اللقطة أم حياة إنسان: التصوير الصحفي بين المهنية والضوابط الأخلاقية (تقرير)
تقتضي دومًا الظروف والأحداث الخاصة، توثيقًا للحظات استثنائية قد لا تتكرر ثانية، الأمر الذي يستلزم بالضرورة وجود شخص على دراية بمفردات التصوير ومتطلباته، وأن يكون مشهودًا له بالكفاءة والتميز، يدرك جيدًا طبيعة مهنة التصوير وما تعنيه في كونها رسالة أخلاقية ومهنية في المقام الأول، تستدعي منه أن يكون جديرًا بتحمل مسؤولياتها في كل الأوقات، ولا يتخلى عن دوره مهما واجه من عقبات أو قيدته الإمكانيات المحدودة في بعض الأحيان، يكفيه الشغف والطموح ثم الإصرار والسعي نحو الهدف المنشود، وأن يكون” إنسانًا” يشعر بالغير، ويعمل من أجل الصالح العام.
ولا شك أن هناك العديد من المصورين الصحفيين قد صادفتهم إشكاليات أخلاقية خلال عملهم في كثير من المواقف، لم يستطيعوا وقتها اتخاذ القرار المناسب حيالها، ربما لقلة خبرتهم وتمرسهم في المهنة أو لطبيعة وحجم الموقف نفسه، فلم يحسنوا التصرف من وجهة نظر الآخرين، ما أدى بالتبعية إلى إثارة الجدل حول فكرة تخلي المصور عن دوره في أن يلتقط صورة للحدث أيًا كان حجمه وبين شعوره الإنساني كشخص تورط بوجوده في مكان الحدث ذاته، ربما قد يكون مخططًا له أن يلعب أدوارًا أخرى بخلاف دوره الأساسي الذي من أجله هرول لموقع الحدث في أقل وقت، ليلتقط بعدسته صورًا تبقى أثرًا مسجلًا على مر الزمان.
ومن هذا المنطلق، يحرص المرصد المصري للصحافة والإعلام في يوم التصوير العالمي، أن يعيد فتح النقاش حول النقطة الجدلية التي باتت محل خلاف وانتقاد بين كثيرين لسنوات، تتلخص في تساؤلات طرحناها على عدد من الأساتذة والمتخصصين، مضمونها كالتالي:
متى يحدد المصور الصحفي أن عليه التخلى عن اللقطة حتى وإن حقق بها سبقًا صحفيًا والتدخل لإنقاذ شخصًا ما أو ضحية وجدت في مكان الحدث ـ المراد تصويره؟
وما هي المعايير أو الضوابط التي على المصور الالتزام بها في هذا الموقف؟ هل عليه أن يكتفي بدوره الأساسي فقط في التقاط الصور المناسبة للحدث والانصراف من المكان أم يقيم الوضع ككل ويتصرف بما يقتضيه شعوره الانساني؟.
في البداية تقول عبير سعدي، المراسلة الحربية والباحثة والمستشارة الإعلامية والمدربة في السلامة المهنية، أن هناك معضلات أخلاقية كثيرة تتحكم في عملية التصوير، فهناك البعض لديه ثقافة ضد الكاميرا بشكل عام، مشيرة إلى وجود 3 قواعد أخلاقية على المصور الصحفي الالتزام بها في حال إذا تعرض لموقف تتطلب منه اتخاذ قرار حاسم في لحظة فارقة، هذه القواعد على هيئة تساؤلات على المصور أن يسألها لنفسه قبل أن يقرر إما أن يساعد (أي يقوم بعملية الإنقاذ) أو أن يكتفي فقط بالتصوير، تتلخص في الآتي:
1. هل أنا في خطر؟
( إذا شعر المصور أن هناك خطرًا عليه قد يهدد من سلامته ففي هذه الحالة عليه أن يصور فقط الحدث ولا يبادر بتقديم أي نوع من المساعدة، فقد يتضرر هو شخصيًا).
مثلما قام المصورالصحفي، طلال أبو رحمة، والذي التقط صورة للطفل الفلسطيني محمد الدرة، عندما قتل في حضن والده خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2002، أثناء محاولة اختباءهما خلف أحد الجدران بعيدًا عن جنود الاحتلال الإسرائيلي، فقد اختار أبو رحمة، أن يقوم بعمله في توثيق هذا الحدث والذي هز العالم وقتها، ولفت الأنظار إلى الجرائم التى يرتكبها الإحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني.
2. هل هناك آخرين يقومون بمهمة الانقاذ؟
( إذا كان الجواب بنعم؛ فعلى المصور أن يركز في عمله، ويتيح الفرصة لغيره أن يقوموا بعملهم، وإذا كان الجواب بلا، فيمكنه المساعدة لكن بعد أن يكون قد انتهي من دوره الأساسي في توثيق الحدث ـ أي التصوير، وهذا هو إيماننا بدورنا كصحفيين فكم من الحوادث التى وقعت والمجازر التى ارتكبت على مدار التاريخ، ولم يعلم عنها أحد ليس لشيء سوى أنها لم توثق أو تُسجل وبالتالي لم تتناقلها الأجيال).
3. هل هناك دقيقة أو عشر ثواني ـ على الأقل ـ يستطيع فيها المصور أن يلتقط الصورة ثم يقوم بعملية الإنقاذ أو المساعدة؟
( في حالة إن لم يكن هناك آخرين غيره في المكان، وفي الوقت نفسه لا يوجد أي نوع من الخطر عليه، يمكنه المساعدة بدافع إنساني، بشرط أن يكون قد انتهي قبلها من تأدية عمله كمصور).
مثلما حدث مع المصور كيفين كارتر، الذي التقط صورة لفتاة سودانية مع وجود نسر قد حط بجانبها، وقت المجاعة التى شهدتها البلاد في أوائل التسعينات، وبالرغم من حصوله على جائزة بوليتزر، انتحر، ولم يتحمل الانتقادات التى وجهت ضده لعدم انقاذه للطفلة وتركه لها وحيدة تلاقي مصيرها بعد أن قام بالتقاط الصورة، على الرغم من أنه كان يمكنه مساعدتها فور انتهاءه من التصوير، خاصة وأنه لم يكن هناك آخرين غيره في المكان، ولم يشكل الأمر خطرًا عليه، لكنه آثر الرحيل دون أن يعرف مصير الطفلة، وقد يكون ذلك هو ما جعله يتأزم نفسيا ويشعر بفداحة الموقف الذي لم يحسن التصرف فيه.
وعلى الجانب الآخر، تضيف “السعدي” في حديثها مع المرصد المصري للصحافة والإعلام، أن اتخاذ المصور لقراره ـ الأخلاقي ـ في التصوير خاصة في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة، يرجع في النهاية إلى تقييمه للموقف الموجود فيه، فإذا لم يكن هناك خطرًا يهدد أمنه الشخصي عليه أن يستمر في ممارسة عمله، وإذا حدث العكس عليه أن يغادر المكان فورًا، مشيرة إلى أنه من الضروري أن يستأذن المصور قبل أن يلتقط الصورة، ففي بعض الأحيان قد لا يكون ذلك محبذًا كما في حالات الاغتصاب، ليس من أخلاقنا معاملة الناس على أنهم “أشياء”، لافتة إلى أهمية أن يسأل المصور نفسه “هل ما أقوم به لشهرة صحفية أبتغيها أم من أجل الصالح العام؟”.
من جهته يقول عمرو نبيل، رئيس شعبة المصوريين بنقابة الصحفيين السابق، أن هذه التساؤلات لازالت تٌطرح مع كل صورة يثار حولها الجدل، والتي قد تختلف بالطبع ظروف التقاط كلًا منها عن الأخرى، موضحًا أن هناك العديد من التحديات أو كما يصفها بـ”الحيرة” التي قد تواجه المصور الصحفي أثناء تواجده في مشهد مُطالب أن يقوم فيه بالتغطية الصحفية بشكلٍ مهني ومحايد ونزيه وما بين الجانب الانساني، فهو في النهاية بشر ولديه مشاعر.
استشهد” نبيل” في حديثه لـ” المرصد” بصورة فتاة النابالم، التى التقطها المصور الشهير” نيك أوت “أثناء حرب فيتنام، قبل 48 عاماً، والتي أثارت الجدل لسنوات طويلة إلى هذه اللحظة، ظهرت الفتاة عارية إذ بدا جسمها ملتهبًا بشدة بفعل تأثير قنابل النابالم الحارقة التى استهدفت قريتها وأصابت جميع سكانها بإصابات بالغة، وقتها لم يطل “نيك” التفكير فيما إذا كان الامر أخلاقيًا قد يسئ للفتاة حينما تكبر، فبادر بالتقاط الصور التي تصف الحدث وحجم بشاعته، وأرسلها لوكالة “أسوشيتد برس”، والتي بدورها أرسلتها للعديد من الصحف الأمريكية، فكان موقفًا أخلاقيًا فريد من نوعه خاصةً وأنه بعد أن قام بعمله بادر من تلقاء نفسه وساعد الفتاة، ونقلها إلى أقرب مستشفى لتلقي العلاج اللازم.
انقسمت الآراء حول مدى إمكانية نشر الصورة التى تظهر فيها الفتاة عارية، وما قيل أنه قد يلحق ضررًا نفسيا بها عندما تكبر وتتذكر الموقف الصعب الذي التقطت فيه هذه الصورة، وقد يدفع ذلك أسرتها إلى رفع قضية على المصور أمام المحاكم، لكن ما حدث هو أن جميع الصحف الأمريكية قد حسمت موقفها تجاه نشر الصورة، بعد مداولات واجتماعات دارت بين رؤساء مجالس إدارتها، إذ قرروا بالإجماع أن تلك الواقعة التى التقطت فيها الصورة هى شأنٌ عام ، وتعبر بقوة عن ويلات الحرب، فلا يمكن إخفاء الحقيقة حتى وإن كانت مُرة، مؤكدًا أن مصلحة المجتمع هي المعيار الأساسي الذي بمقتضاه نقيس مدى أهمية نشر الصور من عدمه.
واعتبرت هذه الصورة التى هزت الضمير العالمي، سببًا رئيسيًا في ايقاف حرب فيتنام عام 1973، ما يدل على أن الصورة قد تكون مهمة جدًا، أكثر من أن تكون أولوية المصور أن ينقذ أو يساعد الضحية، ولاشك أن صورة الفتاة قد ساهمت في منع آلاف آخرين غيرها من أن يكونوا مصابين أو قتلى، وهذه هي المعادلة التى يجب على المصور أن يفكر فيها قبل اتخاذ قراره، وعليه أن يسأل نفسه: هل إذ التقطت هذه الصورة ستساهم في إنقاذ آخرين ولا يقعوا في نفس المصير؟.. إذا كانت الاجابة نعم فعليك أن تلتقطها.
وتابع: ” استمرارك في التصوير ربما قد يضر بالشخص المصاب/ الضحية بنسبة 50% لكن إذا كنت شايف إن التأثير ممكن يزيد ويضر بعشرات الآلاف بنسبة 100% يبقى لازم تصور”، موضحًا أنه يختلف ذلك من حدث لآخر، وبناءً عليه يقيم الموقف ويحدد على أساسه القرار المناسب من وجهة نظره، فمن واقع خبرته يستطيع حسم الامر.
ومما يذكر أن هذه الفتاة عندما سُئلت ذات مرة عن ما إذا كانت قد انزعجت من قيام المصور بالتقاط الصورة ونشرها، أجابت قائلة:”بالطبع لا، صورته أسهمت في وقف الحرب على بلادي”.
وعندما كبرت، صارت سفيرة للنوايا الحسنة في الأمم المتحدة، تبذل جهدها في إيقاف الحروب بين الدول.
واسترجع” نبيل” موقفًا، واجهه أثناء تغطيته الصحفية لثورة 25 يناير في أيامها الأولي:
“خلال تواجدي بالقرب من المتحف المصري بميدان التحرير، لاحظت وجود تجمع لأشخاص يقومون بضرب أمين شرطة يعمل في أمن الدولة بشكل عنفواني، وما لفت انتباهي أنهم يزيدون من عنفهم ضده بسبب وجود الكاميرا التي كانت بحوزتي، فالطبيعي أنني كنت أقوم بالتصوير، لكن في هذه اللحظة قررت التوقف عن التقاط الصور لهذا المشهد المهين، ومساعدة الرجل الذي تكاثروا حوله فأبرحوه ضربًا وكاد أن يتسبب ذلك في مقتله، لولا تدخل أحد أفراد الشرطة العسكرية المكلفين بحماية المتحف والذي لجأت إليه عندما شعرت أن الرجل في خطر ومن الضرورى إنقاذه، لم أستغرق الكثير من الوقت في التفكير، فحسمت قراري في أقل من دقيقة وساعدت بما أستطيع.. “فلتسقط الصورة”، تخليت عن اللقطة التى ربما قد أعوضها في حدث آخر، لكن لم أتخلى عن إنسانيتي”.
وشدد على أهمية أن يكون المصور أمينًا مع نفسه، يتخذ قراره بما لا يخالف ضميره المهني وإنسانيته، مضيفًا أن كل مشهد وله معاييره، وهو ما يحدده المصور وفقًا لما تقتضيه ظروف وطبيعة المشهد ذاته، فتحديد أهمية الصورة وقيمتها هو ما سيجعل المصور يحسم قراره، معتبرًا أن الأمر أخلاقيًا أكثر منه مهنيًا.
من جانبه يقول أحمد حامد، المصور الصحفي، أن جزء من المهنية هو أن نكون مجرد موثقين للأحداث، وليس جزءًا من الأحداث، وتلك هي طبيعة عمل المصور في كل وقت، وعليه أن يلتزم تجاهها، وألا يتخلى عن دوره الأساسي ـ المطلوب ـ منه.
وأضاف أن في حال استلزم الأمر منه أن يتدخل بصفة إنسانية لتقديم المساعدة، يكون ذلك بعد انتهاءه من العمل المكلف به، في التقاط الصور المناسبة للحدث ـ موضوع التصويرـ ما دام في إمكانه ذلك، شريطة ألا يعرض حياته هو للخطر، فلا مانع من أن يقوم بدوره المهني ثم الإنساني إذا كان هناك وقتٍ كافٍ، ففي النهاية “نحن بني آدمين”.
وأكد “حامد” أن حياة أي إنسان أهم من مجرد لقطة عابرة يصورها، قائلًا:” إذا خُيرت بين حياة إنسان ولقطة، يبقي حياة الإنسان هي الأهم سواء كانت حياتك أو حياة شخص آخر”.
فيما أشار بأصابع الاتهام إلى المؤسسات الصحفية والتي ترسل مصوريها إلى مناطق قتال، دون أن تتولى إعدادهم للقيام بالمهمة، وتخضعهم على الأقل لورش تدريبية في السلامة المهنية وأخلاقيات التصوير، ما يجعل بعضهم طيلة الوقت يعاني من ضغوط العمل، فلا يستطيع اتخاذ قرارات سليمة في تلك المواقف التى يصادفها أثناء عمله.
وحسم المصور الصحفي البريطاني، دون ماكولين، الجدل فيما إذا كان على المصور الصحفي أن يكتفي بعمله في توثيق الحدث أم يتدخل لمساعدة غيره، حينما قال: “عندما تقف أمام منظر مؤثر وترى إنسانًا في موقف صعب يفقد كرامته فيه، حيث الظلم أو العنف، تسعة من عشرة أشخاص يديرون أنظارهم بعيدًا لشعورهم بالحرج، أو لعدم إحراج الشخص المتعرض لهذا النوع من الإيذاء، شخص واحد يبقي على نظره ناحية الضحية ويشهد على هذا الظلم ليترك بصمة ثابتة لا تُمحى، تُرسل إلى الباقين، ليساعدوا هؤلاء الضحايا ويخبروا العالم بما يحدث، هذا الشخص هو المصور الصحفي”.