الذكري الـ 76 على إنشاء مؤسسة دار أخبار اليوم الصحفية (بروفايل)
“إن قصة حياتهما هي قصة الصحافة في الأربعين سنة الماضية، ولدت كما ولدا، وكبرت كما كبرا، وشقت طريقها معهما، دفعاها ودفعتهما، ورفعاها ورفعتهما”. ما سبق كان جزءً من مقدمة كتاب” أسرار الصحافة ” لمؤلفه محمد السيد شوشة، والصادر عام 1959.
حرص “شوشه” في كتابه على أن يؤرخ للصحافة بالأشخاص الذين لعبوا دورًا بارزًا فيها، أعطوها حياتهم ودمهم وأعصابهم وروحهم، عاشوا فيها وعاشت فيهم، أيامهم صحف، وأسابيعهم مجلات، وساعاتهم أحداث، وسنوات حياتهم مجموعات من الصحف والمجلات، وهذا الوصف هو ما ينطبق على الأخوين “علي ومصطفى أمين”، واللذان أحدثا دويًا ملأ عالم الصحافة ضجيجًا.
ولعل تطلعهما المبكر للعمل في الصحافة هو ما أثقلهما بالخبرات التي اكتسبوها من خلال تجارب عديدة شاركوا فيها في بداية حياتهما الصحفية، والتي ساعدتهما فيما بعد عندما شرعا في تحقيق حلمهما، الذي كانا يطمحان إليه وهو إنشاء جريدة يومية يغطي توزيعها كل دول العالم، وهو ما حققاه تدريجيًا؛ ففي 11 نوفمبر عام 1944، صدر العدد الأول من صحيفة “أخبار اليوم” الأسبوعية، تلاها “الأخبار” اليومية في عام 1953، والتي كانت حلمًا بعيد المنال لكنه تحقق بعد سنوات من الكفاح والعمل، وهو ما سنحاول استعراضه خلال السطور القادمة في ذكري تأسيس دارأخبار اليوم، ثاني أقدم مؤسسة صحفية مصرية مملوكة للدولة بعد مؤسسة الأهرام، والتي وصفها البعض خلال فترة من الفترات بأنها أهم دار صحفية في الشرق الاوسط.
الحلم
إصدار جريدة يومية كبرى كان حلمًا يداعب خيال التوأمين “علي ومصطفى أمين” منذ عهد طويل، حسبما ذكر “شوشة” في كتابه، كان علي أمين وهو في سن الـ 17 يكتب التقارير الطويلة العريضة عن كيفية إنشاء جريدة يومية كبرى في مصر، تختلف عن الجرائد اليومية المصرية، وتتجه نفس اتجاه الجرائد العالمية، يكون لها مراسلين في كل عاصمة، تُوفد الصحفيين إلى أنحاء العالم، وترسل الطائرات إلى أماكن الأحداث، تقوم بتحقيقات صحفية هائلة، تلعب دورًا في حياة كل أسرة، تجعل سياستها خدمة مصر كلها بدلًا من أن تكون في خدمة حزب أو حكومة.
وكان مصطفى أمين يتلقى في القاهرة هذه التقارير ويعكف على دراستها وترجمتها من لغة الخيال إلى لغة الواقع ثم يجد نفسه مندفعًا إلى تأييد فكرة شقيقه التوأم، مؤمنًا بأنه من الممكن تنفيذ هذه الفكرة الضخمة.
وفي أول أغسطس عام 1932 ، كتب علي أمين خطابًا من لندن إلى أخيه وعمره لم يتجاوز الثامنة عشر بعد، يتعجل فيه بإصدار الجريدة اليومية ويدعو إليها، يختار أبوابها، يحدد رقم توزيعها، يحدد سياستها ويضع برنامجها، ومما جاء فيه: “30 ألف جنيه من يانصيب المستشفيات الأيرلندية (الدربي) يارب، أُصدر بعدها جريدة تضرب كل جرائدنا اليومية، سيكون للجريدة برنامج اقتصادي من شأنه أن يصبح لنا على الأقل 100 ألف قارئ، وبتنفيذ برنامجي سأستفيد كمصري، سأستفيد كدافع للضرائب، سأستفيد كصاحب جريدة، فبازدياد عدد المتعلمين يزداد عدد قراء جريدتي، جريدة نصدرها نحن الاثنان، أو مع روز اليوسف والتابعي، يجب أن تنجح، لست مغرورًا يا مصطفى، أنا أعتقد أن عندنا أفكارًا جديدة تختلف عن أفكار جبرائيل تقلا صاحب الأهرام، وخليل ثابت رئيس تحرير المقطم، وتوفيق دياب صاحب جريدة الجهاد، وأنت عندك الاسم والأسلوب والروح، أصدر الجريدة يوميًا في 16 صفحة، بالصور الفوتوغرافية والكاريكاتورية والمسابقات، أشتري مذكرات سعد باشا من بقية الورثة وأنشر فقرات منها أسبوعيًا، وطبعا أُصدر الجريدة في الصباح، أجعلها أسبق الصحف اليومية في الوصول إلى جميع بلدان القطر، طبعا سأخسر في أول الأمر، سيرمونني بالجنون والإسراف، ولكني سأكتسب قراء الجرائد، سأكتسب قراء لم يعتادوا قراءة الجرائد اليومية، أتذكر كيف بدأنا نشعر أنه سيكون لنا في يوم من الأيام شأن في الصحافة، أيام كنا نصدر مجلات بالقلم الرصاص ثم بالبالوظة ثم بالمطبعة، أتذكر مجلتي الحقوق والأسد، سأقضي وقتي في دراسة الهندسة الميكانيكية لآلات الطباعة، سأشتري ورقة يانصيب أيرلندي(الدربي)، من يعرف، ربما وجدت (الكرشة) خالية من العظم هذه المرة!”.
وهكذا كان علي أمين ـ المهندس ـ يخطط ويرسم لمشروعه المستقبلي الضخم، في إنشاء جريدة يومية تنافس جرائد هذا العصر، بقليل من المال وكثير من الآمال والأحلام، التي غدت يومًا ما حقيقة ساطعة، لم تفلح محاولات البعض في محوها أو التقليل منها بأي حال.
التمني
أصبح “مصطفى أمين” نائبًا لرئيس تحرير مجلة ( آخر ساعة)، وعمره 20 عامًا، وكان محمد التابعي يشجعه ويثق به ويعتمد عليه، وبالرغم من أن المجلة كانت تشق طريقها في السوق الصحفية ـ كما تشق السكين قطعة الزبد ـ فأصبحت تنافس الصحف اليومية وتسبق بالأخبار، فكانت المجلة بعد صدورها بشهور حديث الأوساط الصحفية والدوائر السياسية لكن “مصطفى” لم يكن ليكتفي بهذا النجاح؛ إذ كانا هو وأخيه يلحان على “التابعي” لإصدار جريدة يومية، لكن التابعي كان له رأيًا آخر أن مصطفى أمين لن ينجح في الصحافة اليومية كما الأسبوعية، وهكذا تعثر تحقيق الحلم أمام التوأمان.
لكن سرعان ما تبدل الوضع خاصة مع النجاح المستمر للمجلة وأمام إصرار الأخوين على حلمهما واجتهاد “مصطفى” في العمل لدى عدد من الجرائد اليومية، من بينها جريدة الجهاد، لصاحبها محمد توفيق دياب ـ خلسة ودون علم التابعي ـ كي يثبت له مدى جدارته كـ”صحفي يومي”، فاتفق مع “دياب” على أن يكتب في الجهاد عمودين كل يوم بعنوان”مشاغبات” ويوقعها بامضاء “مشاغب”، واشترط في مقابل ذلك أن لا يعرف أحد اسمه. ومع مرور الوقت، بدأ التابعي يقتنع شيئا فشيئا بفكرة إنشاء جريدة يومية، لكن المال كان هو العقبة الوحيدة التي تحول دون تحقيق الحلم.
أوراق اليانصيب
وأمام هذه المعضلة ظل التوأمان يتبادلان الرسائل عن هذا الأمر، كان “علي” في هذا الوقت بلندن لدراسة الهندسة، و”مصطفى” في القاهرة طالبًا بكلية الحقوق، فيحاولان تارة تخفيض النفقات واختصار المشروع وتضييق أبواب الصرف ليكون المطلوب هو توفير 3 آلاف جنيه لانشاء الجريدة، فاقترح “علي” خلال وجوده في إنجلترا أن يحاول الحصول على رأس المال المطلوب بشراء أوراق سباق الدربي (30 ألف جنيه)، أما “مصطفى”، فكان في القاهرة يشترى تذاكر يانصيب المواساة وجائزته الأولى عمارة في الإسكندرية ثمنها 30 ألف جنيه أيضًا، لكن ورغم كل هذه المحاولات لم يفلح التوأمان في تدبير النفقات اللازمة، وفي الوقت نفسه كان “التابعي” ينفق إيراده من مجلة آخر ساعة أولًا بأول فلا يهتم بشيء اسمه الادخار، مما اضطر الشقيقان إلى محاولة تخفيض رأس مال المشروع ليصل إلى ألفي جنيه، فكان البحث عن شركاء هو أفضل حل أمامهما، فاستغل مصطفى أمين علاقاته الصحفية مع عدد من الرأسماليين في هذا العصر (رجال الأعمال) وناقشهم في المشروع، كان من بينهم: محمود محسب، والبدرواي عاشور، و فتح الله باشا بركات، وطلعت حرب، وفؤاد سلطان، لكن قوبل ذلك بالرفض.
في هذه الأثناء؛ اقترح محمود أبو الفتح؛ على التابعي وكريم ثابت فكرة إنشاء جريدة (المصري)، والتي صدر العدد الأول منها عام 1936، شارك مصطفى أمين بالكتابة فيها فترة دون أن يتقاضى منها مليمًا واحدًا، لكن الجريدة لم تصمد أمام العثرات والتحديات التي واجهتها، فاضطر التابعي أن يبيع حصته في الجريدة لحزب الوفد ويتفرغ لمجلته الأسبوعية آخر ساعة.
لم تكن “المصري” بوصفها صحيفة يومية سوى تجربة تعلم منها مصطفى وأدرك الأخطاء التي وقعت فيها، وحرص على نقل ذلك لشقيقه من خلال الخطابات المتبادلة بينهما، حتى يتفادا تكرار الأمر في جريدتهما التي ظلا يحلمان بها طيلة 10 سنوات، حتى تحقق لهما ما أرادا بإنشاء جريدة “الأخبار” مطلع خمسينيات القرن الماضي، سبقها في الظهور “أخبار اليوم”.
المقر الأول
في كتابه (الأوراق السرية للصحافة والأحزاب المصرية)، والصادر عام 1977، سرد الصحفي علي المغربي، بين سطوره بدايات أخبار اليوم، حيث أشار إلى أنها كانت تحتل شقة على سطح العمارة رقم 43 بشارع قصر النيل، وهي منطقة حافلة بالبنوك الكبرى والشركات الضخمة ومحل بنزايون ومحل لاباس والبنك الأهلي.
وكان مقر الجريدة عبارة عن بهو صغير يجلس في ركن منه شاب وأمامه مكتب عليه آلة كاتبة، وهو سكرتير أخبار اليوم، وعلى الجانب الآخر كان هناك بضع حجرات، إحداهما كانت جزءًا من مطبخ تجلس فيه محررتان والجزء الآخر ـ مظلم ـ استخدم كـ استديو للتصوير.
كانت الجريدة تحرر في إدارتها 43 شارع قصر النيل، ثم تجمع الحروف في مطبعة مصر، ويحمل مصطفى وعلي أمين وحسين فريد وتوفيق بحري؛ “الشاسيه” بما فيه من الحروف ويسيرون على أقدامهم من مطبعة مصر بشارع نوبار إلى دار جريدة الأهرام بشارع مظلوم، وكانت الرحلة مخاطرة كبري، مثلما يقول “المغربي” في كتابه، فإذا اهتزت حروف الصفحة أو وقعت على الأرض أثناء الطريق أو اصطدم بها عابر سبيل ضاع مجهودهم واضطروا للعودة من جديد إلى مطبعة مصر. وكانت الصفحات تكبس على مكبس جريدة الأهرام في شارع مظلوم ثم تحمل الكرتونة إلى مطابع الأهرام في بولاق، ثم تتكرر هذه العملية مع كل صفحة من صفحات أخبار اليوم الثمانية.
عقبات
واجهت الجريدة منذ اللحظة الأولى مشاكل وعقبات عديدة، لم تكن مقصورة فقط على عدم امتلاكها لماكينة طباعة خاصة بها، بل امتد إلى أزمة الحصول على الورق اللازم، فلم يكن الحصول عليه سهلًا وقتها، حيث كانت وزارة التموين تتولى توزيع الورق على الصحف، لكن الكمية التى خُصصت لأخبار اليوم كانت أقل بكثير مما تحتاج إليها، لعدم توقع توزيع كميات كبيرة منها عند إعداد العدد الأول من الجريدة، مما اضطر القائمون عليها في بعض الأحيان إلى تخفيض أعدادها المطبوعة.
ووفقًا لما رصده “المغربي” في كتابه، فإن توزيع العدد الأول من أخبار اليوم بلغ نحو 110 آلاف نسخة، وهو ما يعادل 12 ضعفًا من توزيع جريدة “المصري” اليومية، مقارنة بعددها في يناير 1977، والذي وزع حوالي مليون و110 آلاف نسخة.
كما ظهر العدد الأول وحجمه أكبر 4 مرات من حجم مجلة الاثنين أو آخر ساعة، وأكبر مرتين من حجم “المصور” في ذلك الحين، وقد سبق صدورها حملة دعاية ضخمة تولتها “الأهرام”.
المقر الثاني
في 11 نوفمبر 1945، والذي يوافق العيد الأول لأخبار اليوم، حرص التوأمان على أن يعدا مفاجأة وضع الحجر الأساسي للمبنى الشاهق الذي صممه المهندس سيد كريم.
وللوهلة الأولى، كان غريبًا اختيار المكان الذي ستقام عليه الدار، يصفه “المغربي” في كتابه بأنه شارع مهمل تطل على جانبيه الخرائب والعشش وصناديق الزبالة وبجوار شارع ضيق (الجلاء حاليًا) يمشي فيه القطار الذي يوصل بين “قشلاق” قصر النيل الإنجليزي ومحطة العاصمة. أما بيوت الجيران فكانت من الصفيح وأكوام من الخشب المحطم وزرائب على شكل بيوت؛ كانت عشش الترجمان، وكان الحي حي اللصوص ومدمني المخدرات والهاربين من العدالة.
شارع الصحافة
استطاعت “أخبار اليوم” خلال الـ 10 سنوات الأولى لها أن تحدث ما يشبه المستحيل، حيث شنت عدة حملات صحفية ناجحة، منها: حملة عن شريط السكة الحديد الذي كان يشطر مدينة القاهرة ويعطل المرور، وطالبت بتسمية الشارع الضيق باسم (شارع الجلاء) كما نجحت في جعل شارع (وابور النور) شارعًا للصحافة، وحاولت أن تجعل منه حيًا للصحافة كلها.
جندت الجريدة كبار الساسة والأدباء والأطباء والصحفيين، ومن بين هذه الأسماء: أحمد الصاوي محمد، وتوفيق الحكيم، وكامل الشناوي، ومحمد عوض محمد، ود. علي إبراهيم، وكريم ثابت، ومأمون الشناوي، وصلاح ذهني، ويوسف جوهر، ويحيى حقي، ومحمود كامل.
كما استعانت بمراسلين من الخارج مثل: مستر ورثام في لندن وكان من كبار محرري ومخبري الديلي تلغراف، والمستر وليام نورمان ايوار رئيس تحرير القسم الخارجي بجريدة الديلي هيرالد، والمستر كامبل المحرر الاقتصادي في شركة روتر بلندن.
واستطاعت الجريدة في أعدادها الأولى أن تعتمد على أحاديث مع كبار الساسة والأدباء، ففي العدد 37 تمكن علي أمين من إجراء حوار صحفي مع “برناردشو”، وكانت مقابلة أصعب من مقابلة “تشرشل” كما يقال، وكذلك حصلت على حديث من المهاتما غاندي عن سعد زغلول، وآخر مع ستالين، وحديث مع الملك عبد الله، وحديث مع هـ.ج.ويلز.
التقدير
تراوحت مرتبات الجورنالجية وقتها، ما بين 3 إلى 5 جنيهات شهريًا، إلى أن جاءت أخبار اليوم ورفعت المرتبات، حتى بلغ بها الأمر أن دفعت 400 جنيه ثمنًا لقصة يكتبها توفيق الحكيم، وألف جنيه لبرناردشو ليكتب لها مقالًا عن القنبلة الذرية، وبذلك أصبحت الصحافة هي المهنة التى يتمناها كل شاب وتحلم بها كل فتاة، ويتشرف الوزير أن يصبح صحفيًا، وهكذا قفز الصحفيون إلى مراتب النجوم، بعد أن كانت الصحافة “وصمة” في جبين المشتغلين فيها.
إصدارات الدار
قامت أخبار اليوم بشراء “آخر ساعة” من “التابعي” وحولتها لمجلة روتوغرافور تسجل التحقيقات الصحفية المصورة وتنقلها عنها صحف العالم، ثم أطلقت مجلة “آخر لحظة”، ظهرت في نصف حجم الجرائد اليومية وتحوي الأخبار السريعة والتعليقات الخاطفة، فصدرت في البداية كملحق لمجلة آخر ساعة كل يوم أربعاء، ثم تحولت من جريدة أسبوعية لجريدة تصدر مرتين في الأسبوع، وحظيت بانتشار واسع بين الناس، إلى أن استقر إصدراها 3 مرات في الأسبوع، أيام الاثنين والأربعاء والجمعة.
كما أصدرت الدار “مجلة الجيل”، وكان هدفها أن تكون مجلة الشباب، لكنها لم تلبث أن أصبحت مجلة سياسية، وكان الغرض منها أن يستعيد علي و مصطفى أمين؛ الأيام الذهبية لمجلة الاثنين.
ثم كان التفكير في إصدار الجريدة اليومية، وذلك قبل صدور الأخبار بأكثر من 22 سنة، ولكن مكث “علي ومصطفى”، هذه السنين الطويلة يحلمان و يقومان بتجارب، ويطويان الفكرة ثم يعودان إليها إلى أن صُدر العدد الأول من الأخبار في 15 يونيو عام 1952.
شهدت الجريدة في بدايتها محاولات للتطوير، لضمان ظهورها كأفضل ما يكون، بحسب ما سرده المغربي في كتابه، كان المحررون يأتون بالأخبار وتكتب المقالات ويرسم المصورون والرسامون وتعد الصفحات ثم تدور الماكينة الكبيرة لتطبع نسختين فقط، ثم يمسك المحررون بالنسختين ويدرسون الأخطاء ويغيرون ويبدلون في الترتيب والتنظيم ويقارنون الجريدة الجديدة بالصحف اليومية الأخرى ويحاولون تدارك النقص وبعد كل هذه الجهود صدر العدد الأول، لكنه كان صدمة عنيفة للقراء لتوقعهم شيئًا مختلفًا عما وجدوه في أيديهم، كانت الصحف اليومية كلها تصدر وفي صفحتها الأولي خبران كبيران، فجاءت الأخبار وملأت صفحتها الأولى بأخبار سريعة صغيرة ولم يعجب القارئ بهذا التغيير المفاجئ وهبط توزيع العدد الثاني ثم الثالث وتوالى الهبوط، وبدأت توجه نظرات الغيظ والغضب لعلي أمين الذي أصر على أن تكون جريدة الأخبار مختلفة عن باقي الصحف اليومية، ورغم السقوط المدوي ثبت على موقفه وقال إن هذا نوع جديد من الصحافة، وأن القارئ المصري سوف يقبله مع مرور الوقت، وهو ما ثبت صحته بعد أقل من شهرين، حيث صارت “الأخبار” أوسع الصحف اليومية توزيعًا، قفزت من رقم 3 إلى المركز الأول، وأخذت في تقليدها الصحف اليومية الأخرى، وأصبحت مدرسة الأخبار الصحفية هي التي تخرج الصحفيين الذين يحررون كل جرائد مصر الكبرى، وكان ذلك على عكس ما توقعه البعض من أن صدور جريدة الأخبار سيؤدي إلى إفلاس دار أخبار اليوم كلها.
تضحيات
منذ إنشاء أخبار اليوم كان “علي ومصطفى” في تفكير دائم عن التطويرات اللازمة، ودفعهما ذلك إلى بيع بيت والدهما في منيل الروضة، وانتقل ثمنه إلى خزانة أخبار اليوم بعد نقلهما أثاث البيت ومكتب والدهما إلى الدار بما في ذلك أدوات المطبخ لتوضع في خدمة المحررين، ونقل الشقيقان كل الكتب في مكتبة والدهما ومكتبة خال والدتهما سعد زغلول وأخيه فتحي زغلول، وكوّنا أكبر مكتبة صحفية في الشرق الأوسط وهي مكتبة أخبار اليوم، وكانت أول سيارة امتلكتها الدار هي السيارة رقم 15022؛ سيارة مصطفى أمين الخاصة، ثم أضيفت إليها سيارة والدتهما لتستخدم في تنقلات المحررين ونقل العمال إلى منازلهم في آخر الليل، وورثا عن والدهما 500 سهم في شركة بيع المصنوعات المصرية، باعا السهم الواحد بـ 20 جنيهًا، وانتقل المبلغ كله في نفس اليوم إلى خزانة أخبار اليوم، وتولى كلًا من أحمد عنان؛ مدير عام شركة مصر للتأمين، والدكتور قاسم فرحات؛ بيع مجوهرات والدتهما الخاصة ليضاف ثمنها إلى خزانة الدار، وبيع الأراضي التى ورثتها والدتهما عن سعد زغلول في مسجد وصيف وملوي، وقد تولى أحمد لطفي حسونة المحامي والمستشار القانوني للدار الأمر برمته.
سياسة الرهان
حسبما ورد في كتابه، يشير “المغربي” أنه من أسرار نجاح مؤسسة أخبار اليوم أنها لا تؤمن بسياسة التحويش أو الاقتصاد أو “مد رجلك على قدر لحافك”، إن ساق أخبار اليوم دائما أطول من اللحاف أنها تمد ساقها أولًا ثم تحاول بعد ذلك أن تغطيها!.
كانت أخبار اليوم في بدايتها مرهونة لشركة مصر للتأمين رهنًا أول منذ عام 1947، وكانت مرهونة لبنك مصر رهنًا ثانيًا منذ عام 1950، بالإضافة إلى آلة الطباعة الكبري في الدار كانت مرهونة للبنك العربي منذ عام 1952، وشركة توزيع الأخبار مرهونة للبنك العقاري رهنًا أول وللبنك العربي رهنًا ثانيا، فهذه السياسة الجنونية مثلما يسميها رجال الاقتصاد هى التي صنعت الصاروخ، وكثيرًا ما كان يقول علي أمين؛ لو أننا سرنا على قواعد علم الحساب وعلم المنطق وعلم الاقتصاد لما صدر العدد الأول من أخبار اليوم.
هجوم
بعد انطلاقتها، واجهت الجريدة ـ الوليدة ـ حملة شتائم من الوفديين بعد نشرها عن حادث 4 فبراير، حيث تسبب الأمر في قتل أمين عثمان الذي اتُهم في قتله عدد من الشباب، وكان بريد الدار يتلقى خطابات تهديد القتل بمتوسط 5 خطابات كل يوم، بل وصل الأمر إلى إرسال قنبلتين إلى الجريدة (لم تنفجرا).
ومن الأزمات التي مرت بها أخبار اليوم، أزمة السباب التي انهالت فجأة عليها فلم تخلوا صحيفة من توجيه الشتائم إليها، وقد تساوت في ذلك الصحف في مصر أو الصحف خارج مصر، وقد سارت الجريدة على تقليد تقيدت به منذ عددها الأول وهو أن لا تشتم الذين يشتمونها وأن لا تدافع عن نفسها.
كما اتهمت أخبار اليوم بأنها جريدة القصر، ولم ترد أخبار اليوم على تلك التهمة أيضًا، لكنها في العدد 33 انتقدت تصرفات الدكتور أحمد النقيب باشا؛ من أكبر المقربين لفاروق، وكان مديرًا لمستشفى المؤاساة، لفصله 5 من أطباء المستشفى دون سبب، ودعت الجريدة في مقالها إلى الاستقلال الاجتماعي، وهو ما أحدث دويًا في الدوائر السياسية والصحفية.
حملات صحفية
شنت أخبار اليوم حملات صحفية ناجحة أبرزها حملتها أثناء عرض قضية مصر على مجلس الأمن عام 1948، فقد تمكنت من الحصول على وثائق قدمتها إلى الحكومة المصرية أظهرت اعتداء الإنجليز على المصريين. ومن هذه الوثائق وثيقة سرية من القيادة البريطانية إلى الجنود الإنجليز بإطلاق النار على الجنود المصريين، وتزعمت حملة “إعلن صوتك في مجلس الامن” حيث انهالت آلاف الرسائل على مجلس الأمة طبقًا لنموذج البطاقات الذي نشرته أخبار اليوم وآخر ساعة، ووقتها كتبت النيويورك تايمز: “مصر تقول كلمتها بالبطاقات”، كما كتبت “نيوز ويك” وهي من أكبر المجلات الأمريكية؛ عن هذه الحملة التى لم يسبق لها مثيل والتي قام بها قراء أخبار اليوم.
أول مجلس إدارة
اختار الأخوة أمين “حسين فريد” عضوًا في أول مجلس إدارة لدار صحفية في مصر، عندما استحدثت أخبار اليوم هذا النظام في فبراير عام 1953 أي قبل تنظيم الصحافة، وجاءت فكرة تكوين هذا المجلس عندما زادت أعباء العمل في أخبار اليوم وهو ما دفعهما إلى الاتفاق على أن يكون للدار مجلس إدارة يخطط للمستقبل، وضم المجلس في عضويته كلًا من: مصطفى وعلي أمين، ومحمد التابعي ومحمد زكي عبد القادر، وجلال الدين الحمامصي، وكامل الشناوي، ومحمد حسنين هيكل، والدكتور محمود شوقي، والدكتور قاسم فرحات، وحسين فريد، وحافظ جلال. وعقدت أول جلسة يوم 14 فبراير 1953.
غضب داخلي
في إحدى ليالي خريف عام 1969 وعلى وجه التحديد مساء يوم 10 سبتمبر، شهدت أخبار اليوم اجتماعًا خطيرًا بدأت قصته قبل هذه الليلة بأيام، بعد أن ضج كل العاملين في أخبار اليوم وتحرك الشباب والشيوخ علنًا وسرًا وثارت كل القوى داخل أخبار اليوم على محمود أمين العالم، باعتباره مشرفًا عليها، والتقى وفد من شباب الدار في مقر الاتحاد الاشتراكي عقب إحدى اللقاءات المفتوحة التى كان ينظمها الرئيس السادات، وكان وقتها النائب الأول لرئيس الجمهورية وقُدمت إليه شكوى عن حال أخبار اليوم، كما ذهب الدكتور قاسم فرحات مع آخرين إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر وقدموا إليه تقريرًا مفصلًا بالأرقام عن سوء حالة الدار المالية والإدارية في عهد “العالم” ، ولم يجد عبد الناصر بُدًا أمام الموقف الخطير من أن يُكلف نائبه الأول أنور السادات؛ بالإشراف على أخبار اليوم والاستغناء عن “العالم” الذي أغضب جميع العاملين بالدار ، فألغى السادات كل القرارات الاستثنائية التى أصدرها “العالم” قبيل خروجه بأسبوع واحد.
وفي اليوم التالي، حضر السادات إلى أخبار اليوم، واجتمع برؤساء ونواب الأقسام التحريرية، وحمل الجميع مسؤولية إنقاذ “أخبار اليوم”، وأعلن قرار تعيين الدكتور قاسم فرحات عضوًا منتدبًا إلى جانب عمله مديرًا عامًا للدار، ويومها قال السادات إنه يعرف الجميع، وسبق له أن التصق بالكثيرين منهم في المجال الصحفي ويقدر الكل وأنه لا مجال للتكتلات أو الشلل، وأكد رفضه نظام الشلليه، وإن أي محاولة لتكوين “شلة” على حساب الآخرين لن يرحمها، واستعداده لبتر كل من يبدأ في خلق “شلة” جديدة في الحال، لأن اخبار اليوم لم تعد تتحمل هذا الأسلوب، وحانت ساعة العمل المخلص لإنقاذ هذه الدار العملاقة التي شهدت تقلبات وأحداث لم تشهدها دار مثلها.
التأميم
مع صدور قانون تنظيم الصحافة في مايو 1960، وإصدار قانون المؤسسات الصحفية في مارس 1964 ، تم تأميم “أخبار اليوم” إلى جانب مؤسسات صحفية أخرى مثل: دار الهلال، وروز اليوسف والأهرام.