خطة تطوير وتحديث المؤسسات الصحفية القومية: إلى أي طريق تسير؟ (تعليق)
تمر الصحافة الورقية بشكل عام، والقومية منها بشكل خاص، بعدد من الأزمات التي نتج عنها قلة موارد المؤسسات الصحفية، وهو ما يجعلها في مأزق مستمر أثناء تغطية التزاماتها ناحية العاملين بها، وتجاه الدولة من ضرائب من ناحية أخرى، الأمر الذي وصل بمديونيات الصحف القومية إلى ما يقرب من 19 مليار جنيه مصري.1
وتخوض تلك الصحف تحديات ضخمة في مقابل عدد من الأزمات الناتجة عن ظروف موضوعية محيطة بتلك الجرائد؛ منها تسارع وتيرة التطور التكنولوجي إلى حد بعيد، وبروز الصحافة الإلكترونية التي تستخدم الإنترنت كأحد أدوات نقل الأخبار بديلًا عن الورق، وقدرتها على جذب عيون القراء والمعلنين، وهو ما أدى إلى خلق أزمات اقتصادية لدى المؤسسات الورقية، نتيجة انحسار المعلنين والقراء على حد سواء واتجاههم إلى الإنترنت والإعلام المرئي بديلًا عن الصحف الورقية.
كما تعاني الصحف القومية بشكل خاص، من قلة توزيع أعداد الصحف، نتيجة لعدد من الأسباب أهمها؛ تشابه المحتوى الصحفي، في ظل مناخ معادي لحرية الصحافة، وإصرار إدارات الصحف على الحفاظ على الشكل الاعتيادي للإصدارات وعدم الاهتمام بالهوية البصرية، وعدم إجراء عمليات تقييم داخلية قائمة على تحليلات القراء وآرائهم في المواد الصحفية، بهدف تطوير المواد الصحفية وإجراء التعديلات اللازمة التي تخدم القراء، إضافة إلى الارتفاع الدوري لتكاليف الطباعة.
وبشكل عام؛ تزداد هذه الرؤية وضوحًا عند النظر إلى أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في ما يخص أعداد الصحف المصرية الصادرة، حيث تشير الأرقام إلى أن عدد الصحف الورقية انخفض من 142 صحيفة عام 2010 إلى 76 صحيفة عام 2017،2 وفيما يخص إجمالي أعداد النسخ الموزعة للصحف العامة محليا وخارجيا، أعلن “المركزي للتعبئة والإحصاء” في مايو من العام 2018، أن إجمالي النسخ الموزعة في عام 2016 بلغت نحو 534.64 مليون نسخة، مقابل 560.698 مليون نسخة عام 2015 بانخفاض بلغت نسبته 4.6%،3 وقد انخفضت نسب التوزيع في 2015 بنسبة 14.45 عن العام سابقه، حيث بلغ عدد النسخ الموزعة في عام 2014 نحو 655 مليون نسخة.4
وفي محاولاتها لإيجاد حلول للمشكلات المتفاقمة للصحافة الورقية، عقدت الهيئة الوطنية للصحافة –باعتبارها المسؤول الرئيسي عن الصحافة القومية– في 28 يناير الحالي، اجتماعًا برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي؛ رئيس مجلس الوزراء لمناقشة الأزمة وإيجاد حلول لها. حضر الاجتماع كلًا من الدكتور محمد معيط؛ وزير المالية، والأستاذ أسامة هيكل؛ وزير الدولة لشؤون الإعلام، والكاتب الصحفى أكرم جبر؛ رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، والدكتور أحمد كمالي؛ نائب وزير التخطيط لشؤون التخطيط، وعدد من رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحف القومية وعدد من رؤوساء التحرير. وقد أسفرت المناقشات عن عدد من النتائج الخاصة بخطة الحكومة لتطوير وإصلاح الصحف القومية، يمكن تلخيصها في الرسم التالي.5
وقد انتهى الاجتماع إلى عدد من التوصيات الهامة هي:
-
عدم فتح باب التعيين في أي مؤسسة صحفية قومية، ومنع التعاقدات.
-
منع المد فوق سن المعاش، إلا فى حالات الضرورة القصوى، لكبار الكتاب فقط.
-
العمل على تسوية مديونيات المؤسسات القومية، باستغلال عدد من الأصول غير المستغلة، التي تمتلكها الصحف.
-
دراسة موقف كل الاصدارات واتخاذ موقف حاسم بشأنها.
وقد أثار هذا الاجتماع، جدلًا بين جموع الصحفيين، وقد أصدر نقيب الصحفيين، ضياء رشوان، بيان علق فيه على نتائج الاجتماع قائلاً : “إن هذا التطوير والتحديث للمؤسسات الصحفية القومية لابد أن ينطلق من الإقرار الكامل بالدور الحيوي لها كمكون رئيسي للقوة الناعمة للدولة المصرية، ليس فقط من خلال إصداراتها المتنوعة، ولكن أيضًا من خلال الأدوار الرئيسية التي يقوم بها صحفييها في وسائل الإعلام الأخرى غير المطبوعة، من إلكترونية وتلفزيونية وإذاعية، نشرًا وتقديمًا وإعدادًا.6
وتابع قائلًا:” إن هناك حقيقتين يجب الإقرار بهما: الأولى أن التميز والثراء اللذين يميزان الصحافة المصرية يأتيان من قوتها البشرية، والثانية أن نقابة الصحفيين هي المنوط بها وفق الدستور والقوانين تنمية هذه القوة والحفاظ عليها“.
وأشار “رشوان“؛ إلى أن ما صدر عن الاجتماع المشار إليه بالتوقف عن التعيين في المؤسسات الصحفية القومية ومنع التعاقدات ومد السن فوق سن المعاش، إلا في حالات الضرورة القصوى، لكبار الكتاب فقط، إنما يستحق التوقف عنده بعدد من الملاحظات.
وتتلخص ملاحظات “رشوان” حول؛ تهديد القوة البشرية للصحافة القومية المصرية، وحرمانها من أجيال شابة جديدة تلبي احتياجاتها وتتوافق مع التطور التكنولوجي، كما أن من شأن هذا القرار أن يعيق جهود تطوير وتحديث الصحافة القومية التي قد تحتاج لتخصصات ضرورية من الصحفيين خلت أو غير متوافرة بها، أو يقوم بها غير المعينين، أو المتعاقدين بعد سن المعاش، وهو ما قد يصل في بعض الحالات إلى إعاقة وتعطيل العمل ببعض الصحف القومية.7
وأكد أن القرارات تمثل مساسًا خطيرًا بمصير أعداد من الصحفيين، نقابيين وغير نقابيين، قضوا سنوات طويلة من أعمارهم في خدمة الصحف القومية بتعاقدات متنوعة الأشكال، في انتظار التعيين بها حسبما تتابعت عبر السنوات الوعود لهم من القائمين عليها.8
ودعى إلى التعامل مع هذا الموضوع المهم في ضوء ما خوله لها الدستور والقانون من اختصاصات، وذلك بأن تقوم بشكل عاجل، ضمن خطة التطوير والتحديث المتفق عليها بينها وبين الحكومة، بالتنسيق مع رؤساء إدارات وتحرير المؤسسات والإصدارات القومية بإعداد قوائم مفصلة ومدققة لاحتياجاتها الحالية والمستقبلية من الصحفيين، وقوائم غير المعينين والمتعاقدين بعد سن المعاش، وتقوم في ظل هذا باتخاذ ما يتوجب القيام به من إجراءات وقرارات يخولها لها القانون، سواء بالتعيين أو بالمد أو التعاقد بعد سن المعاش، مع ما قد يستلزمه هذا من تدريب أو إعادة تأهيل لبعض الزملاء بما يتناسب مع خطوات التطوير والتحديث المقرر القيام بها للصحف القومية، وذلك ضمن ضوابط زمنية محددة.9
وأكد نقيب الصحفيين، أن نقابة الصحفيين، وبحكم الدستور والقوانين والتاريخ، ليست طرفًا في إدارة أي مؤسسة صحفية، قومية أو خاصة أو حزبية، ولا حضورها وجوبيًا في أي لقاءات تتعلق بإدارة وتطوير وتحديث هذه المؤسسات بمعرفة مالكيها أو المسئولين عن إدارتها، إلا إذا كانت تمس مصالح الصحفيين وحقوقهم ومهنتهم، فالنقابة هي الكيان الوحيد الذي يمثل الصحفيين المصريين العاملين بكل أنواع هذه المؤسسات، وهي التي، بحسب قانونها، تعمل على الارتفاع بمستوى المهنة والمحافظة على كرامتها والذود عن حقوقها والدفاع عن مصالحها، وضمان حرية الصحفيين فى أداء رسالتهم وكفالة حقوقهم والعمل على صيانة هذه الحقوق، ومن ثم، فإن النقابة تمد يدها لكل الجهات المسئولة عن الصحافة القومية لإنجاز مهمة الحفاظ عليها وتطويرها وتحديثها، كما أعلن مناقشة مستفيضة لهذه القرارات في اجتماع مجلس نقابة الصحفيين، المقرر عقده لمجلس نقابة الصحفيين يوم الخميس الموافق 30 يناير من العام 2020. 10
وإذ تهتم مؤسسة المرصد المصري للصحافة والإعلام بكل ما من شأنه التأثير على الصحافة والصحفين أو التأثير على مناخ الحرية الصحفية، فإننا نقدم مجموعة من الملاحظات على هذا الاجتماع فيما يتعلق بالجهات المدعوة للحضور، أو مضمون الاجتماع. وتتمثل أهم هذه الملاحظات في:
-
غياب نقابة الصحفيين عن الاجتماع
تأتي الملاحظة الأولى في نطاق شكل ترتيب وتنظيم هذا الاجتماع. ويبرز السؤال عن أسباب تهميش نقابة الصحفيين، وعدم دعوة ممثلين عنها لحضور هذا الاجتماع، الذي ناقش قضايا الصحف القومية، وهو الذي أدى بالتبعية إلى التطرق إلى الصحفيين العاملين بتلك المؤسسات. فنقابة الصحفيين هي الكيان الرسمي والشرعي الوحيد المعبر عن الصحفيين، والمتحدث باسمهم، وهو الذي يقوم برصد مشاكل الصحفيين، وإشكاليات الصحف، فالجهات المعنية بتنظيم مهنة الصحافة في تناغم وتكامل بعيدة عن الصراع أو المنافسة التي قد تؤدي إلى التمييز أو التهميش.
ومن الناحية القانونية؛ وطبقًا للمبادئ التي أرساها الدستور المصري 2014، والقانون رقم 180 لسنة 2018، وقانون نقابة الصحفيين، فإن نقابة الصحفيين هي الممثل الوحيد الرسمي للصحفيين بكافة المؤسسات القومية والخاصة، وهي المسؤولة عن الدفاع عن الصحفيين، وكرامتهم، وضمان الحفاظ على مستقبلهم المهني، وصون حقوقهم.
في إطار ذلك يعبر المرصد المصري للصحافة والإعلام عن تخوفه، من تهميش دور نقابة الصحفيين، وتعمد عدم دعوتها إلى هذا الاجتماع، الأمر الذي يشير إلى تبييت نوايا سيئة قد لا توافق عليها نقابة الصحفيين لعل أهمها قد أثير في الاجتماع وهو إيقاف تعيين الصحفيين في الصحف القومية.
إضافة إلى استئثار الجهات التنفيذية بهذا الاجتماع، وهو ما يعتبر تدخلًا، وانفرادًا بإدارة شؤون الصحافة، وتعدِ على حرية الصحافة، في ظل الوضع الحرج الذي تمر به الصحافة بشكل عام، وانحسار مساحات الرأي والتعبير، وتفشي حالات الانتهاك بحق الصحفيين من قبل الجهات التنفيذية، والمحاولات المستميتة والمستمرة التي تقوم بها السلطة التنفيذية في محاولة دحض الصحافة المهنية، وتضييق الخناق على الصحفيين بشكل عام.
-
خطة التطوير.. في أي طريق تسير؟
تكررت كثيرًا كلمة “خطة تطوير وتحديث المؤسسات الصحفية القومية” وتعد هذه الكلمة فضفاضة ليس لها معنى واحد، فما هي خطة التطوير بالتحديد؟ وما هي السياسات التي ستتبعها الهيئة الوطنية الصحافة لتطوير وتحديث المؤسسات الصحفية القومية؟ وكل ما تم نشره في الوسائل الإعلامية المختلفة حول هذه الخطة، لا يتعدي المصطلحات الفضفاضة التي تحتمل التأويل، ولها ما لها وعليها ما عليها.
ومن ثَم فإننا نطالب الهيئة الوطنية للصحافة، بالكشف عن تفاصيل تلك الخطة، تطبيقاً لمبدأ الشفافية، وتطبيقاً لمبدأ حرية تداول المعلومات، الذي يعتبر أحد المبادئ التي يجب أن تدعمها “الهيئة“، حتى يتثنى للجمهور الحكم على هذه السياسات وتحليلها بشكل سليم، والوصول إلى نتائج يمكن من خلالها تقييم مدى أهميتها وجدواها، على مستوى تحسين مناخ حرية الصحافة، ودعم الصحافة المهنية، وحفظ حقوق الصحفيين.
من ناحية أخرى؛ يعبر المرصد المصري للصحافة والإعلام، عن عدد من التخوفات، تتلخص في الآتي:
-
ماهية الموقف الحاسم الذي ستتخذه “الهيئة” حيال بعض الإصدارات، والذي يمكن أن يكون إلغاءً لبعض الإصدارات مما قد يؤدي إلى تسريح عدد من الصحفيين والعاملين، وهو ما يمثل تهديدًا لحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، والذي سيؤثر بالسلب على مستوى معيشتهم.
-
مصير الصحفيين المتدربين في المؤسسات القومية، نتيجة قرار “الهيئة” بمنع التعيين، الذي قد يؤدي إلى الاستغناء عن عدد كبير من هؤلاء الصحفيين، وهو ما يعد تهديد لمستقبلهم المهني، وسيؤدي إلى حرمانهم من دخول نقابة الصحفيين، كما سيؤدي إلى إشكاليات قد تتفاقم على المستوى المعيشي من حيث الاحتياجات الاجتماعية والالتزامات المالية للصحفيين.
-
تهديد مستقبل الطلاب الخريجين من الكليات المرتبطة بالصحافة، نتيجة انحسار فرص التوظيف والتعيين بعد قرار “الهيئة“بمنع التعاقد، ما سيضطر الخريجين إلى الذهاب إلى المؤسسات الخاصة فقط، وهو ما سيؤدي إلى انضمام عدد أكبر من الصحفيين إلى سوق العاطلين بالتوازي مع انحسار الفرص الوظيفية، التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى الأجور لزيادة الطلب في مقابل انخفاض العرض.
-
مدى قدرة المؤسسات الصحفية، على إعادة تأهيل الصحفيين والمؤسسات الصحفية، لمسايرة “الثورة التكنولوجية“، وإكسابهم خبرات التعامل مع الوسائل التكنولوجية الحديثة، وإكسابهم خبرات صحافة المواقع الالكترونية، ومهارات العمل الصحفي الرقمي.
-
ماهية تشكيل صندوق “مصر السيادي” الذي تم ذكره في البيان، وهو المسؤول عن تعظيم الفائدة من الأصول التي تمتلكها المؤسسات القومية.
-
ما هي معايير الضرورة القصوى، التي سيتم على أساسها مد التعيين فوق سن المعاش، وما هي المعايير التي سيتم على أساسها تحديد واختيار “كبار الكتاب“.
-
عدم الثقة في عملية استثمار أصول المؤسسات القومية، والتحلي بالشفافية أمام الجمهور في عمليات البيع أو استغلال هذه الأصول.
المصادر:
1 Ahmed Gomaa, Are Egypt’s newspapers threatened with extinction, AL-MONITOR, 22 march 2019, ِAccessed 25 july 2019, https://bit.ly/2Okop5N
2 الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، آخر زيارة بتاريخ 30 يناير 2020، الإحصاءات متاحة على الرابط https://capmas.gov.eg/Pages/IndicatorsPage.aspx?page_id=6147&ind_id=1070#
3 الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، آخر زيارة بتاريخ 30 يناير 2020، الإحصاءات متاحة على الرابط https://capmas.gov.eg/Pages/IndicatorsPage.aspx?page_id=6147&ind_id=1070
4 المصدر السابق ذاته
5 اجتماع بشأن خطة تطوير وتحديث الصحف القومية، الصفحة الرسمية لرئاسة مجلس الوزراء، جمهورية مصر العربية، آخر زيارة بتاريخ 29 يناير 2020، متاح على الرابط https://bit.ly/2Rzu0ou
6 محمد علي، ضياء رشوان: نقابة الصحفيين تناقش قرارات اجتماع مجلس الوزراء بشأن الصحف القومية الخميس المقبل، بوابة الأهرام، 27 يناير 2020، آخر زيارة بتاريخ 29 يناير 2020، متاح على الرابط http://gate.ahram.org.eg/News/2364321.aspx
7 أحمد البهنساوي، نقيب الصحفيين: وقف التعيينات بالصحف القومية يهدد قوة المهنة البشرية، بوابة الوطن، 27 يناير 2020، آخر زيارة بتاريخ 29 يناير 2020، متاح على الرابط https://www.elwatannews.com/news/details/4545710
8 نفس المصدر السابق.
9 نفس المصدر السابق.
10 نفس المصدر السابق.