بروفايل

منى عبد الراضي.. سيرة صحفية تشكّلت في بيت مناضل عمالي

في أسرة عمالية ذات تاريخ طويل في النضال، نشأت الصحفية منى عبد الراضي. كان والدها، سيد عبد الراضي، أحد أبرز رموز الحراك العمالي منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم يكن مجرد مناضل عمالي، بل مثقفا عضويا حول بيته إلى مساحة مفتوحة للفكر والسياسة.
غرفة كبيرة ممتلئة بالكتب، وأوراق، ومذكرات، وخبايا، وصالون ثقافي-سياسي يُعقد بانتظام أسبوعيًا، شكّل المشهد اليومي لطفولة منى.
ونما – وسط هذا المناخ – فضولها، لا بوصفه فضول طفلة، بل كفضول من يبحث عن معنى أوسع للعالم، فبدأت مسيرتها المهنية في جريدة الأهالي كإدارية، قبل أن تتعلم الإخراج الصحفي داخل المؤسسة نفسها. كانت تعمل وتتعلم في الوقت ذاته، وتشق طريقها بهدوء، حتى تخرجت في كلية التجارة عام 2003، بعد أن سبقت الدراسةَ بخبرة عملية حقيقية.
في تلك المرحلة، تداخل العمل الصحفي مع النشاط السياسي. شاركت في العمل النسوي، وتولت مسؤوليات داخل اتحاد النساء التقدمي، وكانت تغطي الأنشطة النسوية بدافع الإيمان بدور المرأة، واستحقاقاتها، وضرورة أن يكون لها صوت حاضر في المجال العام. بالنسبة لها، لم يكن ذلك نشاطًا جانبيًا، بل امتدادًا طبيعيًا لإرث تربّت عليه.
داخل «الأهالي»، كان للدكتور رفعت السعيد، رئيس مجلس إدارة الجريدة ورئيس الحزب وعضو مجلس الشورى آنذاك، دور خاص في تجربتها. لم يكن مجرد رئيسٍ في العمل، بل كان مفكرًا يثق في رأيها، يمنحها مقاله الأسبوعي، ويسألها بجدية: «إيه رأيك؟».
لحظات من هذا النوع صنعت ثقة مبكرة في نفسها، ورسّخت إحساسها بالمسؤولية تجاه الكلمة.
على المستوى الشخصي، لعب زوجها دورًا محوريًا في تطورها؛ ومرشدًا حقيقيًا في الكتابة. علّمها كيف تُصاغ الجملة، وكيف يُبنى المعنى. تتذكر حين كتبت أول صفحتين من روايتها الأولى، المقرر صدورها في معرض الكتاب عام 2026، كان هو القارئ الأول، والناقد الصريح، والرفيق طوال رحلة الكتابة.
لكن المسار لم يكن خاليًا من الفقد. شقيقها الأصغر، الذي تعلّم الصحافة على يد زوجها، وأظهر موهبة لافتة في سن مبكرة، رحل بمرض غير معلوم قبل أن يلتحق بنقابة الصحفيين. رحيله ترك فراغًا هائلًا، وأوقفها عن أي نشاط لمدة ثلاث سنوات. كان حاضرًا في ذاكرتها طوال الوقت، كظل لا يغيب.
لم تكن منى صحفية مكتب، بل صحفية مواجهة. أمضت سنوات من عمرها في العمل العام وخدمة زملائها، ودخلت معارك طويلة من أجل تعيين الصحفيين والدفاع عن حقوقهم. كانت دائمًا في الصف الأول، تدافع عن الناس، وتكتب بضمير من يشعر بالألم، لا من يراقبه من بعيد. لم تكن تكتب ما يُطلب منها، بل ما تحبه، بطريقتها، حتى لو كلّفها ذلك الكثير.
قضت 26 عامًا كاملة داخل جريدة الأهالي، سنوات طويلة صنعت فيها نفسها، وصنعت الجريدة جزءًا من هويتها. بدأت في الإخراج الصحفي، وتدرجت حتى صارت مديرة مكتب رئيس مجلس الإدارة، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى موقع أمينة الاتحاد النسائي، حيث بدأت مرحلة جديدة من التعمق في قضايا المرأة وحياتها اليومية، لا بوصفها شعارًا، بل باعتبارها تجربة إنسانية واجتماعية معقّدة.
بعد 26 عاما من العمل في جريدة الأهالي، تعرضت منى للفصل. حينها لم تشعر بالانكسار بقدر ما شعرت بأن الوقت قد حان لأن تمتهن الصحافة عن قناعة كاملة. كتبت في مجلة «المجلة» اللندنية، وأسهمت بمواد في جريدة الشرق الأوسط، تولت رئاسة تحرير جريدة الثقافة الحرة وأصبحت مدير تحرير موقع العربي، وحرصت على الالتحاق بدورات تدريبية مختلفة، مدفوعة بإحساس دائم بأن الصحفي الحقيقي لا يتوقف عن التعلّم.
ترى منى أن الصحافة اليوم ليست كما كانت؛ الرقابة أكبر، والمجتمع أقل اهتمامًا بالصحف. لم يعد كثيرون يقرأون من أجل المعرفة أو التثقيف، بل صارت الصحافة — في نظرها — أسيرة العناوين الجذابة والسطحية. هذا التحول أصابها بإحباط حقيقي، خاصة وهي القادمة من جيل آمن بدور الصحافة التنويري والرقابي.
تجربتها الحزبية لم تكن منفصلة عن الجريدة التي عملت بها. انتماؤها السياسي كلّفها الكثير، وخسرت بسببه مواقع وفرصًا، لكنها لم تندم. تدرجت داخل الحزب من عضوة عادية، إلى أمينة القاهرة، ثم أمينة عامة للمرأة، وكانت في كل هذه المواقع منحازة للمرأة المظلومة، لا بوصفها قضية فقط، بل باعتبارها كائنًا يقاتل من أجل كرامته. تقول إن رأيها في المرأة تغيّر مع التجربة، فأدركت أن النساء أكثر قوة مما يتصورن، وأكثر شراسة في الدفاع عن حقوقهن حين تُمس كرامتهن.
لم تكن مواقفها السياسية تمر بلا ثمن. تعرضت للعقاب والمحاسبة بسبب آرائها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها لم تتراجع. تؤمن أن الإنسانية هي القيمة الأهم في كل ما تكتب، وأنها لا تستطيع أن تفصل نفسها عن مشاعر الإنسان المظلوم، لأنها تشعر بما يشعر به، وتكتب من هذا الموقع، لا من برج عاجي.
أكثر ما يوجعها في المهنة الآن هو غياب الحرية، فهي ترى أن «إحنا مش أحرار، ومش كل اللي نعرفه نقدر نكتبه».
وترى أيضا أن حرية الرأي والتعبير تمر بأزمة حقيقية، وأن الصحفي يعمل في وقت بالغ الصعوبة، محاصرًا بالخوف والقيود.
وحين تسأل نفسها: ماذا لو عاد بها الزمن؟ تجيب بأنها كانت ستجتهد أكثر، وتتطلع أبعد. تعترف بأنها فرّطت في فرصة مهمة حين لم تتمسك بالاستمرار في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، وتعتبر ذلك أحد اختياراتها الصعبة التي تحملت نتائجها.
اليوم، تستعد منى عبد الراضي لصدور كتابها خلال الفترة المقبلة، ليس بدافع الشهرة أو التوثيق الذاتي، بل خوفًا من ضياع تاريخ أبيها، أحد رموز الحركة العمالية، وتاريخ جدتها، وجزء كبير من ذاكرة عائلة ناضلت في صمت. تكتب لأن الذاكرة إذا لم تُدوَّن تضيع، ولأنها لا تريد أن يضيع تاريخ أبيها كما ضاع تاريخ كثيرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى