أحمد سعيد.. أسطورة “صوت العرب” من المحيط إلى الخليج (بروفايل)

علامة من العلامات المضيئة في تاريخ الإذاعة المصرية، ورائد لأجيال كاملة من الإعلاميين، عُرف بأسلوبه المميز في الأداء الإذاعي، فهو صاحب حنجرة فريدة بسحرها الأخاذ عبر موجات الأثير، عشق الميكروفون منذ لقائه الأول معه داخل المبني القديم لدار الإذاعة بشارع الشريفين، في مطلع خمسينيات القرن الماضي.

اعتبره الرئيس جمال عبد الناصر جيشًا لا يقل قوة عن الجيوش المُدججة بالسلاح، فقد ارتبط صوته بالثورة التي قامت في الثالث والعشرين من يوليو ضد “ملكية” فاروق، إذ عبر عنها وتلا شعاراتها على أسماع الجماهير، في داخل وخارج مصر.
كان صوته يُزلزل الأنظمة والعروش، ويُفجر الثورات بين الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وصفه البعض بـ “مذيع النكسة” فكانت المشهد الأخير في معاركه، إنه الإعلامي الكبير “أحمد سعيد”، مدير إذاعة صوت العرب سابقًا، والذي رحل عن دنيانا، في مثل هذا اليوم، في الرابع من يونيو عام 2018.

نشأته
وُلد أحمد سعيد بالقاهرة، في التاسع والعشرين من أغسطس عام 1925، ينتمي إلى أسرة ذات اتجاهات وطنية، كانت لها تأثيراتها الواضحة عليه في تكوين شخصيته؛ فوالده “سيد علي” كان صحفيًا ومناضلًا ضد الاحتلال البريطاني لسنوات طويلة، تتلمذ على يد الزعيم الوطني مصطفى كامل، والتحق بالعمل في جريدة “اللواء” في بادئ الأمر مترجمًا من اللغة الفرنسية إلى العربية، ثم كاتبًا لافتتاحيتها، ومشاركًا في عدد من مقالاتها، أما شقيقه الأكبر “محمد” فكان من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، واعتقل بسببها أكثر من مرة.

وفي هذا المناخ الذي نشأ فيه “سعيد”، تبلورت معتقداته وتشكلت آراءه حول قضايا هذا العصر، ما جعل منه إعلاميًا من طراز خاص، وبالرغم أن والده قد توفي وهو بعمر السبع سنوات، إلا أن قراءته لتاريخ مصر المعاصر، واهتماماته بشئون الأوطان العربية جعلته مهمومًا بآلام شعوبها، جاهدًا خلال مشواره الإذاعي الحافل بالعطاء على أن يكون صوتًا معبرًا عنهم وعن قضاياهم.

دراسته وعمله
التحق أحمد سعيد بكلية الحقوق، جامعة القاهرة، وتخرج منها عام 1949، واتجه بعدها إلى العمل في الصحافة على خطى والده، حيث تنقل بين العديد من المجلات، مثل: روز اليوسف، وآخر ساعة، ودار الهلال، لكنه لم يستمر فيها سوى فترة قصيرة، قرر بعدها الولوج إلى عالم الإذاعة، ليجد فيها شغفه، الذي طالما بحث عنه.

وخلال حواره التليفزيوني في برنامج “شهادة للتاريخ”، على قناة “النيل” للأخبار، تحدث “سعيد” عن بداية التحاقه بالعمل في الإذاعة، قائلًا: “دخول الإذاعة كان صدفة بحتة، لم يكن في ذهني، رغم إن أيامها كان المذيع الصغير البسيط نجم، إلا إن دي ماكنتش من أمنياتي، كنت بتمني أكون زي أبويا، وكنت معجب جدًا بتوفيق الحكيم وعاوز أبقي زيه.. فكانت اهتماماتي منحصرة في هذا”.

أمام الميكروفون
التحق أحمد سعيد بالعمل في الإذاعة منذ عهد الملك فاروق، وتحديدًا عام 1951، لكن ميلاده الحقيقي كإذاعي بدأ مع أول برنامج سياسي له في إذاعة القاهرة، وحمل اسم “تسقط معاهدة 1936″، ليعين بعدها مذيعًا رئيسيًا فيها، ثم مديرًا لإذاعة “صوت العرب”، منذ تأسيسها، في 4 يوليو عام 1953، واستمر فيها لمدة 14 عامًا، قبل أن يتقدم باستقالته، في سبتمبر عام 1967، عقب “نكسة” يونيو الشهيرة.

وعن بدايات صوت العرب، وإسهامات أحمد سعيد فيها، يحكي الإذاعي القدير “السيد الغضبان” -الذي كان قد انضم إليها بعد بضع شهور من إنشاءهاـ في مقالة، الآتي: “بدأ صوت العرب البث لمدة ساعتين يوميًا، وكان عدد العاملين به ثلاثة، صالح جودت “رئيسًا”، وأحمد سعيد “مذيعًا”، ونادية توفيق “مذيعة”.

تصور الشاعر صالح جودت، الذي تولى مسئولية الإدارة، أن يقوم صوت العرب بنفس المهام التى كانت تؤديها المجلات الثقافية، وفي مقدمتها مجلة “الرسالة” فركز على تقديم المواد الثقافية بشكل عام، والشعر بشكل خاص، وكانت النتيجة مخيبة لآمال وطموحات القيادة السياسية.

تم استبعاد الشاعر صالح جودت، وتولى أحمد سعيد الإدارة، وتقلص عدد العاملين، ليصبح اثنين فقط هما أحمد سعيد “مديرًا” ونادية توفيق المسئولة عن المادة الغنائية، ومهمتها تجميع أعمال غنائية من مختلف البلاد العربية، لتقدمها فى برنامج “ما يطلبه العرب”.

الدوي الهائل الذي أحدثه صوت العرب في الوطن العربى كله، دفع صحفًا أوروبية لإرسال عدد من محرريها، لإعداد موضوع عن “صوت العرب”، وسر نجاحه والعاملين به.

محرر إحدى الصحف الفرنسية حضر إلى مقر صوت العرب، وهذا المقر عبارة عن غرفة لا تتجاوز 3*3 متر، وبها ثلاثة مكاتب متواضعة يجلس في صدر الغرفة، المدير أحمد سعيد وأمامه مكتبان شديدا التواضع، يجلس عليهما نادية توفيق والسيد الغضبان.
بدأ المحرر يلقي بأسئلته وعندما انتهى سأل أحمد سعيد: “وأين باقى العاملين؟ في صوت العرب”، أشار أحمد سعيد إلى نادية والغضبان، قائلًا: هؤلاء هم جميع العاملين، ابتسم المحرر وانصرف ونشر تحقيقه، مؤكدًا أن أحمد سعيد رفض أن يطلعه على جيش العاملين في صوت العرب، وأنهم أي هؤلاء العاملين، يعملون في أماكن سرية للغاية، رفض أحمد سعيد الكشف عنها”.
وتؤكد شهادة “الغضبان” أن “سعيد” نجح في إدارة صوت العرب، بمعاونة عدد من العاملين معه وقتها، رغم محدودية الموارد والإمكانيات المتاحة، حيث تمكن من تعبئة الجماهير العربية وطنيًا وقوميًا، وحشدها نحو مطالب استقلالها وحريتها في تلك الفترة، حيث أشار إلى ذلك في مذكراته، “شهدت السنوات العشر بين عامي 1957 و 1967 من القرن الميلادى العشرين، سلسلةً متكاثرةً متصاعدةً من المواجهات الإعلامية، زاد على انتشار تأثيرها تطور تقنية البث الهوائي، وقدراته المتزايدة على الوصول إلى تجمعاتٍ بشريةٍ على بعد آلاف الأميال.. بالإضافة إلى ثورة التلقي السمعي، التى أحدثها اختراع الراديو التزانزستور وشيوع تشغيله بالبطاريات.. ورغم أن صوت العرب كان له القدح المعلى في التأثير النافذ شرقًا وغربًا، تضاءلت معه كثيرًا متابعة الجماهير للإذاعات المحلية أو الأجنبية مثل “الشرق الأدنى” من قبرص، والـ “BBC” من لندن، وصوت أمريكا من واشنطن.. إلا أن نوعًا مستجدًا من الإذاعات تم إنشائها على عجلٍ في ظل تفاقم الصراعات، اندرج أغلبها تحت المسمى الاصطلاحى العبثي –الإذاعات السرية– رغم انعدام عنصر السرية فيها، بحكم سهولة معرفة موقع بثها فنيًا، وإمكانية تحديد هويتها وأصحابها وكل أهدافها من مضامين خطابها الإعلامي”.

ويُعتبر “أكاذيب تكشف حقائق” بالمشاركة مع زميله محمد عروق، من أشهر برامجه الإذاعية، التى وجدت صدًا كبيرًا بين المستمعين في الداخل والخارج.

نضاله
شارك أحمد سعيد في العمل الفدائي بقناة السويس، عام 1952، حيث استطاع أن ينقل بثًا مباشرًا، من منطقة القناة أثناء العمليات الفدائية ضد الإنجليز.

كما كان شاهدًا على الثورة الجزائرية، فقد حرص على نقل بيانها بصوته، عام 1954، على موجات إذاعة صوت العرب، ومهد له ذلك فيما بعد تكوين صداقة عميقة مع قائدها أحمد بن بيلا.

واُختير عام 1965، من قبل مجلس الأمة المصري (مجلس النواب حاليًا) ليكون عضوًا في الوفد الذي يمثله في احتفالات بريطانيا، بمناسبة مرور 700 عام على بدء الحياة الديمقراطية هناك.

اتهامات
تعرض أحمد سعيد خلال مشوار حياته إلى هجوم وافتراءات، جعلت نجمه ساطعًا، رغم ابتعاده عن العمل الإعلامي لسنوات، كانت البداية في مطلع الخمسينات؛ إذ اتهم بأنه أحد الذين أثاروا الجماهير خلال حريق القاهرة، في 26  يناير 1952، وأدى ذلك إلى إبعاده عن العمل مع مجموعة من الإذاعيين، حتى مايو 1952.

وفي منتصف الستينات، طلبت الحكومة البريطانية من الرئيس جمال عبد الناصر، رفع اسم أحمد سعيد من قائمة الوفد المصري المسافر إلى لندن، بعد اعتراض مجلس العموم البريطاني عليه، بتهمة تحريضه على قتل الجنود البريطانيين، في عدن، لكن الرئيس عبدالناصر رفض ذلك، وكادت أن تحدث أزمة بين البلدين، حتى تدخل رئيس الوزراء البريطاني، هارولد ويلسون، وألقى خطابًا في مجلس العموم لاحتواء الوضع.

كما يُتهم أحمد سعيد بأنه أعلن انتصار مصر في حرب 1967، بعد أن نقل عبر إذاعة صوت العرب بيانات عسكرية مشكوك في صحتها، تؤكد أن مصر أسقطت عشرات الطائرات الإسرائيلية، ولم يكن يحدث ذلك من فراغ لولا البيانات الصادرة من القيادة السياسية وقتها، في الوقت الذي شهدت فيه جميع الجبهات هزيمة للجيش المصري من قبل الجيش الإسرائيلي، وقصف للطائرات المصرية وهي على الأرض وقبل أن تقلع من المدارج.

وخلال حواره الصحفي مع موقع “اليوم”، رد أحمد سعيد على هذا الاتهام، قائلًا: “لا يوجد إنسان في الإعلام يستطيع أن يتجاوز قيادته السياسية أو يتجاوز من يملك جهاز الإعلام، وإلا فسيتم إنهاء خدمته كمبدأ فلا يستطيع صحفي أو مذيع في التليفزيون أو الإذاعة، يقول شيئًا يخالف السياسة الموضوعة من قبل مالك الإذاعة أو القناة التليفزيونية أو الصحيفة، فوسائل الإعلام بمختلف مسمياتها لها سياسة مرسومة، والذي يفرض هذه السياسة هو مالكها، سواء من وجهة نظر سياسية أو تجارية أو عقائدية، وبالتالي فهذه الوسائل ملتزمة بخطوط معينة وإذا تجاوز أحد من العاملين بها هذه الخطوط فسوف يتم استبعاده فورًا”.

مؤلفاته
ألّف أحمد سعيد كتابًا بعنوان “القومية العربية”، في عام 1959، وصف فيه جمال عبد الناصر بـ “باعث القومية العربية”، مشبّهًا إيّاه بجمال الدين الأفغاني الذي يوصف بأنه باعث حركة الإحياء الإسلامي، وكتب مسرحية بعنوان “الشبعانين”، في عام 1966.

العودة
بعد مضي ما يقرب من 35 عامًا، غاب فيها الإذاعي أحمد سعيد عن المشهد الإعلامي، عاد اسمه يتردد من جديد، ففي أعقاب سقوط بغداد في التاسع من أبريل، قارن الجمهور العربي بين نكسة 2003 ونكسة 1967، وبين الأداء الإعلامي لوزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، وبين بيانات أحمد سعيد، إلى حد الربط الكامل بين الرجلين، وإطلاق اسم واحد عليهما، على سبيل السخرية هو “أحمد سعيد الصحاف”.

وفي حديثه مع الشرق الأوسط، يشير سعيد إلى أن هذا الربط غير مدعى للتندر أو السخرية، ولا يحمل شبهة المؤامرة المقصودة، موضحًا أن الربط بينه وبين “الصحاف” يرمي إلى تشويه كل ما يمت إلى العروبة والقومية بصلة، فهناك الآن محاولات ضارية تقتل “العروبة” في النفوس، من جانب هؤلاء الذين أزعجهم أن تخرج المظاهرات بطول العالم العربي وعرضه، تحمل صورة جمال عبد الناصر. وما دام النظام العراقي المخلوع كان يقوم على أساس قومي”، وتسائل “سعيد”، لماذا لا يتم الربط بين هزيمته وهزيمة 67، وبين بيانات “الصحاف” وبيانات أحمد سعيد ليوحي بأن هذا الفكر العروبي هو الذي يسبب للأمة الهزائم والنكسات.

وفاته
فُجع الوسط الاعلامي، قبل عامين بخبر وفاة الإذاعي الكبير أحمد سعيد عن عمر ناهز الـ 93 عامًا، بعد حياة حافلة بالعطاء.
ومن المفارقات العجيبة أن رحيله جاء عشية الذكرى الواحدة والخمسين للحرب التي أذاع بياناتها، وألصقت به وصف “مذيع النكسة”.

زر الذهاب إلى الأعلى