أحمد حسن الزيات.. أحد رواد الصحافة المصرية في القرن العشرين (بروفايل)
في النصف الأول من القرن الرابع عشر، كانت مصر على موعد مع طفرة فكرية وأدبية شاملة، ساعدت في تغيير ملامح الشخصية المصرية لتبدو في أبهي صورها، وطال هذا التغيير كل فنون الفكر والثقافة، وساهم ذلك تدريجيًا في نهضة غير مسبوقة على كافة المستويات، حيث صاحب ذلك ظهور أئمة اللغة والبيان، وقادة الرأي والتنوير، جميعهم حملوا على عاتقهم مسئولية الكلمة في أن تخدم الأهداف العليا في البلاد آنذاك، من تحقيق الاستقلال وجلاء الاحتلال الانجليزي عن مصر.
وكان أحمد حسن الزيات أحد الأعلام المصرية الذين تصدروا بفكرهم وعلمهم مكانة خاصة بين أقرانهم من المبدعين، ليس لشيء سوى كونه كان معروفًا بأسلوبه الرشيق، ولغته السليمة، وحفاصته الفقهية التي مكنته من الإلمام بكافة المواضيع والقضايا في شتى مناحي الحياة، وساعده ذلك على إصدار مجلة “الرسالة” التي أثرت الحياة الثقافية والفكرية في مصر على مدار سنوات طويلة.
نشأته
ولد أحمد حسن الزيات، في 2 أبريل 1885، في قرية كفر دميرة القديم، التابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية. نشأ “الزيات” في أسرة متوسطة الحال، تعمل بالزراعة، إلا أن والده كان محبًا للأدب، ومتذوقًا جيدًا لكل فنونه، أما والدته فكانت تتمتع بلباقة في الحديث، وبراعة فائقة في الحكي وسرد القصص.
وعلى عادة أبناء القرية في هذا الزمان، حرص والديه على إلحاقه بكُتّاب القرية، وعمره لم يكن قد تجاوز الخامسة بعد، وهناك تعلم القراءة والكتابة، وأتمّ حفظ كتاب الله وتجويده، وبعدها أرسله والده إلى أحد العلماء في قرية مجاورة، فتلقى على يديه القراءات السبع وأتقنها في سنة واحدة.
الأزهر
نتيجة لتفوقه ونبوغه المبكر، ونجاحه في اجتياز محطاته الأولي في تحصيل العلم متفوقًا على معظم قرناءه في هذا العصر، أصر والده على أن يستكمل مشواره في الدراسة حتى النهاية ، فكان سفره إلى المحروسة (القاهرة) هو السبيل الوحيد لذلك، وهو في الثالثة عشر من عمره.
وهناك حيث الجامع الأزهرـ ملاذه في طلب العلم ـ استطاع أن يثقل مهاراته اللغوية، خاصة وأن الدراسة فيه لم تكن مقيدة بسن معين.
استطاع الزيات خلال فترة وجوده في الأزهر الشريف، والتي استمرت لنحو 10 سنوات، أن يبحر في فنون الأدب منصرفًا بذلك عن دراسة الشريعة والفقه، بخلاف أبناء جيله في هذه الفترة، ودفعه شغفه إلى الالتزام بحضور دروس الشيخ “سيد علي المرصفي”، ومنه عرف أبي تمام، ودرس كتاب “الكامل” للمبرّد، ولم يكتفي الزيات بذلك لكنه تابع مع أساتذة آخرين من أمثال الشيخ محمد محمود الشنقيطي والذي تعلم منه المعلقات.
وخلال سنوات دراسته في الأزهر؛ تعرف الزيات على عدد من زملاءه الذين تشاركوا معه في حب الأدب، من بينهم طه حسين، ومحمود حسن الزناتي ـ إذ كانوا جميعهم يترددون على دروس الشيخ المرصفي والذي بدوره كان يشجعهم على الاطلاع الدائم على كل فنون الأدب والشعر، ودفعهم ذلك إلى قضاء معظم أوقاتهم في دار الكتب المصرية.
الجامعة
في عام 1908، التحق الزيات بالجامعة الاهلية، خلال الفترة المسائية، وهناك تتلمذ على يد بعض المستشرقين ـ والتي كانت الجامعة قد انتدبتهم للدراسة فيها في هذا الوقت ـ مثل: نللينو، وجويدي، وليتمان.
وخلال هذه الفترة كان الزيات يعمل مدرسًا بالمدارس الأهلية، وفي الوقت نفسه كان مهتما بدراسة اللغة الفرنسية والتي ساعدته كثيرًا أثناء دراسته الجامعية حتى تمكن من الحصول على الليسانس في عام 1912.
عمله
بعد تخرجه من الجامعة، لم يتخلِ الزيات عن سلك التعليم، حيث ظل يعمل بمهنة التدريس، متنقلًا بين عدد من المدارس، من بينها المدرسة الإعدادية – الثانوية في عام 1914، وهناك التقى الزيات بعدد من زملاءه القدامى الذين أصبحوا فيما بعد أحد قادة الفكر والرأي في المجتمع المصري، من أمثال: العقاد، والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد.
وخلال فترة وجوده بالعمل في هذه المدرسة أتيحت له الفرصة بأن يساهم في العمل الوطني ومقاومة المحتل الغاصب، فكان يكتب المنشورات السرية التي كانت تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة أثناء ثورة 1919م، ووفقًا لما أشار إليه بعض المؤرخين في كتاباتهم عن تلك الحقبة الهامة من تاريخ مصر ـ تبين أن هذه المدرسة كانت من أوائل المدارس الأهلية التي ساعدت على إشعال الثورة وخروج الناس في مسيرات حاشدة طافت شوارع المحروسة.
ظل الزيات يتنقل في العمل بين مدرسة وأخرى حتى اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيسًا للقسم العربي بها في عام 1922، و أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وكانت الدراسة بها خلال فترة المساء، حيث تخرج منها عام 1925.
اختير الزيات أستاذًا في دار المعلمين العالية ببغداد في عام 1929، ومكث هناك 3 سنوات، استطاع خلالها التعرف على ثقافة المجتمع العراقي، والاختلاط بأدباءه وشعراءه.
مجلة الرسالة
بعد عودة الزيات من بغداد في عام 1933، اعتزل التدريس نهائيًا، وتفرغ للصحافة والتأليف، وخلال هذه الأثناء فكر في إنشاء مجلة خاصة بالأدب، خاصة بعد ما خلت الساحة من مجلة السياسة الاسبوعية والتي توقفت حينها عن الصدور.
وفي 15 يناير عام 1933، صدر العدد الأول من مجلة الرسالة، ولاقت مردود إيجابي بين الناس، بشكل جعلها تنفذ سريعًا فور طباعتها وتوزيعها.
كانت المجلة ذات ثقافة أدبية خاصة، تعتمد على وصل الشرق بالغرب، وربط القديم بالحديث، وبعث الروح الإسلامية، والدعوة إلى وحدة الأمة، وإحياء التراث، ومحاربة الخرافات، إلى جانب ذلك كانت العناية بالأسلوب المستخدم في الكتابة مع صياغة الجمل والألفاظ التعبيرية كلًا في موضعها، شيء أساسي ساعد على استمراريتها لفترة زمنية طويلة نسبيًا.
وفتحت المجلة صفحاتها لأعلام الفكر والثقافة والأدب من أمثال العقاد، وأحمد أمين، ومصطفي عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي، وساهمت أيضا في ظهور عدد من الكتاب والشعراء الذين سرعان ما نالوا حظهم في الشهرة سواء داخل او خارج مصر، من بين هؤلاء كان محمود محمد شاكر، ومحمد عبد الله عنان، وعلي الطنطاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي، وغيرهم.
وظلت المجلة تؤدي رسالتها حتى احتجبت عن الصدور في 15 فبرايرعام 1953.
مؤلفاته
عُرف عن الزيات أسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير، وعن ذلك عقد أحد الباحثين مقارنة بين الزيات وبين العقاد وطه حسين، حيث قال: “الزيات أقوى الثلاثة أسلوبًا، وأوضحهم بيانًا، وأوجزهم مقالة، وأنقاهم لفظًا، يُعْنى بالكلمة المهندسة، والجملة المزدوجة، وعند الكثرة الكاثرة هو أكتب كتابنا في عصرنا”.
واستطاع الزيات في كتاباته الأدبية أن يعالج العديد من الموضوعات السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين الدين والتضامن الاجتماعي، وساعد على مقاومة الاحتلال وحث الناس على التنديد به والخروج في مظاهرات ضده.
يقول الزيات في إحدى مقالاته: “إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل، وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار”.
قام الزيات بتأليف عددًا من الكتب، أقدمها: كتابه “تاريخ الأدب العربي”، عام 1916م، ثم أصدر “في أصول الأدب عام 1934، و”دفاع عن البلاعة” عام 1945.
كما حرص الزيات على جمع مقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلته، وأصدرها في كتاب أسماه” وحي الرسالة” في 4 مجلدات، والتي سجل فيه تجاربه ومشاهداته وآراءه في الأدب والسياسة والحياة بشكل عام.
لم يقتصر عطاء الزيات الأدبي فقط عند ذلك، بل امتد إلى أعمال الترجمة، فترجم من الفرنسية “آلام فرتر” لجوته عام 1920م، ورواية “روفائيل” للأديب الفرنسي لامرتين، وذلك أثناء إقامته بفرنسا عام 1925.
تكريمه
حظي الزيات بتقدير من بعض الهيئات العربية، حيث اختير عضوًا في المجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وكرّمته مصر بمنحة جائزتها التقديرية في الأدب عام 1962.
وفاته
رحل الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات عن عالمنا، صباح الأربعاء الموافق 12 مايو عام 1968، عن عمر ناهز 83 عامًا.