ثمن الحقيقة.. شهادات ميدانية تكشف العنف المخفي ضد الصحفيات

صحفيات يكسرن حاجز الصمت ويكشفن الانتهاكات التي تطالهن أثناء التغطيات الميدانية

تقرير: منى عبيد

في زوايا غرف الأخبار، حيث تُصاغ الحكايات وتُضاء الحقيقة، تقف صحفيات كثيرات وهن يحمِلن أقلامًا أثقل مما تبدو. فخلف كل تقرير، وكل صورة، وكل كلمة تُنشر، وكل قصة تكتبها صحفية، ثمة قصة أخرى تختبئ خلف السطور.. قصة خوفٍ لم يُعلن، ودمعٍ احتُبس، ووجعٍ حملته وحدها في طريق البحث عن الحقيقة، فبينما تخرجن إلى الميدان بإيمانٍ راسخ بأن للكلمة قوة، يعدن أحيانًا مثقلات بجراحٍ لا تُرى، بعضها يطاول الجسد، وأكثرها يطال الروح.

صحفيات يكسرن حاجز الصمت وشهادات حية من قلب الميدان 

وسط صخب الأخبار وضغط الوقت ومسؤولية الكشف، تقف نساءٌ يواجهن أشكالًا متعددة من العنف؛ من تهديدٍ وإساءةٍ وتحفّزٍ دائما للخطر، إلى اعتداءاتٍ تترك أثرها في الذاكرة قبل الجسد.. ومع ذلك، يواصلن السير بثبات، لأن ما يكتبنه ليس مجرد عملٍ يومي، بلشهادة حقٍّ تُقدَّم لمن لا صوت لهم.

تحكي إحداهن عن اللحظة التي شعرت فيها بأن حياتها معلّقة بخيطٍ رفيع، وهي تغطّي أحداثًا مشتعلة لا تعرف كيف ستنتهي. وتستعيد أخرى الرجفة التي اجتاحت جسدها أمام تهديدٍ مباشر، بينما تتذكّر ثالثة نظراتٍ جارحة واعتداءاتٍ لفظية تركت في داخلها ندوبًا لا يراها أحد، وتلك الليلة التي عادت فيها إلى منزلها تبكي بصمت، تخشى أن يستسلم قلبها للضعف، رغم أن ما واجهته كان أكبر مما تحتمل.

 حملة الـ16 يومًا تكشف عن وقائع العنف ضد الصحفيات

وبالتزامن مع حملة الـ 16 يومًا لمناهضة العنف ضد المرأة، تخرج أصوات صحفيات إلى العلن لتروي ما كان يُحكى همسًا.. يشاركن لحظات الخطر التي واجهنها في الميدان على مختلف العصور، ويكشفن عن تفاصيل العنف الذي حاول كثيرون إسكات أثره

صراع المهنية والموت بين ألسنة النيران

محفور في ذاكرة نهى عبدالله، الصحفية الشابة، لحظات كانت فيها قاب قوسين من الموت، تتذكر ذلك اليوم، الذي  استعدت فيه لتغطية مظاهرة لجماعة الإخوان بالطالبية بالجيزة، تقول: “كنت استعد مبكرًا وقبل صلاة الجمعة للنزول إلى تغطية مظاهرة للإخوان تنطلق من مسجد خاتم المرسلين بالهرم، واحدة من التظاهرات التي اعتادت عليها الجماعة عقب سقوط حكمهم.

تضيف نهى: “كنا في صيف 2014، وكنت لست كغيري من الزملاء الذين كانوا ينتظرون المسيرة في الطالبية، بل كنت أذهب إلى محيط مسجد خاتم المرسلين بمفردي، في انتظار تجمع عناصر الإخوان عقب صلاة الجمعة، في طريقهم إلى الطالبية حيث التمركز، في إحدى  الجُمعات، غيّرت المسيرة اتجاهها بشكل مفاجئ، وبدلًا من السير نحو الطالبية كما هو معتاد، وجدتهم يدخلون حارة شديدة الضيق بالكاد يمكن المرور فيها. في تلك اللحظة شعرت بأن شيئًا غير مألوف ينتظرني في هذا اليوم.

وتضيف:” وأثناء تقدّمي وسط الاضطراب، اقتربت مني امرأة من أهل المنطقة، كانت في عينيها نظرة خوف صادق، وقالت لي:“تعالي يا بنتي، اطلعي عندي قبل ما يحصلّك حاجة، كانت كلماتها بسيطة، لكنها حملت قدرًا كبيرًا من الإنسانية  واستشرافًا لمستقبلٍ مجهول“.

وتتابع: “واصلت السير من حارة إلى أخرى، حتى وجدت نفسي في مساحات زراعية نائية لم أزرها من قبل، فقدت بوصلتي ولم أعد أعرف في أي مكان أتواجد، كنت أبحث بأي شكل عن مكان أختبئ فيه دقيقة واحدة، فقط لأرسل الأخبار أو أُجري مداخلة هاتفية مع قناة المحور“.

تقول: “كان  الطريق يسحبني إلى أماكن أشد عزلة وغموضًا، وبينما أحاول استيعاب ما يحدث، أدركت أنني وصلت إلى منطقة الكُنيسة، هناك اكتشفت أن الأمور تطوّرت بدرجة خطيرة؛ فقد رأيت إطارات كبيرة أُعدّت مسبقًا وأُشعلت فيها النيران، والطريق الدائري قُطع بالكامل، وسيارة شرطة تُحرق أمامي، كان الدخان مرتفعًا، والضوضاء تزداد كل ثانية.

تتذكرنهي” أنها في لحظة مفاجئة شديدة الرعب، أمسك بها ٥ عناصر من الإخوان،  شدّوا حقيبتها بعنف، تقول: كنت في حالة خوف تام وعدم استيعاب لما يحدث، تمنيت لو كان كابوسًا سأفيق منه سريعًا، حاولت للحظات  السيطرة على خوفي قلتالشنطة مافيهاش كاميرا، سيبوني أمشي“.

تستطرد: كنت أخفي هاتفي داخل ملابسي، فهو الشيء الوحيد الذي يمكنني من خلاله التواصل مع العالم خارج هذه الفوضى. رفع أحدهم عليّ  سلاحٍ أبيض  يهددني بهمطواه، وبدأ يوجّه لي اتهامات حادة وهو يقول: “طبعًا هتنشروا إننا السبب في كل وقائع العنف والحرق وقطع الطريق“. كان يتحدث بغضب وريبة، وكأنني اتحمل مسؤولية كل ما يحدث.. حاولت التفاهم معه وقلت: “لو مش عايزني أكمل معاكم سيبني أمشي“. رده كان قاطعًا: “مش هتمشي من هنا“.

 وتقول: “في تلك اللحظة، بينما كنت محاصرة بينهم، سمعت صوت المذيعة من خلال سماعة أذني  تقول: “الزميلة نهى يتم الاعتداء عليها على كوبري الكُنيسة الآن“. أدرك أن الهاتف ظل مفتوحًا مع القناة منذ آخر مداخلة دون أن أدري..  كانت جملة صادمة وقعت عليّ كالصاعقة، كأنني أسمع خبرًا عن شخص آخر، لا عن نفسي، هنا أيقنت أن الموت قادم لا محال، وتخيلت حالة أبي وأميأبي الذي قاطعني بعد الحادثة ٣ أسابيع من شدة خوفه عليّوكنت أعرف أن المجرمين يتابعون القنوات والمواقع من خلال فرق مخصصة لمتابعة وسائل الإعلام لحظة بلحظة“.

تضيف: “بعدها بلحظات سمعت دوّى صوت إطلاق نار، يمزق الصمت والارتباك، وفي ثوانٍ قليلة ظهر رجل لم أتوقع وجوده؛ سائق توكتوك جاء من وسط الفوضى، جُند من جنود الله لإنقاذي، أمسك بيدي بقوة، وجرّني نحو درجات الكوبري..كانت حركته عنيفة لكنها منقدة، فقد تدحرجت على السلالم وأُصبت في ذراعي، بينما هومصرّ على إبعادي عن المكان.

وتتابع: “في ثوانٍ كنا داخل التوكتوك، وأشرت إلى زميل لا أعرفه، كان الوحيد المتواجد في وسط المسيرة للتغطية،  ورغم موقفه السلبي تجاهي، ورغم كل الرعب الذي بداخلي، أشرت إليه بأن ينزل من أعلى الكوبري خوفًا عليه من التنكيد به، وليذهب معنا سريعًا وبالفعل استجاب.

كل رواية تُروى اليوم، هي خطوة إضافية نحو كسر الصمت، وإعادة الاعتبار، وتأكيد أن حماية الصحفيات هي حماية لصوت الحقيقة

 وتكمل: وصلنا إلى مقهى قريب، أجلسني فيه سائق التوكتوك، كنت أبكي وأرجف وفي حالة صدمة تامة، بدأ يطمئنني بصوت هادئ: “إهديأنتِ دلوقتي بخير، وبعد لحظات قال لي: “أنا مسيحي ولما شوفتِك بنت لوحدِك خفت عليكي، طلعتك فوق، وصاحبي كان منتظرنا بالتوكتوك تحت“.

كانت كلماته امتدادًا لإنسانيته التي أنقذت حياةنهىبعدما كانت قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، الغريب أنها طلبت منه في هذه اللحظة أن تذهب لزملائها من المصورين والصحفيين الذين يجتمعون كعادتهم كل جمعة في الطالبية في انتظار مسيرة الإخوان . تقول نهى: “زملائي كانوا بمثابة دائرة الأمان“.  

في الميدان، تتحول الشجاعة إلى رداء يومي الصحفية بقسم الحوادث ومعدة أحد البرامج الاجتماعية الشهيرة، فاطمة طارق، معروفة بالشجاعة والمثابرة والإصرار للوصول إلى ماوراء الخبر. صلابة وثباتفاطمةفي مواجهة المخاطر اليومية للعمل الصحفي الميداني،  ترهب من يحاول إيذائها في كثير من الأحيان، فخوفها مختبئًا دائمًا خلف ابتسامة ساخرة.

 شجاعة في قلب الميدان وخوفًا يتوارى خلف ابتسامة ساخرة

ترويفاطمةواقعة احتجازها  في أحد المنازل من قبل  جماعة الإخوان, عقب ثورة ٣٠ يونيو،  وأثناء تغطية تظاهراتهم، سحبوا هاتفها واحتجزوها بعد توثيق واقعة وجود سلاح ومولوتوف، وأنقذها بعد محاولات عديدة سائق توكتوك أيضًا.

تتذكرفاطمة”، واقعة أخرى تعرضت فيها لمحاولة خطف وتهديد، عندنا كانت تبحث في منطقة شعبية، عن  شاب اتُهم بإخصاء والده بعد ضبطه هو وزوجته في واقعة خيانة، وأثناء بحثها عنالعنوان منزل الجاني والمجني عليه، تعرضت لمحاولة خطف، ساومها فيها الخاطف، بحياتها مقابل مبلغ من المال، لولا تدخل بعض الأشخاص من نفس المنطقة في الوقت المناسب، وتختتم بسخريةوأديني أهو عايشة“. 

الصحافة في المواجهة بين فوضى التظاهرات والتشديد الأمني 

لم تكن ظروف العمل لداليا محمود، أفضل حالاً من زميلتها فاطمة، تقول داليا: كنت صحفية ميدانية لأحد المواقع حديثة النشأة آنذاك، كانت هناك دعوات للتظاهر في 11 نوفمبر 2016 تحت شعارثورة الغلابةلم نكن نعلم بالتحديد الجهة الداعية، وكُلفت بالتغطية الميدانية لتلك التظاهرات، من ميدان التحرير. عند الميدان رصدت غياب أية مؤشرات للتظاهر، فبدأت أتجول بصحبة إحدى الزميلات في الشوارع المحيطة للميدان، واقتربنا من شارع محمد محمود في بدايته تحديدًا حيث تتمركز قوات الأمن، أوقفنا أحد القيادات وتحفظ علينا لولا تدخل مؤسساتنا.

المشهد الأقسى الذي لن تنساهاداليا، أثناء تغطية انتفاضة طلاب الثانوية العامة في محيط مقر وزارة التربية والتعليم بوسط القاهرة، تقول: “كانت تحركات الطلاب المحتجين عشوائية للغاية، ومتفرقة بين الشوارع المتاخمة لشارع سعد زغلول، بدايةً من مقر الوزارة، إلى  القصر العيني، وصولًا إلى ميدان التحرير، كر وفر مستمرين، رغم التشديد الأمني، حاولت توثيق الحدث قدر المستطاع، كنت أنا الأخرى أتنقل بعشوائية ولكن في حذر، وفي لحظة بعينها وسط المناوشات، دفعني أحد اللواءات بمنتهى القوة، سقطت الكاميرا، كان يعلم جيدًا إنني صحفية، لكنه تعمد عرقلتي عن تأديه عملي بإبعادي بالقوة ومنعي من التغطية، فدفعني وأُصبت إثر الدفعة بتمزق في كتفيّ، ومكثت  ٣ أيام في المنزل من شدة الألم سامحت ولكن لن أنسى“. 

الكاميرا أصدق أداة في معركة الحقيقة 

 تواجه المصوّرات الصحفيات مآسي يومية أثناء التغطية الميدانية؛ فالكاميرا التي يفترض أن تكون وسيلتهن لتوثيق  الحقيقة، تتحول في كثير من الأحيان إلى سبب مباشر للخطر.. أداة في معركة تخوضها كل مصوّرة بمفردها، لا يرى أحدًا فيها سوىالكادرلاما تتحمله.

 تقييد الحرية ثمنًا باهظًا لتوثيق الحقيقة  

 تقول وفاء حسنالمصورة الصحفية بجريدة فيتوبصوت يحمل تحمل التجربة وثقل ما شاهدته العدسة: “كنت أرصد يومًا الزحام المروري أمام الكاتدرائية المرقسية في العباسية بالتزامن مع إحدى المناسبات الدينية، وبعد انتهاء التغطية فوجئت بشرطي يتحفظ عليّ، ويطلب مني حذف كل ما التقطته بالكاميرا. حذفت الصورفعلًا، وطلبت منه السماح لي بالانصراف، لكنه أخبرني أنه تواصل مع قسم الشرطة وأن أحد الضباط في الطريق إلينا.

 جاء الضابط واصطحبني إلى أقرب قسم شرطة، صحيح أن المعاملة كانت جيدة، لكن لولا علاقات المؤسسة التي أنتمي إليها واتصالاتها، ما كنت أعلم كيف سيكون مصيري.. فقط لأنني أقوم بعملي الذي يكفله الدستور والقانون“.  

أحيانًا يأتي العنف والإقصاء منأبناء الكار، تقول وفاء: “عشرات المضايقات كانت تصدر من مصوري القنوات، يتعدون علينا بالدفع، لتفريغ الساحة لهم فقط للتصوير، كما أن  غالبًا ما يحدث التطاول والتعدي علينا بالضرب من قبل الحرس الشخصي للوزراء، لذا أصبحت أتجنّب الأمر مؤخرًا، حتى لو أثّر ذلك بالسلب نسبيًا على التغطية“. 

المهنة على المحك 

كانت معركة انتخابات 2010 واحدة من تلك اللحظات التي لاتُنسى في تاريخ الصحافة المصرية، لم تكن مجرد انتخابات تُدار في سياق سياسي محتقن؛ بل كانت بالنسبة للصحفيين اختبارًا قاسيًا للقدرة على الصمود وكشف الحقيقة، تروي هبة شعيب، إنها كانت صحفية تنقل لجريدة النهار المصرية، المعركة الانتخابية في دائرة مصر القديمة، تتذكر إنها حضرت قبل أيام قليلة من عملية التصويت، ندوة للمرشح الإخواني يسري بيومي، يتحدث فيها عن الشفافية والنزاهة وكيفية مواجهة أي ممارسات مخالفة لتوجيه الناخبين، ولكن صُدمت يوم الانتخابات، حينما رأيته يعطي رشاوى انتخابية لبعض الناخبين

تقول هبة إنها رصدت هذه الوقائع بكاميرتها، وبعدها بثوان فوجئت بمجموعة من أتباعه يطاردونها ويهددونها، إذا ما حذفت ما  وثقته، رفضت وبشدة ونُشر الخبر الصحفي، وصعد المرشح الإخواني الأمر حتى وصل إلى والدها الذي ينتمي لنفس الدائرة الانتخابية، أدركت  حينها أن  الكلمة والصورة قد تتحولان بسهولة إلى ساحة المواجهة، وأن المهنة نفسها تقف على المحك“.

قبل عامين من هذه الواقعة تتذكرهبةأيضًا  بمنتهى الآسىكانت لتوها متدربة حديثة بجريدة المساء، تخطو خطواتها الأولى في المهنةحين ذهبت لتغطية جنازة المخرج الكبير يوسف شاهين عام2008، كانت تعرف جيدًا متانة العلاقة الإنسانية التي جمعت شاهينبالإعلامي محمود سعد، ولذلك حاولت أن تحصل منه على تصريح صحفي يُضيء جانبًا من تلك العلاقة ويثري تغطيتها الصحفية، لكن اللحظة التي كانت تتوقع أن تكون إنسانية ومهنية، تحوّلت إلى ما يشبه الصفعة؛ نهرها محمود سعد بشدة، ترك فيها جرحًا مّس روحها لم يندمل حتى الآن، بحسب قولها.

شارع عبد الخالق ثروت: توتر ميداني كبير وتجاوزات بحق الصحفيات

في شارع عبد الخالق ثروت، حيث تتشابك الهتافات وصخب المدينة، تقف الصحفيات بين التدافع والضجيج، يرصدن لحظات الخوف والارتباك، صامدات وسط الفوضى، مؤمنات بأن الحقيقة تستحق أن تُروي مهما اشتد الخطر

تستحضر ليلى عبد الباسطالصحفية المعنية  بالملف الصحفي والحقوقيالمشهد تمامًا رغم مرور أكثر من ثمانٍ سنوات، تقول: “كُلفت من جريدة الشروق بتغطية الذكرى الثانية لعمومية الصحفيين في ٤ مايو، وكانت بالتزامن مع شهر رمضان الفضيل، كان الحضور داخل مبنى النقابة كبيرًا ما بين شباب الصحفيين، الذين كانوا المكوّن الرئيسي لهذه العمومية، وبين شخصيات سياسية منتمية للجماعة الصحفية، وعددٍ من رؤساء التحرير”.

تضيف ليلى: “كان مشهدًا حميميًا تضامنيًا بامتياز، إفطار الجميع يومها كان الفول والطعمية، وبعد آذان المغرب بدأت الفعاليات، وكان أبرزها وقفة على سلالم النقابة. هنا طوّق الأمن عبدالخالق ثروت، ومع أول هتاف عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير، خُفتت أنوار أعمدة الإنارة في شارع عبد الخالق ثروت، واقتحمت قوات الأمن سلالم النقابة بالفعل”.

تتابع: “ازداد القلق وهرول معظم المشاركون إلى داخل مبنى النقابة، وأثناء التدافع أُصبت بتمزق في كتفي وكدمات متفرقة في الجسد. بعدها هدأ الوضع نسبيًا، وتم التفاوض بين القيادات الأمنية وأعضاء مجلس النقابة حينها على خروج الصحفيين بالتوالي من خلال ممر آمن”.

هناء البُلكصحفية متخصصة في  الملف الصحفي والحقوقي أيضًاوواحدة من الصحفيات اللاتي شاركنليلىنفس الواقعة، لكنها تحمل أيضًا في جعبتها وقائع أخرى تعرضت فيها للعنف والمنع والتضييق. تتذكر حينما كُلفت بتغطية انعقاد الجمعية العمومية العادية لنقابة المحامين في ٢٠١٦، حاول أحدهم منعها من التغطية وسحب هاتفها، ونشبت مشادة بينهما، لولا تدخل محامٍ آخر قبل أن يتحول الأمر إلى مشاجرة بالأيدي.

تشاركنيهناءوليلىواقعة رفض حراس نقابة المحامين اللجوء إليها وقت القبض العشوائي على متظاهرين رافضين لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، في شارع عبد الخالق ثروت. كنا حينها نغطي المسيرة القادمة من شارع رمسيس في اتجاهها إلى نقابة الصحفيين، وفي بداية الشارع، وتحديدًا عند البوابة الجانبية لنقابة المحامين، قررت قوات الأمن فض التظاهرة، وتم القبض على عددٍ من المتظاهرين. في تلك اللحظة، ومع هذه الأجواء المليئة بالتوتر، طالبنا حراس النقابة السماح لنا بالدخول للانتظار داخلها حتى تهدأ الأوضاع بالخارج، فرفضوا وابعدونا بمنتهى العنف.

“النجاة ليس فردية”

 لم تكن تلك المرة الأولى التي أواجه فيها العنف في الشارع، بكلمات بسيطة لكنها كاشفة عبرت الزميلة الصحفية  سوزان عبدالغني، عن حجم المعاناة التي يتعرضن إليها الصحفيات أثناء التغطية الميدانية.

تقول  سوزان: “أتذكر جيدًا يوم كنت  أغطي مظاهرة قبل ثورة يناير، في محيط كنيسة  السيدة العذراء بشبرا، كان المشهد مرتبكًا ومشحونًا، وفجأة شكّل الأمن كردونًا محكمًا حول المتظاهرين، قسمهم إلى ثلاثة مجموعات، ووجدت نفسي محبوسة داخل واحدةٍ منها مع زميلة صحفية ومصور الذي كان يعمل معنا“.

وتضيف: “كان المصوّر يحاول أن يحمينا نحن والنساء المحاضرات معنا، وفي قلب التدافع حاول الأمن ضرب المتظاهرين، لكنه تلقّى الضربة على رأسه بدلًا منهم.. لأنه ببساطة مدّ ذراعيه ليحجب العنف عنّا. لحظة لم أنسها: فيه ناس بتشتغل بصمت، أبطال منغير ما حد يعرف أسماءهم“.

وتتابع: “استطاعت زميلتي التواصل مع قريبٍ لها في وزارة الداخلية، فاتصل هو بدوره بأحد الضباط الموجودين في المكان، وجاء ليخرجها من الكردون. لكنها رفضت.. رفضت أن تغادر قبل أن نخرج نحن والسيدات المحبوسات معنا. كانت واقفة وسط الزحام، متشبثة بموقفها، كأنها تقول للعالم كله: “النجاة مش فردية.. إما كلنا أو ولا واحدة فينا“.

وفي مرة أخرى، أثناء تغطية تفجير كنيسة طنطا، تعرضت سوزان”  لاعتداء من قس. تقول:” وسط الفوضى وصراخ المصابين ودموع الأهالي، اقترب مني قسّ غاضب، ودفعني بعنف وحاول إخراجي بالقوة من المكان. كان يرى في وجودي تهديدًا، ربما لأنه لم يرد أن أتحدث مع أهالي الضحايا أو أن أنقل صوتهم، لكن الحقيقة أنني كنت هناك لأجلهم تحديدًا“.

التهديد الجسدي واستغلال النفوذ 

أما أنا لم أكن بعيدة عن المآسي التي عاشتها الزميلات؛ بعضها حملناه سويًا، وبعضها الآخر تجرّعت كل واحدةٍ فينا مرارته وحدها كانت بدايتي مع تغطيات نقابة المحامينشرارة أولى لندبات لاتُنسى“. 

كنت مُكلفة بتغطية أحد الاعتصامات المناهضة لإدارة سامح عاشورللنقابة آنذاك، وأتذكّر أيضًا ذلك المحامي المحسوب على النقيب، الذي كان يطوف حولي كظلٍّ لا يرحل. كان يحاول الحديث معيمرارًا، اتجاهل تارة، وأحذّره من الاقتراب مني تارة أخرى، إلى أن حلّ المساء، وتعمد أنصار النقيب قطع التيار الكهربائي جزئيًا عن المعتصمين. في تلك اللحظة المظلمة، حاول الإمساك بيدي، فدفعته بقوة، ليفاجئني بسيلٍ من الألفاظ النابية التي أهدر فيها كرامة الصحافة والصحفيين.

 تضامن معي يومها كبار المحامين؛ الراحل خالد أبو كريشة، ومنتصر الزيات، واتخذت نقابة الصحفيين لاحقًا قرارًا بمنعه من دخول مبنى النقابة كزائر. ومع ذلك، ظلّ يطاردني بالتهديد عبر زميلات، متوعدًا بدعاوى قضائية، وهو ما لم  يستطع فعله.

وجاءت المأساة المضحكة المبكية، حين نشرت تحقيقًا صحفيًا بالمستندات عن منتحلي صفة من المحامين؛ وأشرت بالحروف إلى محامي منهم، سقط قيده بالنقابة لانشغاله بوظيفة أخرىقبل أن يستقيل ويعيد قيده مجددًاوفُضح في أكثر من مناسبة على الشاشات ومعروف بمحاميالشو، بعد التحقيق الصحفي،  حاول تهديدي وصعد شكواه إلى رئاسة التحرير، لكني كنت ثابتة قوية، أؤمن إنني انتمي لمهنة الأصل فيها فضح الزيف والبحث عن الحقيقة.

أتذكر أيضًا، حينما كنتُ في أول أيامي في التغطية الميدانية، أخطو خطواتي المرتبكة نحو مهنة لا ترحم المبتدئات. ذهبتُ إلى مستشفى جراحات اليوم الواحد في حي المرج، لتصوير خروج جثامين شبّان قُتلوا أثناء اشتباكات مع مسيرة للإخوان. وبمجرد أن أمسكتُ بكاميرتي وبدأتُ التصوير، لم تمر سوى دقائق حتىتقدّمت نحوي سيدةٌ عجوز من أقارب الضحايا، كانت عنيفة في ردّ فعلها إلى حدٍ لم أتوقعه

اندفعت نحوي بغضبٍ أعمى وضربتني بقوة على كتفيّ الأيسر، محاولةً منعي من توثيق لحظة خروج الجثامين.. اللحظة التي كنت قد رصدتها بالفعل

 في تلك اللحظة، لم يكن ألمًا في كتفي وحده، بل في إدراكي المبكرلِما يعنيه العمل الميداني: أن تصطدم بمشاعر الآخرين حين تكونفي أقساها، وأن تواجه غضبًا لا يعرفك لكنه يصيبك، وأن تحافظ رغم ذلك على اتزانك وواجبك المهني وسط فوضى الفقد والفجيعة.

حماية الصحفيات حماية للحقيقة 

هذه الشهادات ليست مجرد قصص شخصية، بل جزء من واقع يومي تعيشه الصحفيات، ورغم ذلك، فإن كل رواية تُروى اليوم، هي خطوة إضافية نحو كسر الصمت، وإعادة الاعتبار، وتأكيد أن حماية الصحفيات هي حماية لصوت الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى