أمينة السعيد.. الثائرة الهادئة في بلاط صاحبة الجلالة (بروفايل)

صحفية وكاتبة مصرية، صاحبة قلم شجاع، وصفها البعض بـ”الثائرة”، خاضت أكثر من معركة في سبيل تحرير المرأة العربية من القيود التى أعاقت حريتها وانطلاقتها.

حياتها
ولدت أمينة السعيد، في 20 مايو عام 1910، ترجع جذورها إلى محافظة أسيوط، نشأت وسط مجتمع منغلق على نفسه، لا يؤمن بحق المرأة في التعليم والعمل.

ربما لعب القدر دوره في نشأة “أمينة”، فكان والدها الدكتور أحمد السعيد، من أوائل المشجعين لها في استكمال حياتها بالطريقة التى تختارها، فلم يرغمها على أمر معين، لكنه على النقيض ساعدها على أن تحدد لنفسها نمط مختلف عن غيرها من بنات هذا العصر، إذ كان متفتحا عن بقية أبناء جيله من المصريين، وساعدها هذا المناخ العائلي المتوازن والمستقر أيضًا على نضج شخصيتها سريعًا.

وعن هذه المرحلة من حياتها، تحدثت أمينة السعيد خلال حوارها التليفزيوني في برنامج”كاتب وقصة”، تقديم المذيعة سميرة الكيلاني، وقالت:” المناخ التربوى والعائلي اللي أنا نشأت فيه ربما يكون له الفضل الكبير في إننا كستات أنا وأخواتي خضنا الحياة ونجحنا فيها، أبونا كان راجل تقدمي جدًا في أفكاره، وكان يسبق عصره ويؤمن بالمرأة، ويتمني يشوفنا زي الرجالة، ولذلك فتح لنا المجال ومنحنا من القوة والعزيمة والتشجيع العظيم عشان خاطر نحتل المكانة اللي هو يتمناها لينا، يمكن ربما دا لأن أخويا كان الولد الوحيد له، كان طفل صغير لما أبويا مات، وجه بعد سلسلة من البنات، احنا لو كنا عيشنا كنا هنبقي 8 بنات، فأبويا كان حاطط كل آماله فينا ربما يكون هذا لأنه عاوز يعوض إن الولد جه في الآخر، وإنه يقلبنا رجالة إذا استطاع، دي حاجة، ثم إن احنا طلعنا في جو مشحون بالوطنية، أبويا من بداية حياته وهو من رجال الحزب الوطني، يعني مواطن متحمس وثائر بمعني الكلمة، فإحنا طلعنا في جو وطني واجتماعي تقدمي هو دا اللي يمكن انعكس علينا جدًا”.

وكان لذلك أكبر الأثر في اتخاذها قرار الانضمام إلى الاتحاد النسائي، وهي في الرابعة عشر من عمرها، فمن خلاله تعرفت على السيدة هدى شعراوي، مؤسسة الحركة النسائية في مصر، والتي تبنتها وأحاطتها برعايتها حتى دخولها الجامعة.

الدراسة
سلكت أمينة السعيد، طريق العلم من بدايته، فالتحقت بمدرسة الحلمية الجديدة الابتدائية، وبعدها شبرا الثانوية، وعند وصولها للمرحلة الجامعية، كانت أمنيتها أن تلتحق بكلية التجارة، ليس حبًا في أمور المحاسبة والإدارة، بل لرغبتها في أن تفتح بابًا جديدًا للفتاة المصرية وهو الطريق إلى الجامعة ـ والذي كان غير مألوفًا لفتيات هذا العصرـ ولكن تم رفض أوراقها لمجرد أنها “فتاة”، فأصابها ذلك بالحيرة والذهول، إلى أن نصحها والدها بدخول كلية الآداب، وهو ما حدث بعد ذلك، حيث التحقت”أمينة” بكلية الآداب، جامعة فؤاد الأول”جامعة القاهرة”، عام 1931، ضمن الدفعة الثالثة التي شملت عدد من الفتيات، دخلن الجامعة لأول مرة في تاريخ التعليم المصري، وعن ذلك قالت أمينة السعيد، في لقاءها التليفزيوني:

“أنا لما دخلت كنت تالت دفعة، وكنا كلنا على بعضنا نطلع 20 واحدة في الجامعة، موزعات على كليات الطب، والحقوق، والآداب، ماكنش لسه فيه حد في الكليات الأخرى غير كدا، إنما احنا طبعا كنا داخلين على جو غريب لم يعتاد على إنه يشوف البنت موجودة أو تشارك في المظاهرات أو في الأنشطة المختلفة، زملاءنا كلهم كانوا ولاد كويسين جدًا، لكن معظمهم جاي من الريف حيث لسه مركز المرأة يعني في إطار المحافظة الشديد، فطبعًا كنا بنقابل من فريق منهم بالترحيب، والفريق الآخر بالاستنكار، ومن فريق تالت بالرقابة الشديدة كأننا تحت الميكروسكوب، بحيث إن الواحدة إذا عطست، الجامعة كلها تعرف إنها عطست، كنا نحاسب على الصغيرة قبل الكبيرة، لكن المدهش إن الروح العدائية والرقابة المتزمتة الشديدة دي سنة بعد الاخرى كانت بتخف، بفعل الزمالة والصداقة ووجودنا مع اخواتنا الطلبة كان بيروض النفوس كلها نفوسنا ونفوسهم، لان احنا كمان كنا بننظر لهم نظرة برضه فيها سوء ظن وتحفظ ومش عارف إيه، فكل دا مع الزمن سنة ورا سنة كان بيخف، بحيث لما وصلنا للسنة النهائية في الجامعة، كنا إخوة وزملاء بمعني الكلمة”.

وحصلت “أمينة” على ليسانس الآداب، من قسم اللغة الإنجليزية عام 1935.

التمرد
عُرف عن أمينة السعيد، تمردها وجرأتها الشديدة التى لم يعتدها المجتمع المصري خلال هذه الفترة، حيث وضعت لنفسها نهجًا مختلفًا عن باقي زميلاتها، إذ كانت حريصة على ممارسة رياضة التنس فى ملاعب الجامعة، وأثار هذ الأمر حفيظة بعض الطلاب نحوها، وعن هذه الواقعة سرد الكاتب الكبير مصطفى أمين، تفاصيلها، فى كتابه “شخصيات لا تُنسى”، فقال: “كنت طالبًا فى كلية الحقوق في القاهرة، وكنا نستمع بإصغاء تام إلى الدكتور بهجت بدوي، وهو يشرح لنا القانون بأسلوبه الشائق الجميل، وفجأة سمعنا صوتًا يدوي كالرعد خارج المدرج وهو يصرخ: إلحقوا! أيها الطلبة! يا أبناء مصر البررة! يا حراس الفضيلة! إن جريمة فعل فاضح علني تُرتكب الآن فى ملعب التنس في حرم الجامعة! وباعتبارنا أبناء مصر البررة وحُراس الفضيلة قفزنا من مقاعد الدراسة وأسرعنا إلى الباب تاركين أستاذنا يكمل محاضرته للمقاعد الخالية! وأسرعنا نعدو إلى ملعب التنس لننقذ الفضيلة! ووجدنا الآنسة أمينة السعيد، تلعب التنس مع مدرب التنس بالجامعة، وقد ارتدت فستانًا يغطى جسمها وذراعيها وساقيها إلى ما تحت الركبة! فستانًا طويلًا، لا شورت، ولا ميني جوب! ولكن زميلنا حامي الفضيلة رأى فى لعب فتاة للتنس عملًا فاضحًا في الطريق العام، وجريمة مخلة بالآداب تستوجب أن يقوم لها طلبة جامعة القاهرة ولا يقعدوا!. وسمع العميد الدكتور منصور فهمى بحكاية لعب أمينة السعيد التنس فثار وغضب وأرسل الأستاذ عباس سكرتير الكلية إلى أمينة يقول لها: إن العميد يقول “بلاش لعب تنس”! وسألته الطالبة: لماذا؟. قال السكرتير: لا يوجد بنات يلعبن التنس!.

وذهبت أمينة إلى بيتها غاضبة حانقة، وسألها أبوها: ماذا جرى؟. قالت: العميد يهددني! وروت له ما حدث، فقال الأب: أذكر أنني دفعت لك رسوم اتحاد الجامعة ورسوم الألعاب الرياضية، وما دامت الكلية قبلت هذه الرسوم فمن حقك أن تزاولي كل رياضة، اذهبي والعبي ولا يهمك، وسأقف إلى جانبك ما دمتِ لا ترتكبين خطأ، وإذا حدث ورفدوك من الكلية ظلمًا فسوف أرسلك إلى إنجلترا لإتمام دراستك، واستمرت أمينة تلعب التنس فى ملاعب الجامعة متحدية عميد كلية الآداب.. ووقف الطلبة بجوارها يؤيدونها ضد العميد”.

ليس هذا فحسب، لكنها تعتبر أول فتاة مصرية تمارس رياضة السلاح في نادي السلاح، إلى جانب ذلك كانت “أمينة” تهوى الفن، ودفعتها تلك الرغبة إلى العمل في مجال التمثيل، أثناء دراستها الجامعية، مطلع ثلاثينات القرن الماضي، حيث مثلت مسرحية “المرأة الجديدة” لتوفيق الحكيم.

وفي عام 1939، طالبت أمينة السعيد بإلغاء المحاكم الشرعية، التى كانت حاضرة في هذا الوقت، وطالبت أيضا بإجراء تعديلات على قانون الأحوال الشخصية، ومنح المرأة فرصة المشاركة في الحياة السياسية.

الصحافة
كان إلتحاقها بالعمل في بلاط صاحبة الجلالة”رغبة”، بعد أن نجح في إقناعها زميلها الشاب، مصطفى أمين، الطالب بكلية الحقوق وقتها، والذي أسس فيما بعد مع توأمه علي أمين، مؤسسة أخبار اليوم، أنها تصلح للعمل في الصحافة نظرًا لما كانت تتصف به من سمات شخصية، جعلها تفكر في خوض التجربة، فالتحقت أثناء دراستها الجامعية بالتدريب والعمل في عدد من الصحف والمجلات، كان من بينها: الأمل، وكوكب الشرق، وآخر ساعة، والمصور، وهي بذلك تعد أول فتاة مصرية تعمل في مجال الصحافة.

وعن فترة اشتغالها بالصحافة، قالت أمينة السعيد: “أنا ابتديت الصحافة من قبل ما اتخرج من الجامعة، أنا كنت بشتغل في الصحافة من وأنا لسه طالبة في الجامعة، طبعًا كنت بشتغل في حاجات بسيطة على قدي، ودا كان شيء جديد أوى، لأن الصحافة في الوقت دا مكنش فيها ستات، ومكنش الرأي العام يتقبل وجود الست فيها أوى بالعكس كان فيه استنكار شديد لدرجة إني اضطريت اشتغل في المدة الأولي بالصحافة من ورا أهلي”.

كانت انطلاقتها الحقيقية في الصحافة، التى أثبتت فيها جدارتها في تحمل عبء ومسئولية التعامل مع قضايا المجتمع، في هذا العصر، عندما شرع أميل زيدان، صاحب مؤسسة دار الهلال، في تأسيس أول مجلة نسائية مطبوعة، باسم “حواء”، في عام 1954، وكانت ذائعة الصيت، حتى أن معدل توزيعها وصل إلى 175 ألف نسخة، حيث تولت أمينة السعيد منصب رئيس التحرير فيها، في واقعة لم تحدث من قبل، استطاعت من خلالها أن تعالج مشكلات المرأة في كتاباتها، وتناقش القضايا المسكوت عنها في المجتمع، مثل: قضية ختان الإناث، والعنف ضد المرأة، بالإضافة إلى حرصها على تقديم نصائح للجمال ووصفات الطهي، والتي تهم كل بيت.

وكنتيجة لدأبها المستمر وجهودها المبذولة في الصحافة، عُينت أمينة السعيد رئيسة لتحرير مجلة المصور، خلفًا للكاتب فكري أباظة، وفيه اشتهرت بكتابتها لباب “اسألوني”، حيث عرفها القراء وواظبوا على متابعة ما تكتبه فيه على الدوام، فكانت تستغل مهاراتها اللغوية في صياغة العبارات والجمل بأسلوب رشيق وسلس، لتصبح بذلك أول كاتبة بعد ملك حفني ناصف، والمعروفة باسم”باحثة البادية”، تهتم بالشئون الاجتماعية، وتتعامل مع قضايا المرأة والطفل بكل التفاني والإخلاص.

وخلال حوار نادر مع أمينة السعيد، تحدثت فيه عن “اسألوني”، قائلة: “كان لكل عصر صراعه ونوعية مشاكله.. ففي البداية كانت النوعية صراع المرأة في سبيل حرية التعليم وصراعها مع أهلها وزوجها، ثم صراعها في سبيل العمل وحق الحياة.. جاء بعد ذلك ما ترتب على العمل من صراع المرأة مع الرجل، على من الذي ينفق على ميزانية البيت.. هذه كانت معظم مشاكل باب “اسألوني”، ومشاكل المرأة الآن أنها تمر بمرحلة التمزق النفسي والضغوط الاجتماعية التي جعلتها مشتتة الذهن والوجدان بعد التعليم والعمل والحرية”.

وبحكم عملها الصحفي، تعتبر أمينة السعيد هي أول صحفية مصرية تزور الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.

الأدب
لم يحول عملها في الصحافة بينها وبين ممارسة هوايتها الأولى في فن الترجمة، فأصدرت أول كتاب لها بعنوان”أمطار”، تبعه كتاب آخر هو “أوراق الخريف”، تضمن الكتابين مجموعة من القصص المترجمة لأمهات الأعمال القصصية العالمية ولم يقتصر إنتاج أمينة السعيد الأدبي عند ترجمة الأعمال الأدبية الهامة، ولكنها اتجهت الى كتابة الروايات، فصدر لها “الجامحة، وآخر الطريق، ووجوه في الظلام، والهدف الكبير.

ومن أهم الكتب التى اهتمت بنشرها، كان كتاب”مشاهدات في الهند”، والذي رصدت من خلاله مشكلة الخلاف بين المسلمين والهندوس في الهند، قبل تقسيم شبه القارة الهندية بين باكستان والهند.

المناصب
شغلت أمينة السعيد العديد من المناصب الرفيعة، حيث انتُخبت أكثر من مرة عضوًا بمجلس نقابة الصحفيين ووكيلًا للنقابة عام 1959، وعضوًا بالمجلس الأعلى للصحافة، وبعد الإحالة إلى التقاعد فى أول يوليو عام 1981، أصبحت مستشارة لـ”دار الهلال” وعضوًا بالمجالس القومية المتخصصة، ثم عضوًا بمجلس الشورى، لمدة 8 سنوات، ثم رئيسًا لجمعية “الكاتبات المصريات” منذ تأسيسها سنة 1984.

الهجوم
تعرضت أمينة السعيد على مدار حياتها إلى هجوم من جانب كثيرين تشككوا في أراءها وكتاباتها، حيث لاقت هجومًا على منابر المساجد، فنعتوها بالكفر والخروج على الدين، وكان من أبرز هؤلاء الشيخ عبد الحميد كشك، الذي قاد الهجوم عليها، ووصل الأمر إلى الطعن في عرضها، بحجة أنها تطالب بأن تتزوج المرأة 4 رجال، وما كان ذلك في الحقيقة سوى شائعة أطلقت عليها، وهو الأمر الذي استنكرته أمينة السعيد في ديسمبر عام 1976، خلال اللقاء الذي جمعها مع الرئيس السادات ضمن مجموعة من الصحفيين، في الإسكندرية، قائلة:

“أي خلق وأي شرع وأي دين وأي دولة تسمح باستخدام منابر المساجد للطعن في عرض امرأة مثلي لها 5 أحفاد”، ثم ألقت نكتة ساخرة، تداولها الكثيرين: “في بيت الله وعلى منبر الصلاة يقال للمصلين إن أمينة السعيد تطالب بأن تتزوج المرأة 4 رجال، كأنما لا يكفي عذابا للمرأة أن تتحمل رجلًا واحدًا”.

التكريم
حصدت أمينة السعيد على تكريمات من الدولة، ففي عام 1963، حصلت على وسام الإستحقاق، وفي عام 1970 كان وسام الجمهوريه من نصيبها، و بعد مرور 5 سنوات، فازت باثنين من الأوسمة هما: وسام الكوكب الذهبي، ووسام الفنون والآداب.

وفاتها
توفيت أمينة السعيد في 13 أغسطس عام 1995، عن عمر ناهز الـ 85 عامًا؛ وقبل رحيلها عن عالمنا بأربعة أيام، كتبت: “لقد أفنيت عمري بأكمله من أجل المرأة المصرية أما الآن فقد هدني المرض وتنازلت الكثير من النساء عن حقوقهن، فالمرأة المصرية ضعيفة ولا خلاص لها إلا بالنضال والأمل”.

زر الذهاب إلى الأعلى