تماضر توفيق.. سيدة ماسبيرو الأولى وصوت الساعة الناطقة (بروفايل)

إذا رفعت سماعة الهاتف الأرضي، واتصلت برقم 150، وانتظرت قليلًا، سوف تسمع صوتًا أخاذًا، يُخبرك كم الساعة بالضبط (بالدقيقة والثانية)، وقتما اتصلت، إنه صوت أول سيدة تقلدت رئاسة التلفزيون المصري، وأول مخرجة في تاريخه، وأول امرأة تُشرف على القسم الأوروبي بالإذاعة، إنه صوت الإعلامية الكبيرة، تماضر توفيق، التي رحلت عن عالمنا، في مثل هذا اليوم، من عام 2001.

وفي ذكرى وفاتها، يُقدم المرصد المصري للصحافة والإعلام، لمحة سريعة عن مشوارها الإعلامي، يُسلط من خلالها الضوء على أبرز الإنجازات التي حققتها، كإعلامية أثبتت نجاح تجربة القيادة النسائية في مجال العمل بالراديو والتلفزيون، فصارت إحدي رائدات الإعلام المصري بل والعربي.

نشأتها
وُلِدت تماضر توفيق، في 9 فبراير 1921، في مركز السنبلاوين، التابع لمحافظة الدقهلية، وفي 1942، تخرجت من كلية الآداب، جامعة القاهرة (فؤاد الأول حينها)، التي درست فيها، بقسم اللغة الإنجليزية.

كانت تعشق المسرح، وكانت مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا، لذلك انضمت إلى فريق مسرح كلية الآداب، ومثلت معه في مسرح دار الأوبرا المصرية القديمة، وفور تخرجها، عملت كصحفية، في وكالة الأنباء المصرية.

عملها بالإذاعة
بدأت تماضر توفيق مسيرتها الإعلامية الحافلة من الإذاعة، حيث دفعها شغفها بالمسرح والتمثيل إلى الالتحاق بالإذاعة، في ‏1946‏، لتُصبح في طليعة الأصوات التي قدمت نشرات الأخبار، ومن أكثرهن حضورًا وشخصية‏، لذلك سرعان ما كونت مع زملائها في الإذاعة فريقًا للتمثيل،‏ كما دفعها عشقها للدراما والتمثيل إلى السفر في بعثة لدراسة الفن الإذاعي، في هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، لتكون بذلك من أوائل الإذاعيات المصريات، اللاتي سافرن في بعثات دراسية، خارج مصر.

وبعد عودتها من البعثة، أُسند إليها منصب رئيس قسم التمثيليات بالإذاعة، بالإضافة إلى عملها في قراءة نشرات الأخبار، وتقديم البرامج، خاصةً برنامجيها “ورقة وقلم”، و”عشرين سؤال”، اللذين كانا في ذلك الوقت، طليعة لبرامج المنوعات ذات الصبغة الجماهيرية، والتأثير الشعبي الواسع، فضلًا عن الطبيعة الثقافية للبرنامجين‏.

مناصب إذاعية
سطع نجم تماضر توفيق في سماء الإذاعة، كما برزت ملامح شخصيتها القيادية، خلال عملها الإذاعي، الأمر الذي جعلها تتقلد العديد من المناصب في الإذاعة المصرية، فكانت بمثابة أول سيدة تقوم بالعديد من المهام الإذاعية الشاقة، بفضل موهبتها وكفاءتها، وقدراتها الإذاعية.

فعملت رئيسًا لقسم التمثيليات، ومُراقبًا للتنفيذ الإذاعي، كما عملت مُشرفًا على البرنامج الأوروبي والبرامج الأجنبية بالإذاعة‏، وبهذا كانت أول امرأة تُشرف على القسم الأوروبي بالإذاعة المصرية، وبالإضافة إلى ذلك، عملت كمساعد للمُراقب العام‏.

أول مخرجة
كانت المسيرة المهنية المُشرفة لتماضر توفيق في الإذاعة، سببًا في أن تكون ضمن أول بعثة تذهب إلى الولايات المتحدة، باسم التلفزيون المصري، لدراسة الفن التلفزيوني، في ‏1957‏، أي قبل افتتاح التلفزيون في مصر، بثلاث سنوات، وسافرت “توفيق” مع هذه البعثة، لمدة 5 شهور، عادت بعدها إلى ورشة التحضير للحظة إطلاق التلفزيون المصري.

وفي عام 1960 (عام الإطلاق)، سافرت في بعثة ثانية، إلى الولايات المتحدة، لدراسة فن الإخراج التلفزيوني، لتعود بعدها، وتصبح أول مخرجة في تاريخ التلفزيون المصري، ومارست “تماضر” نشاطها الإخراجي، في البرامج الثقافية، التي عُينت مراقبة عليها، حسبما أفادت الناقدة الفنية والكاتبة الصحفية، ماجدة موريس، في موسوعتها “مبدعات التلفزيون”.

“وجهًا لوجه”
منذ تدشين التلفزيون المصري، عام 1960، وهو يشهد ظهور أجيال مُتعددة من الإعلاميات اللامعات، ما بين مذيعات، ومخرجات، وممثلات، وكانت تماضر توفيق واحدة من أبرز مبدعات التلفزيون المصري، فسرعان ما أصبح وجهها التلفزيوني، هو الوجه الأكثر شهرة بين الجماهير، طاغيًا في شهرته على صوتها الإذاعي؛ حيث تابعها الناس على شاشة التلفزيون، من خلال برنامجها التلفزيوني الناجح، “وجهًا لوجه”، الذي تخصص في مناقشة المشكلات التي تهم الجمهور، بموضوعية وجرأة‏، ومن أشهر حلقات هذا البرنامج، الحلقة التي أجرت فيها “توفيق”، حوارًا مع رائد الفضاء الروسي الشهير، يوري جاجارين، صاحب أول رحلة لإنسان إلى الفضاء، في 12 أبريل 1961، ويمكنك مشاهدة هذه الحلقة، من خلال الضغط هنا.

كما أشرفت تماضر توفيق، على القناة الثالثة، التي سُميت بالثقافية، وبادرت بابتكار عشرات الأفكار لبرامج تلفزيونية، جعلت من القناة شبه المتخصصة، منافسًا قويًا للقناتين الأولي والثانية،‏ وبفضل ثقافة تماضر توفيق، وقدرتها الفذة على الاختيار، استقطبت القناة الثالثة، الكثيرين من الكُتَّاب والأدباء والمفكرين والعلماء‏،‏ ليكونوا هم مُعدِّي برامجها ومقدميها وضيوفها، بل والمسؤولين عنها.

رئيسة التلفزيون
تألقت “توفيق” في عملها بالتلفزيون، خاصةً في دورها كمُراقب عام للبرامج الثقافية، وتدرجت في مناصب عدة به، فعملت مُشرفًا على البرامج التعليمية، ومديرًا للمراقبة العامة للتخطيط والمتابعة، كما صارت وكيلًا للتلفزيون لشئون البرامج‏،‏ لينتهي بها المطاف رئيسًا للتلفزيون، عام ‏1977، أي بعد مرور نحو 17 عامًا على تأسيسه، وبتوليها ذلك المنصب، حملت تماضر توفيق لقب أول امرأة تترأس التلفزيون المصري، وظلت “تماضر” تقود التلفزيون المصري، في الفترة من عام 1977، وحتى عام 1985.

وبتوليها هذا المنصب، أعادت تماضر توفيق الروح من جديد إلى التلفزيون المصري، ومن خلال طموحها الذي كان يملأ أرجاء مبنى الإذاعة والتلفزيون، بشهادة كل الإعلاميين والإعلاميات الذين عاصروها، استطاعت “توفيق” أن تكسر حاجز الخوف لكونها قيادة نسائية، مُحاطة بأساتذة كبار من الإعلاميين الرجال.

تلمذة الإعلاميات
لم تكتفِ أول سيدة قائدة لمبنى الإذاعة والتلفزيون، بما حققته من إنجازات، خلال عملها الإداري في التلفزيون المصري، فعملت على تقديم جيل من الإعلاميات، اللاتي تتلمذن على يديها، ورسخت بداخلهن مفاهيم الإعلام، ومعاييره المهنية، كما يجب أن تكون، ويكفي أن أسماء مثل: سلمى الشماع، وسناء منصور، وميرفت رجب، يذكرن في كل مناسبة أن من قادتهن في بداية طريقهن، كانت الإعلامية تماضر توفيق، صاحبة التاريخ العريق، الذي وضع اسمها جنبًا إلى جنب، مع أسماء عمالقة الإعلام.

وفي قمة انشغالها بمسؤولياتها كرئيس للتلفزيون‏، وخلال بحثها الدؤوب عن الجديد،‏ فكرًا وتناولًا وأداءً‏،‏ اختارت “توفيق” ثلاثة من الإذاعيين، ليقدموا برامج تلفزيونية، تُثري بها الوجه الثقافي للتلفزيون، الذي كان في ذلك الحين باهتًا وغير مؤثر، وكان هؤلاء الإذاعيين، هم‏:‏ سناء منصور، ونادية صالح، وفاروق شوشة.

الساعة الناطقة
إذا رفعت سماعة الهاتف الأرضي، واتصلت برقم 150، وانتظرت قليلًا، سوف تسمع صوتًا أخاذًا، يُخبرك كم الساعة بالضبط (بالدقيقة والثانية)، وقتما اتصلت، إنه صوت تماضر توفيق، التي انتدبتها هيئة التليفونات المصرية الإذاعية، بالإذاعة المصرية، عام 1951، لتسجيل الساعة، ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة، وثانية بثانية، في السويد، وبعد عمل شاق، وجهد دقيق، استمر لمدة شهرين، سجلت أول رئيسة للتلفزيون الساعة الناطقة.

وكان مشروع الساعة الناطقة خطوة ضمن مشروع طَموح لهيئة التليفونات، عملت عليه، منذ عام 1951، وحتى عام 1959، وكان يتضمن رقم دليل لمعرفة الطقس، ورقم دليل للأخبار باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية، لكن مثلما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، تعثر المشروع، بسبب عدم كفاية الميزانية، ولم يبقَ منه سوى الساعة الناطقة في التليفون الأرضي، بصوت تماضر توفيق، حتى الآن.

الترجمة
لم يُنسِها العمل الإداري والبرامج، عشقها الأساسي للثقافة، خاصةً ما يتصل منها بتأصيل الثقافة التلفزيونية، التي كان المُتاح منها باللغة العربية قليلًا جدًا بل نادرًا، لذلك ترجمت تماضر توفيق للقارئ العربي، ثلاثة كتب أساسية في هذا المجال هي‏:‏ “العمل التلفزيوني”، و”فن التلفزيون”، و”التلفزيون وأثره في حياة الأطفال”.‏‏

ولم تنطلق تماضر توفيق وحدها، في رحلتها الإعلامية، الطويلة والفريدة، بل كان إلى جانبها، في هذه الرحلة، ثلاثة إعلاميين، من جيل الرواد العمالقة، في تاريخ الإذاعة المصرية، هم‏:‏ سعد لبيب، وعباس أحمد، وسميرة الكيلاني.

أسرتها
تنتمي تماضر توفيق إلى أسرة تضم اثنتين من أهم المبدعات المصريات، في تاريخ الفن والإعلام، فشقيقتها الأولى، هي الفنانة الكبيرة محسنة توفيق، وهي ممثلة قديرة، لها أعمال درامية خالدة في أرشيف السينما المصرية، وكذلك في تاريخ التلفزيون والمسرح، ومن أبرز أعمالها، فيلم “إسكندرية ليه”، ومسلسل “ليالي الحلمية”.

وشقيقتها الثانية، هي مذيعة الراديو الشهيرة، فضيلة توفيق، المعروفة لدى المُستمعين باسم “أبلة فضيلة”، وهو الاسم الذي قدمت به برنامجها الإذاعي الشهير، “غنوة وحدوتة”، أيقونة برامج الأطفال، الذي قدمته على مدار عشرات السنوات، ويُمثل هذا البرنامج، علامة مُضيئة في تاريخ البرامج الإذاعية المصرية، وُصِفت “فضيلة” بسبب نجاحه الكبير، بأعظم حكائة في تاريخ الإذاعة المصرية.

رحيلها
تُوفيت سيدة ماسبيرو الأولى، في 8 يونيو 2001، عن عمر ناهز الثمانين عامًا، لترحل الإعلامية القديرة، تماضر توفيق، عن عالمنا، كاتبةً كلمة النهاية لتجربة إعلامية ونسائية مُشرفة، ألهمت العديد من الإعلاميين بشكل عام، والإعلاميات بشكل خاص، وسطرت اسم صاحبتها بحروف من نور، في تاريخ العمل الإذاعي والتلفزيوني.

في رثائها
في 17 يونيو2001، كتب الشاعر فاروق شوشة، عن تماضر توفيق، بعد رحيلها، في جريدة “الأهرام”، قائلًا: “إنها لم تكن كغيرها من الرائدات في مجال العمل الإذاعي والتلفزيوني، بل لا تكاد تشبههن في شئ، ‏فهي أكثرهن وعيًا وثقافةً واستنارة‏ً، وهي أكثرهن جرأةً وشجاعةً في الحق، والتمسك بما تراه عدلًا وصوابًا حتى النهاية‏، وهي أكثرهن انضباطًا في العمل، وحرصًا على الجدية، وبُعدًا عن المجاملة، وكراهيةً للنفاق والمداهنة، ‏ثم هي أكثرهن إيمانًا بالعقل، وإعلاءً لشأنه، في كل ما تواجهه من قضايا ومواقف،‏ أما انتماؤها الريفي الأصيل للوطن، أرضًا وناسًا، فقد رضعته مع طفولتها منذ مولدها، وبقي هذا الانتماء للوطن، وغيرتها من أجله وإيمانها بالرسالة التي ارتضتها لنفسها في سبيله، ملمحًا من ملامحها الأساسية، حتى النفس الأخير، ولم يكن يحبها الجهلاء والأدعياء،‏ لأنها سرعان ما تكشف زيفهم وادعاءهم،‏ وكان يرهبها المنحرفون والفاسدون، لأنها كانت تواجههم مباشرة بفسادهم وانحرافهم”.‏

كما رثاها الصحفي والكاتب الساخر، أحمد بهجت، في عموده اليومي، بجريدة “الأهرام”، “صندوق الدنيا”، فقال: “لم تكن السيدة تماضر توفيق مجرد رئيسة للتلفزيون، يعنيها شأن الإدارة وترتيب أموره داخل إطارها، إنما كانت نجمًا من نجوم الإذاعة، وكانت روحًا بثته في التلفزيون، في بداية حياته ونشأته، كانت تعرف ما الذي يعنيه التلفزيون، وأي قدرة تتمثل في شاشته الصغيرة”.

زر الذهاب إلى الأعلى