميعها.. ولهذا توجه المرصد المصري للصحافة والإعلام إلى الدكتورة رانيا صالح، أستاذة ريادة الأعمال في جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، والتي بينت المشكلات، وقدمت حلولا ونصائح لتجاوز التحديات والعقبات.
تقول أستاذة ريادة الأعمال في جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، إن المؤسسة الصحفية اليوم ككيان يعيش في منطقة رمادية لا يمكن الهروب منها: هي ليست مجرد مشروع محتوى يخضع بالكامل لمنطق العرض والطلب، وليست أيضًا مؤسسة معرفة بعيدة عن معايير السوق، بل هي مؤسسة ذات وظيفة عامة، لكن بقاءها مرهون بقدرتها على التفاوض اليومي مع الاقتصاد، وبالتالى التوتر بين الدور العام لتلك المؤسسات ومنطق السوق ليس عيبًا، بل حقيقتها الأساسية، والخطر يبدأ حين ننكر أحد الجانبين.
وترى الدكتورة رانيا صالح، أن الأزمة المالية التي تعيشها المؤسسات الصحفية مردها بالأساس الطريقة التي صُمِّمت بها المؤسسة لتحقيق الإيرادات والاستمرار اقتصاديًا. الإطار الذي يحدد: ما الذي تقدمه المؤسسة، ولمن تقدمه، وكيف تحقّق من خلاله دخلاً يضمن استدامتها.
 
وأوضحت صالح أن المؤسسات الصحفية التقليدية بُنيت على نموذج يقوم على إنتاج المحتوى الصحفي وجذب جمهور واسع، ثم تمويل هذا النشاط عبر الإعلانات،ﻻفتة إلى أن “هذا النموذج كان صالحًا في سياق تاريخي محدد، حين كان الوصول إلى المعلومات محدودًا، وكان الجمهور أكثر استقرارًا، وكانت الصحافة وسيطًا شبه حصري بين المعلِن والجمهور”.
لكن مع التحولات الرقمية وتغيّر سلوك الجمهور – وفق صالح – فقد هذا النموذج فعاليته. أصبح المحتوى متاحًا بكثرة، وتراجع اعتماد المعلنين على الصحف لصالح منصات رقمية أكثر دقة وأقل تكلفة، ولم يعد الجمهور مستعدًا تلقائيًا لدعم المؤسسات الصحفية بالطريقة نفسها، بالتالى تلك المؤسسات لا تعاني لأنها تفتقر إلى المال، بل لأنها تعتمد على طريقة في العمل والتمويل لم تعد تتوافق مع الواقع الاقتصادي والإعلامي الراهن.
وحول الافتراضات الاقتصادية التي بُني عليها النموذج التقليدي للمؤسسات الصحفية، وهل ما زالت هذه الافتراضات صالحة في ظل التحولات الرقمية وتغيّر سلوك الجمهور، تقول أستاذة ريادة الأعمال في جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، إن النموذج التقليدي بُني على افتراض قارئ وفيّ، جمهور واسع ومتجانس، واحتكار نسبي للمعلومة، مع اعتمد الإعلانات كمصدر تمويل مستقر. واستطردت: “اليوم، الجمهور مشتت، سريع الحركة، وغير ملتزم. ورغم ذلك، لا تزال بعض المؤسسات تتصرف وكأن القارئ ينتظرها بدافع العادة، لا بدافع الاختيار”.
وأكدت صالح أن القيمة الحقيقية التي تقدمها المؤسسة الصحفية اليوم لجمهورها لم تعد في المحتوى نفسه، فالمحتوى متاح في كل مكان؛ القيمة الحقيقية أصبحت في الثقة، والقدرة على التفسير، ومساعدة القارئ على فهم العالم لا مجرد متابعته. حين يتوقف القارئ عند منصة واحدة وسط عشرات، فذلك لأن هناك معنى إضافيًا شعر به، لا لأنه لم يجد الخبر في مكان آخر.
وأشارت صالح إلى أنه في كثير من الحالات، هذه القيمة مفترضة من داخل المؤسسة أكثر مما هي مُختبرة في السوق. المؤسسات تفترض أن أهميتها بديهية، بينما السوق لا يعترف بالبديهيات. إن لم يشعر الجمهور أن غياب المؤسسة سيترك فراغًا حقيقيًا في وعيه، فلن يدافع عنها.
ووفق صالح، توجد فجوة مؤلمة بين الجمهور الذي صُمم له المحتوى تاريخيًا، والجمهور الفعلي اليوم.. “أحيانًا يُكتب المحتوى بلغة عالية دقيقة، بينما المنصة نفسها يخاطبها جمهور مختلف تمامًا. الرسالة قد تكون جيدة، لكن تُرسل إلى صندوق بريد خاطئ”.
وحول إلى أي مدى يمكن النظر إلى الجمهور كشريك في الاستدامة المالية، وليس مجرد متلقٍ للمحتوى، تقول أستاذة ريادة الأعمال في جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، إنها ﻻ ترى استدامة حقيقية دون إعادة تعريف علاقة المؤسسة بجمهورها، مضيفة أن الجمهور هنا لا يمكن أن يكون مجرد متلقٍ، بل شريك يرى أن استمرار هذه المؤسسة يعني استمرار مساحة تمثّله وتعبّر عنه، فالشراكة هنا شعورية بقدر ما هي مالية.
وعن نماذج الإيرادات الأكثر واقعية وقابلية للاستدامة للمؤسسات الصحفية، خصوصًا في السياقات محدودة القدرة الشرائية، قالت صالح إنه بعد تراجع الإعلانات، لا يوجد نموذج واحد صالح للجميع، خاصة في سياقات محدودة الدخل ونزول الطبقات عدة درجات على السلم الاجتماعى، فما يبدو أكثر واقعية هو مزيج مرن: اشتراكات صغيرة، عضويات، تمويل جماعي لمشروعات محددة، وخدمات معرفية، فالاستدامة هنا تشبه السير بخطوات قصيرة ومتنوعة، لا القفز بحثًا عن حل سحري.
وتطرقت صالح إلى حدود الفصل أو الارتباط بين المحتوى الصحفي ومصادر التمويل، بما يحفظ الاستقلال التحريري، حيث قالت إن التمويل في حد ذاته ليس المشكلة، بل المشكلة هنا في غموض العلاقة معه. الاستقلال التحريري لا يتحقق بالفصل المطلق، بل بحوكمة واضحة وشفافية تجعل القارئ يرى الخط الفاصل بوضوح، لا أن يُطلب منه الثقة العمياء فيما يكتب وفيما يتلقى.
وتؤكد صالح أنه غالبًا ما لا تكون الصحافة نفسها هي العبء المالي الأكبر، بل الهياكل الإدارية والتنظيمية المتراكمة عبر الزمن، فالمنتج الصحفي يحمل فوقه تاريخًا تنظيميًا لا يخدم القارئ، ولكنه يستهلك الموارد.
وتقول إن الصحفي ليس تكلفة تشغيل فقط، بل أصل معرفي: خبرة، وذاكرة، وعلاقة ثقة مع الجمهور. حين يُستغنى عنه لتقليل النفقات، تخسر المؤسسة ما هو أبعد من راتب، تخسر جزءًا من رأس مالها غير المرئي.
وبسؤالها إلى أي مدى تسهم الثقافة التنظيمية داخل المؤسسات الصحفية في تعميق أزمتها المالية، سواء عبر مقاومة التغيير أو التمسك بنماذج تقليدية غير قابلة للاستمرار، قالت أستاذة ريادة الأعمال، إن الثقافة التنظيمية قد تكون أخطر من نقص المال. واستطردت: الخوف من التغيير، والتمسك بما “اعتدنا عليه”، يتحول إلى تكلفة خفية تلتهم أي فرصة للتجديد. الدفاع عن الماضي قد يبدو آمنًا، لكنه اقتصاديًا شديد الكلفة.
ونوهت صالح إلى أن كثير من القرارات الاقتصادية تُتخذ تحت ضغط اللحظة، لا ضمن رؤية طويلة الأمد، ولفتت إلى أن ضعف الحوكمة أو تداخل الأدوار بين التحريري والمالي يجعل حتى القرارات الحسنة الأثر محدودة أو متناقضة.
وشددت صالح – من منظور ريادي – على أن الخطر الأكبر على المؤسسة الصحفية هو الاستمرار في نموذج ثبت فشله، مشيرة إلى الانكماش المدروس مؤلم لكنه صادق، أما الاستمرار الأعمى فهو استنزاف بطيء بلا شجاعة.
وفي ختام حديثها للمرصد، رأت أستاذة ريادة الأعمال، أنه إذا أُعيد تأسيس مؤسسة صحفية اليوم بعقلية ريادية منذ اللحظة الأولى، فإنه يجب قبل أي محتوى أو توظيف الوقوف أمام سؤال واحد: هل هناك شخص حقيقي، يمكن تخيّله بوضوح، سيشعر أن هذه الصحافة كُتبت له تحديدًا؟ الإجابة الصادقة على هذا السؤال أهم من أي خطة مالية أو تحريرية لاحقة.
زر الذهاب إلى الأعلى