هيلين توماس.. عميدة مراسلي البيت الأبيض (بروفايل)

تحل اليوم ذكرى وفاة أجرأ صحفية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وصفها البعض بـ”عرافة الشرق”، لاطلاعها الدائم على مستجدات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، كونها من أصل لبناني، تولت مهمة تغطية أخبار البيت الأبيض لنحو 5 عقود كاملة، استطاعت خلالها متابعة نشاط 10 رؤساء أمريكيين بدءًا من جون كينيدي وحتى باراك أوباما، لتصبح عن حق أسطورة الصحافة الأمريكية.. إنها الصحفية هيلين توماس، عميدة مراسلي البيت الأبيض.

النشأة
ولدت هيلين توماس في وينشيستر، كنتاكي الامريكية في 4 أغسطس 1920 لوالدين هما جورج أنطونيوس، وماري روادي، اللذين هاجرا من طرابلس بلبنان، قبل استقلال لبنان عن سوريا وكانت عائلتها تعرف سابقًا بـ”طلوس”. و لطالما فاخرت “هيلين” بانتمائها اللبناني إذ قالت: “أشعر بانتماء إلى لبنان. أحس بانتمائي إلى ثقافتين”.

تربت “هيلين” في ديترويت، وميتشيغن، والتحقت بجامعة واين ستايت، وانتقلت بعدها إلى العاصمة واشنطن عام 1943.

وكانت الجامعة قد قررت فيما بعد إصدار جائزة سنوية باسمها تكريمًا لها قبل أن يتم إيقافها احتجاجًا على تصريحات لها وصفت بأنها “معادية للسامية”، والتي دفعتها لاحقًا إلى تقديم استقالتها في يونيو 2012 إثر مطالبتها لليهود بالخروج من فلسطين والعودة من حيث جاءوا.

مشوارها الصحفي
عقب تخرجها من الجامعة، عملت هيلين توماس، في أول وظيفة لها كموظفة طباعة في جريدة “واشنطن دايلي نيوز”، ثم انضمت إلى وكالة “يونايتدبرس انترناشونا”ل عام 1943، حيث قامت فيها بإعداد تقارير عن المرأة.

وبداية من عام 1955 تولت مهمة تغطية نشاطات الوكالات الفيدرالية الأمريكية، مثل: وزارة العدل الأمريكية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. كما رأست في الفترة بين عامي ( 1959 ـ 1960) نادي الصحافة القومي، وكانت أول امرأة شغلت هذا المنصب.

وفي مطلع الستينات، بدأت” توماس” في تغطية أنشطة الرئيس المنتخب وقتها جون كينيدي، لتصبح بعد انتخابه مراسلة للوكالة في البيت الأبيض، بداية من يناير عام 1961.

وكانت من أبرز الشخصيات المشاركة في المؤتمرات الصحفية بالبيت الأبيض، بمكانها المعروف في الصف الأول داخل القاعة، وهي من ينهي اللقاء بالقول: “شكرا سيدي الرئيس”
“Thank you, Mr. President”.

اشتهرت “توماس” بلقب “بوذا الجالس”، و”ظِل الرؤساء الأمريكيين”، وأثارت بتساؤلاتها جدلًا حول قرارات وسياسات داخلية وخارجية، ما أكسبها مزيدًا من النزاهة والحيادية.

وعرفت بتوجيهها لأسئلة صعبة وإلحاحها للحصول على إجابات خلال المؤتمرات، حتى وصف سكرتير صحفيو للبيت الأبيض، أسئلة “توماس” بأنها “عملية تعذيب” لكنه لم يخف إعجابه بموهبتها.

من أشهر أقوالها: “نحن لا ندخل عالم الصحافة لنصبح مشهورين، إن دورنا هو البحث عن الحقيقة، ووضع المسؤولين تحت ضغط مستمر، حتى نحصل على أجوبة”.

كما غطت توماس أخبار “القمة الاقتصادية” لمجموعة السبع (G7) منذ عام 1975، وانفردت بعقد مقابلات ـ حصرية ـ مع مارثا ميتشيل، زوجة الجنرال جون ميتشيل، رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد نيكسون، على خلفية فضيحة “ووترجيت” الشهيرة عام 1972.

وتعتبر “هيلين” من رائدات العمل الصحفي في العالم حيث كانت أول امرأة عضو في نادي الصحافة القومي، وأول امرأة عضو ورئيس لجمعية مراسلي البيت الأبيض (WHCA)، وأول امرأة عضو في “نادي غريديرون” وهو أقدم وأهم نادي للصحفيين في العاصمة الأمريكية.

ومما يذكر أنه في 17 مايو عام 2000، قدمت هيلين توماس استقالتها من الوكالة، بعد يوم واحد من إعلان بيعها لـ” نيوز ورلد كومينيكيشن” وهي الشركة التى يملكها ويديرها قائد كنيسة التوحيد سن ميونك موون، وقد وصفت ذلك التغيير في الملكية بأنه” جسر بعيد جدًا”.

وفي أقل من شهرين، انضمت “توماس” إلى صحيفة هيرست، كمحررة عمود رأي في الشؤون القومية وسياسات البيت الابيض.

وطوال مسيرتها المهنية التي امتدت لما يزيد عن نصف قرن، التزمت” توماس” بترسيخ قاعدة (التحقق قبل السبق) في عملها، وعن ذلك قالت:
Philosophy of checking sources, learned while working for a wire service early in her career: If your mother told you she loved you, you checked it out

نيكسون
تعتبر هيلين توماس، هي المرأة الوحيدة من وسيلة إعلامية مطبوعة ترافق الرئيس ريتشارد نيكسون، في زيارته التاريخية إلى الصين عام 1972.

كما كانت الوحيدة ـ باستثناء بنات الرؤساء ـ التي أُعلن عن خطبتها من البيت الأبيض، وكان ذلك من خلال باتريشيا زوجة الرئيس نيكسون.

بوش الابن
لصراحتها المطلقة، ونقدها اللاذع، كانت علاقة هيلين توماس بالرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، وفريقه السياسي “مضطربة” وذلك على خلفية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث وصفت بوش بأنه “أسوأ رئيس للولايات المتحدة”، فقاطعها 3 سنوات.

وخلال حوار صحفي أُجري معها عام 2004 قالت :” إن الرئيس الأمريكي بات منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية ينظر إلى كل من يعترض على سياساته، وخاصة في العراق على أنه يقف مع الإرهابيين، وإذا كان أمريكيًا فإنه غير وطني، وذلك المنطق العجيب سرعان ما أفقد أمريكا احترامها وهيبتها في العالم، وبدد الصورة الديمقراطية للولايات المتحدة الأمريكية”.

وعن تقديم”بوش” نفسه كرجل محافظ سيجلب السياسة الرحيمة للولايات المتحدة، تعترف”توماس”، بأنه محافظ لكنها لا تظنه رحيمًا كما أنها تذكر أنها مُنعت من طرح أسئلة على الرئيس “بوش” حين سألته ذات مرة: “لماذا لم يحترم الفصل بين الدين والدولة بإنشاء مكتب ديني في البيت الأبيض”.

وقد أثار هجوم “توماس” الشديد على الرئيس الأمريكي، جورج بوش، والحرب على العراق حفيظة الصحافة اليمينية بالولايات المتحدة، وأطلقوا عليها لقب “العرافة العجوز القادمة من الشرق”.

وصُدر لها كتاب، بعنوان: “كلاب حراسة الديمقراطية” “Watchdogs of Democracy” ، انتقدت فيه دور وسائل وشبكات الإعلام الأمريكية في فترة رئاسة جورج بوش، حيث وصفت فيه وسائل الإعلام الكبرى بأنها تحولت من “سلطة رابعة” وكلاب تحرس الديمقراطية إلى “كلاب أليفة”.

أوباما
قالت هيلين توماس، عن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، إنه “صاحب ضمير، لكنه لا يمتلك الشجاعة”.

وحظيت توماس في عيد ميلادها الـ 89 بتقدير عالٍ من أوباما، ففي أغسطس عام 2010 أصر “أوباما” على الاحتفال بعيد ميلاده والذي يصادف عيد ميلادها أيضًا في نفس اليوم، حاملًا الحلويات وكعكة توسطتها شمعة واحدة وهو يغني “Happy Birthday to you” لـ”توماس”، قبيل أن يطبع قبلة على خدها.

قائلًا: “أمنية هيلين أن يعم السلام العالم.. لكن هي وأنا تجمعنا أمنية مشتركة كذلك.. هي تتمنى قانون لإصلاح نظام الرعاية الصحية”، في إشارة لقرار الإصلاحات الداخلية الذي يشق طريقه ببطء إلى الكونغرس”.

تقاعد
أثارت تعليقات هيلين توماس، ضد الإسرائيليين جدلًا واسعًا، ففي 27 مايو عام 2010 خلال حضورها احتفال ما سمي بـ”شهر التراث اليهودي”، في البيت الأبيض، سألها الصحفي الحاخام “ديفيد نيزبنوف”: هل من تعليقات لديك بشأن إسرائيل؟ فأجابت قائلة: “هذا، أي الفلسطينيين، شعب محتلة أرضه، وفلسطين أرضهم، وليس ألمانيا أو بولندا”، مضيغة أن عليهم – أي الإسرائيليين – العودة الى أوطانهم”. وعندما سألها الصحفي ثانية: ما هي أوطانهم؟ أجابت: “بولندا وألمانيا والولايات المتحدة وكل مكان آخر غير فلسطين”.

بث الصحفي تصريحات “هيلين توماس” عبر المواقع الإلكترونية، حيث تلقفتها مواقع إخبارية أمريكية ومواقع لمؤسسات يهودية وإسرائيلية، وقاد الحملة ضدها  “آري فليشر” الناطق الرسمي باسم الرئيس الأمريكي السابق “بوش الإبن” مطالبًا بفصلها ومتهمًا إياها بأنها تطالب بالتطهير الديني. ولم يكتف بذلك، بل قام بإرسال رسائل إلكترونية إلى كل الصحفيين الذين قد تكون تصريحات “هيلين توماس” غابت عنهم بهدف تشويه سمعتها على أوسع نطاق داخل وخارج الولايات المتحدة. ونتيجة للضغوط الكثيرة التي مورست عليها، اضطرت ـ مجبرة ـ إلى الاعتذار عن تصريحاتها، والاستقالة من عملها مع مجموعة “هيرست”.

دفعت “توماس” ثمنًا لمهنيتها، في تجنب البعض الاختلاط معها، وعن ذلك قالت:” إذا أردت أن تكون محبوبًا، فابحث عن مهنة أخرى غير الصحافة”.

الرحيل
توفيت عميدة مراسلي البيت الابيض، هيلين توماس، في 19 يوليو 2013، عن عمر الـ 95.
وقبل رحيلها بأيام، كتبت “توماس” مقالة ـ خطيرة ـ لصالح صحيفة أمريكية شهيرة، رفضت حينئذ نشرها، وهو ما أغضب عميدة مراسلي البيت الأبيض، وجعلها تصرخ في محاضرة بنادي الصحافة قائلة:” اليهود يسيطرون على إعلامنا وصحافتنا ويسيطرون على البيت الابيض، أنا لن أغير ما حييت، مؤمنة به؛ الإسرائيليون يحتلون فلسطين، هذه ليست بلادهم. قولوا لهم ارجعوا لبلادكم واتركوا فلسطين لأهلها، إنني أرى بوادر حرب عالمية ثالثة، طبخت في مطبخ تل أبيب ووكالة الاستخبارات الأمريكية، والشواهد عديدة، ما سمي ثورات الربيع العربي لهدم دول المنطقة، أول خطوة ظهور تنظيم جبهة النصرة ٢٠١١، بدعم أمريكي لا تصدقوا أن واشنطن تحارب الإرهابيين ومن يسمون أنفسهم بالجهاديين، لأنهم دمية في أيدي السي آي إيه”.

وأضافت: “إنني أرى أن بريطانيا سوف تستحضر روح البريطاني “مارك سايكس” وفرنسا سوف تستحضر روح الفرنسي “فرانسوا بيكو”، وواشنطن تمهد بأفكارهما الأرض لتقسيم الدول العربية بين الثلاثة، وتأتي روسيا لتحصل على ما تبقى منه الثلاثة، صدقوني إنهم يكذبون عليكم ويقولون إنهم يحاربون الاٍرهاب نيابة عن العالم، وهم صناع هذا الإرهاب، والإعلام يسوق أكاذيبهم، لأن من يمتلكه هم يهود إسرائيل”.

أثار ذلك حفيظة اللوبي الصهيوني، وطالبوا رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتانياهو” بمحاكمتها بتهمة معاداة السامية، لكنها كانت قد رحلت.

وفي فيلمه التسجيلي”?Where to Invade Next”، أو “أين الغزو التالي؟”، استطاع المخرج العالمي “مايكل مور”، أن يوثق كلمات” توماس” الأخيرة، من خلال سؤال افتراضي عن محاولة الولايات المتحدة، بعد فشل كل غزواتها خلال تاريخها، وعلى رأسها الخسائر البشرية والمالية في فيتنام والعراق، أن تجرب طريقًا جديدًا للغزو، يقوم به “مور” نفسه، فيتنقل بين عدد من الدول، في أفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، ويتجاذب الحديث مع الناس بلطف وهو يحمل العلم الأمريكي، يحاول اكتشاف علاقتهم ببلده وتأثيرات عالمها الاقتصادي والاجتماعي عليهم.

عُرض الفيلم خلال افتتاح مهرجان “تورنتو” السينمائي الدولي، في 10 سبتمبر 2015.

زر الذهاب إلى الأعلى