أحمد بهجت.. “المتصوف” صاحب قصص الحيوان في القرآن (بروفايل)
صحفي وروائي كبير، صاحب قلم ساخر، اشتهر بقفشاته المضحكة والمبهجة، صوفي الهوى، جمع بين الفن القصصي والعمود الصحفي والسخرية الراقية والتدين الصحيح، وهو رائد من رواد أدب الطفل في مصر والوطن العربي، وأحد أعمدة الصحافة العربية صاحب “صندوق الدنيا”، العمود الأشهر في جريدة الأهرام، في” كلمتين وبس” بلور مشاكل المجتمع في قالب درامي ساخر، أصغي له مستمعي الراديو لما يزيد عن الـ 30 عامًا، إنه القاص والمؤرخ والصحفي الراحل أحمد بهجت، والذي تمر اليوم ذكرى رحيله وفي هذه المناسبة، نقدم مقتطفات من مشوار حياته الذي انتهى برحيله عن دنيانا في نهاية عام 2011.
نشأته
ولد الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهجت في حي شبرا بالقاهرة، في 15 نوفمبر 1932، عمل والده مدرس لغة إنجليزية وناظر مدرسة، تميزت شخصيته بالصرامة والانضباط، أما والدته فكانت من عائلة رشدي وهى أسرة أرستقراطية، كانت تقطن بمصر الجديدة، شقيقها هو الدكتور رشاد رشدي الكاتب المسرحى الكبير، والذي تأثر به ”بهجت” في حياته الأدبية لاحقًا. نشأ “بهجت” بين 3 أخوات، هن: سميحة (أقربهن إلى قلبه)، وليلي، ونادية.
تمنى أحمد بهجت أن يكون “ضابط شرطة”، أُسوة بخاله عبد المنعم باشا رشدي أحد ضباط البوليس المصري في تلك الفترة، كان رياضيًا يمارس الألعاب العنيفة كالملاكمة ورفع الأثقال والسباحة لكن والدته عارضت الأمر، لخوفها الشديد عليه، أن يلحقه أذى أو تصيبه المخاطر، فاختار دراسة القانون بكلية الحقوق، والتي تخرج منها في منتصف الخمسينيات.
عمله الصحفي
بدأ شغفه بالكتابة منذ أن كان فى المرحلة الثانوية، وبعد حصوله على ليسانس الحقوق، اتجه أحمد بهجت إلى العمل في بلاط صاحبة الجلالة، وكانت البداية عام 1955 في مجلة الجيل الجديد التي كان يرأس تحريرها الصحفي الكبير علي أمين ومعه موسى صبري، وهيأت له تلك الفرصة أن يصعد أولى درجات المجد الأدبي، ولتـأثره بالأديب الروسي الشهير “أنطوان تشيكوف”، ظهرت كتابات “بهجت” ـ الصحفية ـ مزينة بالشكل الأدبي، حسبما يقول ابنه محمد في حواره المنشور في الدستور: ”سيطر هذا النمط من الكتابة على كلماته، فجاءته النصيحة بضرورة الابتعاد عن هذا الأسلوب، فالأسلوب الصحفي لا بدّ وأن يكون سلسًا، لا تحتمل معانيه تأويلًا أو تبديلًا في مقصدها، وبالفعل ببراعة وسرعة شديدة نجح في تدوير قلمه الصحفي، وبدأ من حينها في صياغة أسلوبه الخاص في الكتابة، ساعده على ذلك قراءته المتنوعة لمعظم صنوف مؤلفات العلم والأدب”.
انتقل”بهجت” بين عدد من الصحف والمجلات المصرية، فكانت انطلاقته الثانية في جريدة “الأخبار”، وحظى وقتها بالعمل مع الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب، الذي تعلم منه، وأضاف إليه الكثير خلال رحلته الصحفية، ثم جاءت وجهته التالية إلى مجلة صباح الخير عام 1957، وبعدها بعام انضم إلى كتيبة المحررين في جريدة الأهرام، والتي مكث فيها قرابة الـ 40 عامًا، واشتهر فيها بكتابة عموده الثابت “صندوق الدنيا”.
وصفه محمد حسنين هيكل، بأنه صحفى من طراز فريد، نظرًا لموهبته وحماسه المشتعل، فأوكل إليه تغطية القضايا ذات المهام الخاصة أبرزها حرب اليمن، والتي سجل عنها روايات وقصص إنسانية عايشها هناك، كتبها بصورة بديعة، دفعت “الأستاذ” لتخصيص صفحات كاملة في “الأهرام” لها، واعتبرها البعض فتحًا جديدًا في الكتابة الصحفية آنذاك.
تقلد أحمد بهجت خلال مسيرته الصحفية، عدد من المناصب الصحفية، منها: رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1976، ونائب رئيس التحرير للشؤون الفنية بجريدة الأهرام منذ عام 1982.
وقد عُرف عن “بهجت” أسلوبه الخاص في الكتابة، فقدم الكتابة الساخرة الممزوجة بالمرجعية التاريخية والتطابق الديني مع الموضوع الذي يناقشه.
صندوق الدنيا
بعد التحاقه بالأهرام، لفتت مواهب “بهجت” المتعددة أنظار الكثيرين، منهم: الأديب يوسف السباعي، الذي اقترح عليه ضرورة أن يستغل موهبته فى كتابة عمود يومي ساخر، فاقتنع بالأمر واختار عنوان “صندوق الدنيا” لتخليد ذكرى أستاذه الذي لم يره عبدالقادر المازني، حيث كان للمازني عمود يومي بعنوان صندوق الدنيا، لكنه لم يحظي بشهرة واسعة كما حظى عمود “بهجت”، من خلاله عبر عن قضايا المجتمع، على مدار سنوات طويلة، استطاع أن يوصل فكرته بشكل متعمق وفي أقل عدد من الكلمات.
كلمتين وبس
على مدى 40 سنة؛ صافح أحمد بهجت آذان المستمعين عبر صوت الفنان الكبير فؤاد المهندس، من خلال البرنامج الإذاعي الشهير “كلمتين وبس”، والذي جاء بناءً على طلب الإذاعة منه أن يكتب برنامج إذاعى ساخر خفيف الظل فى 5 دقائق، مثلما يقول الابن محمد بهجت في حواره الصحفي سالف الذكر: ”عندما بدأت الفكرة تتبلور في ذهن الوالد، كان قد حسم قراره بأن هذا البرنامج سيكون من نصيب فؤاد المهندس، ففي تلك الفترة كان المهندس هو ملك الكوميديا المتوهج والمتربع على عرش السينما، بالرغم من وجود نجوم آخرين في تلك الحقبة، غير أنه كان النجم الأهم والأشهر بينهم، وتلك أحد العوامل التي ساعدت على انتشار وذيوع صيت كلمتين وبس عبر أثير البرنامج العام، وللذكرى هذا الفنان هو أحد أصدقاء العمر القريبين من قلب وعقل أبي”.
ويستطرد في كلامه، أن أشهر حلقات البرنامج كانت الحلقة التى تحدثت عن وفاة أم كلثوم، وعن ذلك يقول: ”كانت أم كلثوم بين الحياة والموت وعرف أبي بحكم عمله الصحفي من الأطباء أن حالتها متأخرة، فجهز حلقة عن وفاة أم كلثوم قبل إعلان وفاتها، ومهندس الصوت رفض تسجيلها ولكنهم سجلوا الحلقة ولم يخبروا أحد، وأذيعت الحلقة فور إعلان وفاة أم كلثوم وكان سبقًا لأحمد بهجت”.
المتصوف
كان أحمد بهجت شخصية زاهدة، مثلما يصفه ابنه محمد في حواره المنشور في اليوم السابع، قائلًا: “كان شخصية زاهدة قانعة فرحة، وكأنه حاجز تذكرة بلكون يتفرج بها على الدنيا، ولا يعتد بالمناصب، ويمكنني أن أتحدث عن التصوف في حياته من خلال علاقته بالكائنات، حيث كان عطوفًا جدًا على الحيوانات وكل الكائنات، وفي إحدى المرات أحضر معه حمار من الشارع اشتراه من صاحبه الذى يعذبه لينقذه ودخل به علينا، وتصادف أنه يوم الاحتفال بعيد ميلاد والدتي، وعندما أصابتها الدهشة قال لها إنه أحضره كهدية لها وربطه فى البلكونة، حتى أقنعته والدتي أن الأصلح للحمار أن يعيش فى مزرعة حياة الحمير الطبيعية، فودعه وتركه فى مزرعة أحد أصدقائه وكان يزوره بين حين وآخر، ولا أنسى أنه فى إحدى المرات ونحن فى الإسكندرية وجد خنفسة مقلوبة على ظهرها، وفوجئت به يمسكها بكل حرص، وينفض عنها الرمال ويعدلها كي تمشي، فقلت له “أنت مش قرفان”، فقال نحن بين يدى المشيئة الإلهية أقل من هذه الحشرة ونتقلب فى الذنوب والأخطاء، ثم تأتي المشيئة الإلهية لتعيدنا للطريق الصحيح وتعفو عنا وتمنحنا فرصة أخرى فكيف لا يكون لدينا نفس المشاعر نحو الكائنات الأضعف”.
وخلال لقاؤه المسجل، في برنامج” شاهد على العصر” الذي قدمه الإذاعي الكبير عمر بطيشة، عام 1988، على موجات البرنامج العام، قال الكاتب الكبير أحمد بهجت تعليقًا على علاقة الإنسان بالحيوان في هذا العصر، من واقع تناوله للأمر في كتاباته: “أتصور أننا نتقدم في إحساسنا بالرفق بالحيوان، فعندما نرى الرسول حتى في ذبح الماشية يقول: “إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح”، وكان عليه السلام يهتم أن لا يحمل ناقته أكثر ما تطيق، كان يهتم ألا يحمل فرسه أكثر مما يطيق، كان يقوم في الليلة الشاتية ويفتح بابه لقطة تلتمس ملجأ من البرد، قال الرسول: ”دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”.
مؤلفاته
أثرى الكاتب الكبير أحمد بهجت المكتبة العربية بعشرات الاصدارات الأدبية والدينية، التي تركت أثرًا لا ينسى في أذهان القراء مستمر حتى اليوم، لمرونته في تناول كافة القضايا خاصة الدينية وبصورة فنية أبعد ما تكون عن التشدد أو التطرف، وقد حققت كتبه أرقامًا قياسية فى التوزيع وعدد الطبعات، من أمثلة ذلك: أنبياء الله، وبحار الحب عند الصوفية، وصائمون الل أعلم، والطريق إلى الله، قميص يوسف، والله في العقيدة الإسلامية، وتأملات في عذوبة الكون، ناقة صالح، فيل أبرهة، حوت يونس، هدهد سليمان، الملك طالوت والنهر، تأملات مسافر، نبأ ابني آدم والغراب.
إلى جانب مؤلفات أدبية أخرى، مثل: حوار بين طفل ساذج وقط مثقف ، تحتمس 400 بشرطة، ثانية واحدة من الحب، وغيرهم.
ورغم غزاره إنتاجه الأدبي، كانت “قصص الحيوان في القرآن” هي الأقرب لقلبه، وقد ترجمت إلى عدة لغات، و جمع في سطورها بين الدين والعلم، وتم تحويلها الى مسلسل تليفزيوني بالرسوم المتحركة، من بطولة الفنان يحيى الفخراني،
كما اتجه أحمد بهجت في كتاباته إلى السينما والتليفزيون بجانب الإذاعة، حيث كتب قصة وسيناريو وحوار فيلم “أيام السادات” الذي قام ببطولته وإنتاجه الفنان الراحل أحمد زكي، بالاضافة إلى عملين آخرين هما: امرأة من القاهرة، والبؤساء. ومن مسلسلات التليفزيون، كتب: مذكرات زوج، وصائمون والله أعلم، ومسلسل ألف ليلة وليلة لحسين فهمي ونجلاء فتحي. إلى جانب كتابته للعديد من المقالات اليومية والأسبوعية في عدد من الصحف المصرية والعربية.
وفاته
توفي الكاتب الصحفي والروائي الكبير في 11 ديسمبر 2011، عن عمر ناهز ال79 عامًا بعد صراع طويل مع المرض.