التقارير الإعلاميةسلايدر رئيسي

فخ الإسناد والتضليل: تحليل علمي لتفكيك خطاب الكراهية في تغطية إعلامية (دراسة حالة)

تحليل: مايكل فارس

أثار التصريح الذي نشرته قناة “القاهرة والناس” على لسان الإعلامية هند الضاوي بعنوان “خطة لتدريب 100 ألف مسيحي ليكونوا سفراء لإسرائيل في بلادهم”، لغطًا بين الصحفيين والإعلاميين من جهة، والجمهور عمومًا والمسيحيين منهم خصوصًا، حيث اعتبر كثيرون منهم أنه خطاب تحريضي ضد المسيحيين والإنجيليين على وجه الخصوص.

سنقوم في هذا التحليل العلمي على تفكيك العنوان، نظرا لما يحويه من تداخل معقد بين المعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وتحليله بناء على منهجية الأمم المتحدة والتعريفات الدولية المتعلقة بخطابات الكراهية التي تتطلب وجود لغة “ازدرائية” أو “تمييزية” تهاجم الشخص بناءً على هويته، ووضع مقاربة علمية ومهنية نهائية تكون دليلًا إرشاديًا للصحفيين لتفكيك وتحليل خطابات الكراهية فيما بعد. 

ما هو خطاب الكراهية؟ وكيف نفهمه؟

يقع الكثير من الصحفيين والإعلاميين، تحت وطأة سوء تفسير المصطلحات أو خلط المعاني، فيفهمون التنميط السلبي أو التنمر على أنه خطاب كراهية، فعملية ضبط المصطلحات أساسية لوضع مقاربة صحيحة.

العبارة من كلمتين “خطاب” و”كراهية”.. هنا الخطاب يمثل أي “وسيلة ناقلة” أي نصي، مرئي، وسمعي؛ والكراهية كمشاعر لن ترى إلا بتجسدها في فعل ظاهر، وعرفته مبادئ كامدن حول حرية التعبير والمساواة بأنه “حالة ذهنية تتسم بانفعالات حادة وغير عقلانية من العداء والمقت والاحتقار تجاه المجموعة أو الشخص المُحرض ضده”.

لا يوجد تعريف شامل عالميًا لخطاب الكراهية، بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، بسبب الاختلاف الثقافي بين المجتمعات، فهذا المفهوم محل نزاع كبير، بسبب أن ما يراه مجتمع ما مثل فرنسا أنه تعبيرًا أصيلًا عن حرية الرأي والتعبير، وقاعدة مهمة من قواعد المجتمع المدني العلماني، تراه مجتمعات أخرى أنه انتهاكًا للمقدسات والعادات والتقاليد والآداب العامة، هذه الاختلافات خلقت قيودًا لوضع تعريف موحد يمكن تطبيقه في كل البيئات. 

ورغم ذلك، أصدرت الأمم المتحدة وثيقة “استراتيجية الأمم المتحدة وخطة عملها بشأن خطاب الكراهية” عام 2019، اعترفت فيها بأنه لا يوجد تعريف محدد جامع في القانون الدولي للمصطلح ولكنها وضعت مقاربة وعرفته بأنه “أي نوع من التواصل -الشفهي أو الكتابي أو السلوكي- الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الأصل أو نوع الجنس أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهُوِيَّة.

 وهذا الخطاب يستند في جذوره لمشاعر التعصب والكراهيَة التي تغذيها في الوقت نفسه. هنا معيار “مشاعر التعصب والكراهية” مهم جدا لفهم دلالة ما نقوم بتوصيفه خطأ بأنه “خطاب كراهية”.

لتوفير إطار عمل موحد للأمم المتحدة لمعالجة القضية على الصعيد العالمي، تُعرِّف استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة بشأن خطاب الكراهية خطاب الكراهية بأنه “أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو النسب أو النوع الاجتماعي أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية”.

اختبار المعايير لتحديد هل الخطاب محرض على الكراهية أم لا؟.. دراسة حالة

سأقوم هنا بتطبيق علمي وعملي لـ(اختبار المعايير لتحديد هل الخطاب محرض على الكراهية أم لا؟)، الذي وضعته واعتمدته المفوضية السامية لحقوق الإنسان والتي جاءت بعنوان “خطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية”، وذلك على التصريح المنسوب لـ”هند الضاوي”، ويتكون الاختبار من 6 معايير هامة وهي:

  1. السياق الاجتماعي والسياسي
  2. حالة المتحدث
  3. النية لتحريض الجمهور ضد مجموعة مستهدفة
  4. المحتوى وشكل الخطاب
  5. مدى نشر الخطاب
  6. أرجحية الضرر

  • السياق الاجتماعي والسياسي

يجب تحليله؛ لأن له دور مهم في تقدير ما إذا كانت تعبيرات معينة يمكن أن تحرض على التمييز أو العداوة أو العنف ضد مجموعة ما، ويجب وضع فعل الكلام في السياق الاجتماعي والسياسي السائد عند صدور الكلام ونشره.

السياق الاجتماعي داخل مصر به توتر دفين ومصطلحات غير منضبطة بها تعميم مثل “100 ألف مسيحي” كفيل لإحداث لغط داخل المجتمع، حيث تم اقتطاع العنوان، على أنه أي مسيحي، ولكن أي مسيحي تحديدًا “مصري عربي، أوروبي،….”، وأي مذهب “أرثوذكسي، كاثوليكي، بروتستانتي، مسيحية صهيونية، ….”، ونظرا للحساسية في المجتمع سيفهم المسيحيون أنه تشويه وهجوم على المسيحيين عمومًا، في حين لو تم وضع بعض المصطلحات لوضع سياق كامل أو التحديد بدلا من التعميم لما حدث لغط.

كما تقتضي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية وضع المفردات المناسبة في مناقشة أي أحداث خاصة في حال تعرضها للهويات الدينية أو العرقية أو الإثنية، في توقيت تنتشر به الشائعات أو المعلومات المضللة على منصات التواصل الاجتماعي بشكل متزايد، عطفًا على تراكمات سلبية دفينة في قضايا التعامل مع الملفات المسيحية إعلاميًا، سواء التجاهل في قضايا الفتن الطائفية، أو الأمر الذي ينتج عنه خطاب انفعالي عاطفي في الردود، التي تعكس مشاعر سلبية وحساسية مفرطة في إطار ذكر الهوية الدينية في أي إطار سلبي.

جاء توقيت نشر العنوان، في توقيت حساس، لازالت فيه أصداء قضية تشغل الغالبية من المسيحيين وهي قضية اختفاء مسيحية في سوهاج، وقبلها بأشهر تهجير أسرة مسيحية من منزلها في المنيا، في ظل صمت إعلامي رسمي، يقابله لغة عاطفية على موقع التواصل الاجتماعي.

ونظرا للحساسية، تم تفسير العنوان على أنه تحريض وكراهية ضد المسيحيين.

السياق السياسي: الدستور والقوانين في مصر كافية لضمان المواطنة والمساواة والعدالة بين المواطنين، ورغم المواد الكثيرة سنكتفي بذكر المادة (53) من الدستور المصري التي تشير إلى أن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر، التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”.

وفي ظل السياق السياسي، المادة (19) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018 على الآتي: “يُحظر على الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني، نشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يتضمن تحريضاً على مخالفة القانون أو دعوات للعنف أو الكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية أو يتضمن طعناً في أعراض الأفراد أو سباً أو قذفاً لهم أو إهانة للأديان السماوية أو للعقائد الدينية.

ولا تكمن الأزمة الدائمة في النصوص بل تفسيرها وتأويلها، وتطبيقها من قبل الجهات المعنية، الأمر الذي شكل عائقًا وتوترات دفينة حال عدم تطبيق تلك المواد في الفتن الطائفية.

  • حالة المتحدث:

 ينبغي دراسة وضع المتكلم أو حالته في المجتمع، وعلى وجه الخصوص مركزه الفردي أو مركز منظمته في بيئة الجمهور الذي يوجه إليه الخطاب.

هنا؛ هند الضاوي، صحفية ومتخصصة في التحليل السياسي، ومقدمة برامج شهيرة في مصر، تخرّجت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتخصصت في العلوم السياسية. وخلال مسيرتها المهنية عملت على تحليل القضايا الإقليمية والدولية من منظور سياسي، وتتمتع بشهرة واسعة في ذلك المجال، ولم تتعاط مع القضايا الدينية والمذهبية والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر، حيث انصب عملها على التحليل السياسي. 

  • النية لتحريض الجمهور ضد مجموعة مستهدفة

تنص المادة (20) من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في الجزء الثاني منها على أن “تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف”، ووفق تفسير الأمم المتحدة تفترض المادة وجود “نية” للدعوة والتحريض” فالإهمال والتهور ليسا كافيين لتشكيل موقف تنطبق عليه المادة، أي يجب أن يكون هناك دعوة وتحريض متعمد لا مجرد الانتشار أو التداول، لذا يجب المقاربة وتفعيّل علاقة ثلاثية الأبعاد بين “بين غرض الخطاب وموضوعة والجمهور المتلقي”.

 

  • الغرض: سياسي
  • موضوع الخطاب: سياسي
  • المتلقي: جمهور عام

 

وعرفت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان “التحريض على الكراهية” تفصيليًّا كالتالي: “التحريض هو خطاب يتعلق بجماعات قومية أو عرقية أو دينية، يجلب خطرًا وشيكًا بحدوث تمييز أو عداء أو عنف ضد أشخاص ينتمون إلى هذه الجماعات، وتشير عبارة الكراهية أو العداء إلى المشاعر الحادة وغير المنطقية التي تعبر عن التحقير والازدراء والعداوة تجاه المجموعة المستهدفة”.

 

لذا بمقاربة التعريفات فهنا لا تتوفر نية التحريض ضد المسيحيين بشكل خاص.

 

ووفق المعيار الثاني الخاص بحالة المتحدث، فقضايا “الضاوي” سياسية وليست دينية، ولفهم المقاربة، تخيل أن داعية إسلامي مثل عبد الله رشدي أطلق هذا التصريح: “خطة لتدريب 100 ألف مسيحي ليكونوا سفراء لإسرائيل في بلادهم”، هنا شخصية المتحدث والنية تغيّرا جزئيًا، والنية هنا لإصداره عشرات الفتاوى التي تحرم تهنئة الأقباط بأعيادهم وغيرها.

  • المحتوى وشكل الخطاب

 يشكل محتوى الكلام عنصرًا مهما في التحريض، ويتضمن تحليل المحتوى مدى كون الخطاب استفزازيًّا ومباشرًا. ويجب التركيز على الشكل والأسلوب وطبيعة الحجج المستخدمة في الكلام.

المحتوى المضلل

في العنوان المشار إليه، ووفق تعريف التحريض، لا يمكننا تطبيق مفهوم “التحريض” ضد المسيحيين، ولكن يمكننا وضع مقاربة “المحتوى المضلل” وهو أحد أشكال التضليل في وسائل الإعلام، حيث تُستخدم معلومات صحيحة تمامًا، ولكن بطريقة إما أن تخفي المعني الحقيقي أو يوضع في سياق خاطئ أو يقتطع من سياقه، وفي النهاية يفهم منه شيء مغاير للمعنى الحقيقي للمعلومات.

وفي التصريح سياق ناقص ومقتطع من سياقه الكلي، فهذه الخطة وهذا التدريب هناك بالفعل من أعلن عنه رسميًا وهو مايك إيفانز الكاتب والقيادي الإنجيلي البارز من التيار الإنجيلي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، واقتطاع السياق من التصريح أعطي معنى مغايرا بأن “الضاوي” نفسها تعلن عن تلك الخطة، لذا رغم أن المعلومات بالتصريح صحيحة، ولكن مع سياق ناقص؛ الأمر الذي يعد تضليلًا إعلاميًا.

الإسناد الخاطئ

من قواعد الصحافة المهنية أن ينسب القول لقائله، وهذا التصريح يُنسب لهند الضاوي، يفهم منه أنها هي من صرحت بذلك، ومهنيًا يفتقر إلى الإسناد الصحيح والدقة، لأنه لم يُذكر المصدر الأصلي للتصريح، أو السياق الكامل، مما يجعله يبدو كتصريح مستقل من الضاوي، في حين أن التصريح على لسان مايك إيفانز الكاتب والقيادي الإنجيلي البارز من التيار الإنجيلي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي نظم مؤخراً قمة في القدس تضمنت زيارة لأكثر من 1000 قسيس وزعيم إنجيلي أمريكي إلى إسرائيل في أوائل ديسمبر 2025. كانت أهداف هذه الزيارة التي نُظمت بالتعاون مع وزارة الخارجية الإسرائيلية هي تدريب المشاركين ليكونوا “سفراء غير رسميين” لإسرائيل في مجتمعاتهم بالولايات المتحدة لمواجهة تراجع الدعم لإسرائيل وتصاعد معاداة السامية عالمياً.

  • مدى نشر الخطاب 

تشرح الأمم المتحدة بمعنى مدى تأثير الخطاب وطبيعته العامة وكبر جمهوره وحجمه، وما إذا كان علنيًّا وما هي وسائل النشر؟ وما إذا تم نشره في مكان واحد أو عدة وسائل إعلام أو إنترنت؟ وما درجة تواتر الاتصالات وحجمها ومداها، وما إذا كان لدى الجمهور أي وسيلة للتصدي للتحريض؟ وما إذا كان تم تعميم البيان (العمل) في بيئة محصورة أو مفتوحة على نطاق واسع لعامة الناس.

وهذا التصريح انتشر عبر قناة “القاهرة والناس” ومنصاتها على السوشيال ميديا وتحديدا الفيسبوك، والذى أدى لصدى واسع داخل الأوساط المصرية.

  • أرجحية الضرر

التحريض هو بالتحديد جريمة غير تامة، وليس من الضروري ارتكاب الفعل الذي دعا إليه خطاب التحريض حتى يعتبر ذلك الخطاب جريمة، لكن يجب تحديد درجة المخاطر الناجمة عنه، وهذا يعني أن على المحاكم تقرير ثمة احتمال بأن ينجح الخطاب في التحريض على عمل فعلي ضد المجموعة المستهدفة.

من خلال المقاربات السابقة للمعايير، لا توجد نية تحريض لدى الضاوي، بل معلومات مضللة لاقتطاعها من سياقها العام وخطأ في الإسناد، الأمر الذي ينتفي معه أرجحية الضرر المبنى على التحريض.

هل العنوان المشار إليه يعد خطاب كراهية؟ 

 

لا.. هذا العنوان لا يصنف كخطاب كراهية، لأن من أساسيات وجوهر التصنيف أن يُبنى الخطاب على تصورات سلبية غير حقيقية ضد فئة أو جماعة بها تقليل أو تحقير أو ازدراء مبنى على الهوية “دينية، عرقية، إثنية،….”، وبعد المقاربات الـ6 السابقة، لا يمكن تصنيف العنوان كخطاب كراهية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى