منيرة ثابت .. عميدة الصحفيات المصريات
قد تتعجب إذا علمت أن امرأة تمتهن مهنة الميكانيكي أو سائق “الميكروباص” وإن كان دخول المرأة مثل هذه المجالات في الوقت الحالي أصبح مألوفًا بالنسبة إلى الكثير منا، لكنك بالتأكيد لن تندهش بوجود امرأة تعمل كمحامية أو صحافية، لكن إن كنت تعيش في ثلاثينيات القرن الماضي وخاصًة قبل مولد منيرة ثابت فإن الأمر كان حتمًا ليُدهشك ..
من هي منيرة ثابت ؟
منيرة ثابت هي أول محامية مصرية بل وعربية، ولدت منيرة ثابت عام 1906 لأب مصري يعمل بوزارة الداخلية وأم تركية، درست في مدرسة إيطالية بالقاهرة تعلمت فيها مبادئ اللغة الإنجليزية والإيطالية، ثم التحقت بمدرسة ابتدائية حكومية، وفي عام 1924 حصلت على الشهادة الثانوية لتقرر بعدها الالتحاق بمدرسة الحقوق الفرنسية التي كانت تعمل آنذاك في القاهرة، وتمنح شهاداتها من باريس، وبالفعل حصلت منها على ليسانس الحقوق لتصبح بذلك أول محامية عربية.
لم تكتفِ منيرة ثابت بسبقها الذي حققته في مجال المحاماة فاقتحمت العمل الصحفي، صحيح أنها لم تكن أول مصرية تكتب في الصحف ولم تكن أيضًا أول مصرية تصدر مجلة أو جريدة، لكنها كانت أول صحفية نقابية و أول كاتبة سياسية، و أول رئيسة تحرير لجريدة سياسية، وبالإضافة إلى كل ذلك تُعتبر منيرة ثابت من أبرز المساهمين في تأسيس نقابة الصحفيين المصرية.
عملها الصحفي
بدأت “ثابت” عملها الصحفي أثناء دراستها بمدرسة الحقوق الفرنسية، فكانت أول صوت يرتفع مطالبًا بحق المرأة في ممارسة الحقوق والواجبات السياسية كناخبة، وذلك من خلال مقالاتها الجريئة في الصحف التي انتقدت فيها الدستور المصري الصادر عام 1923 ، الأمر الذي أثار قلق الحكومة آنذاك، ودفع وزير المعارف إلى استدعاء ناظر مدرسة الحقوق الفرنسية ليطلب منه منع منيرة ثابت من الكتابة في السياسة، لكن ناظر المدرسة أعترض على ذلك، مؤكدًا أن مدرسته تسير على نهج مدرسة الحقوق في باريس، والمدرسة تمنح طلابها حق الكتابة بالصحف، ومعارضة الحكومة مهما كانت العواقب.
في السابعة عشر من عمرها اعترفت الدولة رسميًا بمنيرة ثابت كصحفية، ونشرت جريدة الأهرام مقالاتها في عامود بعنوان “خواطر ثائرة”، فكتبت مقالين في مارس 1924، وهي في الثامنة عشر من عمرها وهما: “النساء و السياسة” و”النساء وحفلة البرلمان”.
وفي صيف عام 1926 قُيد اسم “منيرة ثابت” كصحفية عاملة في النقابة الأهلية الأولى، التي تأسست في التوقيت نفسه، لذلك أٌطلق عليها لقب “عميدة الصحفيات المصريات”، ومنذ هذا الحين استمرت منيرة ثابت في العمل بالكتابة والخطابة، ثم أصدرت جريدتين الأولى سياسية أسبوعية تدعى “الأمل” وكانت تصدر باللغة العربية، والثانية يومية صدرت باللغة الفرنسية وكانت تحمل نفس اسم الجريدة الأسبوعية لكن بالفرنسية “Espoir” ، واستطاعت من خلالها المطالبة بحق مصر في الحرية والاستقلال، وكان الصحفي المصري مصطفى أمين قد وصف هاتين الجريدتين ب”القنبلة” لما اتسم به محتواهما من جرأة في تناول الموضوعات السياسية والنسوية، وكانت منيرة ثابت هي رئيسة التحرير في الجريدتين.
وكان لهذه الخطوات المتقدمة للأمام دائمًا في العمل الصحفي، الفضل في تمكين “ثابت” من منافسة كبار صحفيي عصرها مثل: فكري اباظة، و عبد القادر حمزة الذي تزوجته لاحقًا.
مقاومتها الاحتلال
اشتهرت منيرة ثابت بين وزراء مصر في النصف الأول من القرن العشرين بالمناضلة “ذات اللسان الطويل”، كما تم التحقيق معها في جريمة سب وقذف صحفي، بأمر من دار المندوب السامي البريطاني إلى رئيس الوزراء الذي حوله إلى وزير العدل، وكانت جريمتها حينها مهاجمة “التدخل الأجنبي” في مصر، ودار المندوب السامي، والاستعمار البريطاني، و بذلك كانت منيرة أول فتاة عربية تقف أمام النائب العام وهي دون السن القانونية، للتحقيق معها، الأمر الذي حاز على اهتمام وكالات الأنباء العالمية، وجاء على لسانها، تعليقًا على هذا الحادث “إنها تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه”، وفي عام 1926 شهدت محكمة باب الخلق، الحدث التاريخي المتمثل في محاكمة صحفية بأمر من الاستعمار، وكانت هذه الصحفية هي منيرة ثابت، لكن تم إعفاؤها من المسئولية الجنائية باعتبارها حدث حيث كانت تبلغ من العمر حينها 19 عامًا فقط.
تأثرها بسعد زغلول
كان الزعيم سعد زغلول صديقًًا لوالد منيرة وساهم في تشكيل تفكيرها حيث تأثرت به منذ نعومة أظافرها، لدرجة أن أطلقت عليه لقب “الزعيم السفوري الجليل”، وكان سعد زغلول يتقبل منها هذا اللقب على حد قولها في مذكراتها، والسفوري هنا نسبة إلى ” السفور”، وهي كلمة كانت ترمز لتحرر المرأة آنذاك أي أن سعد زغلول في رأيها كان من أشد الداعمين لتحرر النساء.
وكانت ترى “عميدة الصحفيات” أن المرأة لا بد وأن يكون لها دور بارز في قضايا وطنها، وأن دورها لا يقل عن دور الرجل، واستمدت منيرة هذه القوة في المطالبة بحقوقها وحقوق المرأة من أبيها وصديقه الزعيم سعد زغلول. حيث قالت في مذكراتها: “كان أبي وسعد زغلول من العوامل القوية التي دفعت بي مبكرًاً لهذا الطريق، فقد تلقيت منهما الإيحاء الفكري والنفسي، فقد حدثني والدي كثيرا في شؤون المرأة في مصر والخارج وذكر لي بصفة خاصة تاريخ حركة النساء في إنجلترا، وظل أبي يملأ رأسي بهذه الأفكار حتى كاد أن ينفجر، وقد تلقفني الزعيم سعد زغلول وأنا في هذه الحالة سنة 1924، إذ اتصلت به وحضرت مجالسه وعطف عليّ وشجعني ثم أكمل تعبئة رأسي بالأفكار الباقية في ميدان السياسة والنهضة النسوية والاجتماعية” وتستطرد : “وما أن سمعت ذات يوم أن القوم يضعون دستورًاً لمصر حتى أدركت أن الوقت قد حان لأن أتزعم حركة نسائية تشبه حركة نساء إنجلترا، فأخذت أكتب المقالات للصحف العربية والفرنسية، وكنت أبدي رأيي في شؤون مصر وبحق المرأة في الانتخاب وعضوية البرلمان”، وبذلك كان كلا الزعيم سعد زغلول ووالد منيرة بمثابة قطبي الوحي الذي استلهمت منه منيرة ثابت المبادئ والقضايا التي ناضلت من أجلها طوال حياتها.
الدفاع عن حقوق المرأة
حسبما ذكرت منيرة ثابت في مذكراتها، كانت الحركة النسوية في بريطانيا مصدرًا لإلهامها وكان والدها مصدر هذا الإلهام فدائمًا ما كانت تصفه في مذكراتها ب “دائرة معارف في الحركة النسوية”، ولطالما أشارت “منيرة” إلى تاريخ نضال المرأة الإنجليزية منذ مطالبة الحركة النسائية في إنجلترا بحق الانتخاب عام 1792 وحتى انتزاع قانون المساواة التامة عام 1928.
وانطلاقًًا من هذا الإلهام دافعت “عميدة الصحفيات” في جريدتها عن حقوق المرأة السياسية، حيث احتجت -قبل افتتاح أول برلمان مصري بتاريخ 15 مارس 1924- على عدم وجود دور للمرأة المصرية في الانتخابات، وطالبت في أول خطاب تقدمه امرأة إلى البرلمان بضرورة مشاركة المرأة في الانتخابات، وبالفعل أجيب طلبها، ليكون لها الفضل في تمكين المرأة من المشاركة في الحياة السياسية حتى الآن.
وقادت “ثابت” حملة الدفاع عن حق المُعلمات في الزواج مع الاحتفاظ بوظائفهن، ونجحت هذه الحملة حيث أقرت وزارة المعارف هذا الحق، ومن ثم تبنت “عميدة الصحفيات” قضية الدفاع عن حقوق المرأة بشكل عام وحقوق المرأة العاملة بشكل خاص، لاسيما نادت بحق المرأة في التصويت، والانتخاب، وحقها في عضوية جميع المجالس والهيئات النيابية، وكذلك المساواة المطلقة مع الرجل خاصةً في العمل بالوظائف الحكومية، بل في الأعمال والوظائف الحرة أيضًا.
ومثلما دافعت منيرة ثابت عن حقوق المرأة السياسية دافعت أيضًا عن حقوقها الاجتماعية، حيث كانت ترى أن الرجل والمرأة يجب أن يكونا على قدم المساواة في الزواج والطلاق، فنادت بعدم تعدد الزوجات والاكتفاء بزوجة واحدة، كما طالبت بحق المرأة في الخلع والطلاق، على ألا ينفرد الرجل وحده بقرار الطلاق، وإنما “يحكم به بناء على رغبة أحد الطرفين على السواء على أن يقدم الطرف طالب الطلاق البراهين على إخلال الطرف الآخر بأحد واجبات الزوجية عمومًاً، وإذا كان طلب الطلاق سببه الكراهية والنفور فعلى الطرف (الكاره)-إن كان الرجل- أن يدفع للطرف الآخر مع النفقة الشرعية تعويضاً مدنياً، أما إن كان الطرف (الكاره) هو المرأة فتتنازل عن جميع حقوقها في ذلك، وبالإضافة إلى ذلك، طالبت “منيرة” بإلغاء تعدد الزوجات، وحق المرأة في ميراث مساوِ لأشقائها الذكور.
حركة السفور وثورتها على الاتحاد النسائي
ازدادت جرأة منيرة ثابت وهي تتحدث عن حركة السفور، وخلع الحجاب في العشرينيات، الأمر الذي دفعها إلى القول بأن : “السفور عنوان للشجاعة الأدبية والنزاهة والصراحة، ولازال يقابل بشىء من الاضطراب في نفس الرجل المطبوع بطابع القديم الذي لم يتعود في وجه المرأة على الصراحة والنزاهة”.
وكانت هذه الجرأة الزائدة سببًا في خلاف منيرة ثابت مع الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي، فالاتحاد النسائي كان يلتزم بالتركيز على قضايا تعليم المرأة، بينما كانت تصمم منيرة ثابت دائمًا على تمكين المرأة سياسيًا وحصولها على حق التصويت والانتخاب، واستمر هذا الخلاف لدرجة اتهام أعضاء الاتحاد النسائي لها بالجنون، وكانت منيرة ثابت تعتبر تخليها عن هذه القضايا سيحولها إلى مهرجة سياسية، و في عام 1936 نجحت منيرة ثابت في استمالة الاتحاد النسائي إلى قضيتها، ليتم وضع الحقوق السياسية للمرأة على أجندة الاتحاد بعد أن ظلت تغرد خارج السرب وحدها لأكثر من عشر سنوات منذ أن كانت فتاة مراهقة في ربيع عمرها.
ترشُحها للبرلمان
رغم إصدار الأزهر فتوى بتحريم تصويت المرأة، و ترشحها إلى البرلمان في عهد الملك فاروق، استطاعت منيرة ثابت الترشح للبرلمان عام 1956، على مقعد الدائرة الثالثة بالقاهرة، واكتسحت الانتخابات، لكن كما تأتي الرياح دائمًا بما لا تشتهي السفن تم إلغاء نتيجة دائرتها، عقب قرار إخلاء الدوائر التي يوجد بها وزراء، إلا أن حلم نضالها تحول إلى حقيقة على يد راوية عطية أول برلمانية مصرية.
زواجها
توقفت جريدة “الأمل” عن الصدور عام 1927، بسبب زواج رئيس تحريرها منيرة ثابت من الكاتب عبد القادر حمزة، وبعدها تفرغت منيرة للمنزل تاركة مهنة الصحافة، لكنها سرعان ما انفصلت في هدوء لتعود إلى الصحافة مرة أخرى، لكن هذه المرة ضمن أسرة تحرير جريدة “الأهرام” بدعوة من رئيس تحريرها وقتئذٍ أنطون الجميل، لتصدر جريدة “الأمل” من جديد كمجلة سياسية شهرية أيدت من خلالها ثابت ثورة 23 يوليو 1952، لكن الجريدة أُوقفت رسميًّا بعد صدور قانون 1960 الذي نقل ملكية الصحف الى الاتحاد الاشتراكي؛ لتتوقف منيرة ثابت بعد صدور هذا القانون عن العمل.
وفاتها
تعرضت منيرة ثابت إلى أزمة صحية أفقدتها بصرها، وسافرت على إثرها للعلاج على نفقة الدولة، ليعود إليها بصرها عام 1964، ثم تفوتها المنية في سبتمبر عام 1967، عن عمر يناهز 61 عامًا، كاتبًة كلمة “النهاية” لقصة كفاح حافلة بالانجازات المهنية، والدفاع عن حقوق المرأة، ومقاومة الاحتلال.
ثورة في البرج العاجي
سطرت منيرة ثابت قصة كفاحها في كتاب “ثورة في البرج العاجي – مذكراتي في عشرين عامًا” لتخلد معركتها من أجل الدفاع عن حقوق المرأة، تاركة إرثًا كبيرًا لكل النساء من بعدها، فاليوم يضم البرلمان المصري 75 نائبة منتخبة و 14 نائبة معينة بإجمالي عدد 89 نائبة امرأة تحت قبة البرلمان، وهذا العدد قابل للزيادة في المستقبل، ولمنيرة ثابت ومثيلاتها من الصحفيات المدافعات عن حقوق المرأة دور أساسي في الوصول إلى هذا الواقع، الذي يعد نتاجًا لجهود بُذلت وبدايةً لجهود ستُبذل من أجل مستقبل أفضل للمرأة المصرية.