صلاح عيسي.. “المشاغب” الذي سرد حكايات من دفتر الوطن
كاتب صحفي ومؤرخ مصري، استطاع أن يسرد أحداث التاريخ بلغة بسيطة وأسلوب جذاب، كسر من جموديتها ورتابة تفاصيلها، تبحر في دراسات عميقة أسهمت في تنوير العقول، وأعادت للنوستالجيا ” أى الحنين إلى الماضي” هيبته ومكانته الخاصة في قلوب محبيه، وهو أحد رموز ومنظري التيار اليساري في مصر، كان” عنيدًا” في مناصرة الحق، و” مقاوم” يدافع عن آراءه وأفكاره مهما كان الثمن،” عزيز النفس” يترفع عن طلب العوز من الغير، مهما بدا الأمر أمامه صعبًا، إنه الصحفي الراحل صلاح عيسي، والذي تحل اليوم ذكري ميلاده في مثل هذا اليوم، وبهذه المناسبة يقدم المرصد المصري للصحافة والإعلام لمحة من مشوار حياته الذي انتهي برحيله عن دنيانا قبل ثلاثة أعوام.
نشأته
ولد الكاتب الصحفي الكبير صلاح عيسي فى 14 أكتوبر عام 1939، فى قرية “بشلا ” بمحافظة الدقهلية، حصل على بكالوريوس فى الخدمة الاجتماعية عام 1961، وبعد تخرجه اتجه إلى العمل داخل عدد من الوحدات المحلية في قرى مصر، واستمر ذلك قرابة الخمس سنوات، وفي هذه الأثناء اتجه إلى كتابة القصة القصيرة، قبل أن يقرر لاحقا الولوج إلى بوابة التاريخ وتناول ما وقع فيه من أحداث، ساهمت في تشكيل الوعي بقضايا ذلك الزمن البعيد.
حياته الصحفية
جذبت” الصحافة” ببريقها أحلام الفتي الشاب، الذي كانت غوايته الكتابة، فلم يستمر في عمله داخل الوحدات الريفية سوى سنوات قليلة، حتى كانت وجهته وانطلاقته الحقيقية من خلال جريدة الجمهورية في عام 1972، التى وجد فيها مبتغاه وما يصبو إليه، فعلى صفحاتها كانت له انفراداته المتميزة التى لفتت الأنظار إليه.
شارك الصحفي الراحل صلاح عيسي في تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات منها: الكتاب والثقافة الوطنية والأهالى، واليسار، والصحفيون.
وتعد جريدة “القاهرة”، الصادرة عن وزارة الثقافة والتى رأس تحريرها لفترة من الوقت، قبل أن يحولها وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى من مجلة دورية إلى صحيفة ثقافية أسبوعية، من أهم المحطات في مشواره المهني الذي استمر نحو ربع قرن من الزمان.
ورغم أن ميوله كان يسارية، لكنه كان منفتحًا على كافة التيارات الفكرية الليبرالية والإسلامية، ظهر ذلك واضحًا عندما كان يرأس تحرير جريدة “القاهرة” الأسبوعية، حيث فتح الباب لكل التيارات لعرض أفكارها، فعلى صفحاتها نُشرت كتابات ليساريون وليبراليون وكتّاب من الإسلاميين من جماعات الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين ومن كتّاب الشيعة أيضاً، وقد وصف البعض فترة رئاسة” عيسي” لتلك الجريدة بأنها”ومضة من قبسات الفكر المستنير المفقود”، نظرًا لمساحة الحرية التى سمحت بعرض كل الآراء والأفكار دون تقيد أو محاباة.
وكان يُصدر كتاباً هدية مع جريدة “القاهرة” كنوع من نشر الثقافة، وكلها كتب تنويرية لكتّاب معاصرين مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد حسن الزيات ورسائل الشيخ محمد عبده، وغيرهم.
اشتهر” عيسي” بكتابة مقالاته تحت عنوان “مشاغبات”، والتى عرض من خلالها وجهات نظره اتجاه معظم القضايا المصرية والعربية، في عدد من الصحف والجرائد من بينها: المصري اليوم.
شغل الكاتب الصحفي صلاح عيسي منصب الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للصحافة، كما كان وكيلا لنقابة الصحفيين، وعضوًا بمجلس إدارتها في مطلع التسعينيات.
اعتقاله
اعتقل صلاح عيسي لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966 تكرر اعتقاله خلال عدة سنوات مابين 1968 و 1981، وتعرض للفصل التعسفي من عمله الصحفى في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية.
رغم ” مشاغباته”، كان” عيسي” عاشقًا لمصر، وطنيا مخلصا لقضايا وطنه، انصب عداؤه نحو الصهيونية والإمبريالية.
عُرف عنه اطلاعه الواسع و ثقافته الموسوعية بين السياسة والفكر والثقافة والفن، وفى معرض حديثه عن صلاح عيسى كتب عبدالله السناوى، رئيس تحرير جريدة العربى الناصرى الأسبق، يقول:” كانت جريدة الأهالى، التي تحمّل مسؤوليتها التحريرية لسبع سنوات بعد اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات عام ١٩٨١، أكثر الصحف المصرية نفوذا وتأثيرا واحتراما، وكان نجمها الأول بلا منازع. وفى عهد مبارك وجدت (الأهالى) في نفسها الشجاعة الكافية لتحمل مسؤولية توسيع هامش المعارضة إلى حدود غير معتادة. وحظيت بثقة الرأى العام ووصل توزيعها إلى ما يتجاوز الـ(١٥٠) ألف نسخة”.
وأضاف السناوى:” فى بواكير الصبا بالستينيات جرى اعتقاله لأول مرة بتهمة الانضمام لأحد التنظيمات السرية، وبسبب تمرده السياسى تعرض” عيسي” للفصل من الجمهورية، في عهد السادات، على خلفية معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، وجرى اعتقاله في سجن القلعة بتهمة اعتبرها عارا على النظام وهى: العداء لإسرائيل، كان ذلك في يناير١٩٨١ ورافقه إلى المعتقل الخبير البارز في الشؤون الإفريقية حلمى شعراوى”.
مؤلفاته
نشرالكاتب الراحل صلاح عيسي أولى كتبه، وكانت عن الثورة العرابية عام 1979، وتنوعت مؤلفاته التى تزيد عن 20 كتابا ما بين التاريخ والفكر السياسى والإجتماعى والأدب منها: تباريح جريج, ومثقفون وعسكر, ودستور فى صندوق القمامة, ورجال ريا وسكينة, وحكايات من دفتر الوطن, والبرنسيسة والأفندى وغيرها.
شخصيته
في مقاله المنشور، قال الصحفي أحمد الخميسي، واصفًا صديقه صلاح عيسي، مما جاء فيه:” لصلاح عيسى رفعة النفس، والصلابة، والتماسك، والقدرة المذهلة على اشاعة الأمل والتماسك، والحرص على غرس روح المقاومة، وكان يقوم بكل ذلك ببساطة متناهية بعيدًا عن أي تشنج أو افتعال”.
أما الكاتب الصحفي والروائي محمد جبريل، والذي زامل الكاتب الراحل صلا ح عيسي داخل جدران جريدة الجمهورية، قال:”صلاح عيسى هو خير مثال للمؤرخ الذي تمكن أن يتناول بقلمه التاريخ المصري بتدبر دون تحيز، حيث أن الواقعية هي التي حكمت تناوله للشخصيات والأحداث التاريخية”.
وأضاف: نجح “عيسي” في أن يؤسس لمدرسة جديدة في النقد، تجاوز بها ما كان سائدًا وقتها في عالم وعلم النقد، فحين تعود بالذاكرة إلى الوراء قليلًا، تجد أن المدارس النقدية التي كانت سائدة وقتها، هي عبارة عن أقلام، تغلب عليها النزعة الحزبية والنظرة الضيقة للأمور والأحداث.
بينما تحدث الكاتب الكبير محمد العزبي، أحد الذين عاصروا صلاح عيسى منذ البدايات الأولى في عالم الصحافة، والذين ذاقوا مرارة الاعتقال سويًا قائلًا:”برحيل صلاح عيسي يمكن القول إننا بذلك نسطر نهايات جيل من الصحفيين المتلزمين سياسيًا والمخلصين للوطن قولًا وعملًا”.
وأردف: رغم أن “عيسى” في الأساس صحفي، إلا أنه نجح في أن يجمع بين الحسنين، عندما طرق باب الثقافة، فأجاد وأبدع، بعدما استطاع أن يقدم للمكتبة المصرية والعربية العديد من المؤلفات بالغة القيمة وشديدة الثراء.
واعتبر “العزبي” أن أهم ما يميز صلاح عيسى في كتاباته هو أن دائمًا ما كان يستهدي بضميره، والدليل كتابه عن “ريا وسكينة”، والذي قدمهم بصورة صحفية بالغة القيمة وبشكل شديد الاحترام، بعيدًا عما كان سائد في طريقة تناولهم.
وعن أبرز المواقف التي جمعته مع “عيسي” والتي لا تنساها ذاكرة”العزبي”، سرد الكتاب الكبير بعضًا منها، وهي أنهم أثناء عملهم سويًا في جريدة الجمهورية، وتم منع صاحب المشاغبات من الكتابة، وهو ما جعل الكاتب الراحل مصطفى بهجت بدوي رئيس التحرير وقتها، يحتال على ذلك القرار بطريقة تتمثل في أن يكتب صلاح عيسي المقالات دون أن يوقعه باسمه، حيث اختار أن تكون تلك المقالات باسم “المقريزي”. وأوضح أنه لعب دور «المحرض» الذي أقنعه بضرورة الموافقة والاستمرار في الكتابة مهما كانت الظروف.
هذا فيما لم يختلف رأي المؤرخ والكاتب الصحفي الكبير عباس الطرابيلي كثيرًا عن سابقيه، حيث اعتبر أن صلاح عيسى نجح في أن يغوص في التاريخ المصري الحديث بطريقة لم يسبقه إليها أحد، تاركًا خلفه ثروة من الكتب والمؤلفات غير التقليدية، يتصدرها بالطبع كتابه”شخصيات لها العجب” وكتابه عن الثورة العرابية.
واستطرد مبينًا، أن أهم ما يميز صلاح عيسى خلال سيرته هو شراسته في النضال، والتي مكنته من أن يحجز لنفسه مكانة مميزة وسط جيل العمالقة من المؤرخين.
وعن أبرز المواقف التي جمعته بالراحل، أكد أنه خلال أحد الحوارات التليفزيونية التي جمعت بينهما، بدت عليه أثناء اللقاء الإرهاق الشديد والتعب، وهاجمته الكحة بشدة، وأصبحت غير قادر على الحديث. وعندها التفت إليه وحدثته قائلًا:” أنت هتبقي عليا أنت والمذيعة يا صلاح، فأجاب مشكلتي مع الرئة مش معاك يا عباس”، مؤكدا أنه كان كاتبًا ذات نكهة وفاكهة خاصة.
أما الكاتب رشاد كامل فقال:” لا يمكننا الحديث عن تاريخ مصر المعاصر، بدون أن تأتي سيرة الكاتب الصحفي والمؤرخ صلاح عيسي مرادفة لتلك الحكايات”.
وأضاف أن عيسى نجح في أن ينتاول العديد من الموضوعات الشائكة بطريقة حقيقية وواقعية، مثل كتاباته عن الثورة العرابية وقصة زواج الأميرة فتحية من رياض غالي، بجانب كتابه البديع “حكايات من دفتر الوطن”.
وأوضح أيضًا أنه منذ بدأ”عيسي” في كتابة حكايات من التاريخ والذي وقعه باسم “المقريزي”، استطاع أن يسلك مسار الباحث عن الحقيقة، مؤكدًا أنَّ أهم الأدوار الصحفية التي لعبه في حياته هو تأسيسه لجريدة القاهرة ومساهمته في تحرير جريدتي “الأهالي” و”أدب ونقد”، مشيرًا إلى أن صلاح عيسى من أهم الأقلام الجادة والرشيقة، التي تميزت في أن تقدم تاريخ مصر بصورة سينمائية تصل بسهولة إلى القراء مهما اختلفت توجهاتهم.
وفاته
توفي المؤرخ و الكاتب الصحفي الكبير صلاح عيسي يوم الاثنين الموافق 25 ديسمبر عام 2017، عن عمر يناهز 78 عامًا، بعد صراع مع المرض.
وكان الراحل يعالج فى مستشفى السلام الدولى ، قبل أن تطالب أسرته وعدد من كبار الصحفيين بنقله لتلقى العلاج فى أحد المستشفيات العسكرية ، وبالفعل تم الاستجابة لطلبهم ونُقل إلى مستشفى المعادى العسكرى، وفيها لفظ أنفاسه الأخيرة.