ثروت أباظة.. أديب العصر و صديق “الحرافيش” (بروفايل)

واحد من أهم كتاب الرواية المصرية في العصر الحديث، له إسهاماته العديدة فى الأدب، تسببت إحدى رواياته الشهيرة في غضب نظام عبد الناصر، وكاد أن يتوقف الفيلم المقتبس عنها من العرض في دور السينما خلال فترة الستينات، بدعوى الإساءة للسلطة، إنه الصحفي والكاتب والأديب الكبير ثروت أباظة، الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده الـ 93.
وبهذه المناسبة، يستعرض المرصد المصري للصحافة والإعلام محطات من مشوار حياته.

نشأته
اسمه “محمد ثروت إبراهيم دسوقي أباظة”، ولد في حي المنيرة بالقاهرة، في الخامس عشر من يوليو عام 1927ـ كما هو مدون في السجلات الرسمية ـ ترجع أصوله إلى قرية غزالة التابعة لمركز الزقازيق، بمحافظة الشرقية.

من عائلة أباظة الشركسية، والتي تعتبر من أعرق عائلات مصر؛ فأعمامه هما الشاعر عزيز أباظة، والكاتب الكبير فكري أباظة، أما عن والده فهو الأديب والسياسي إبراهيم دسوقي أباظة، الذي تقلد عددًا من المناصب الهامة بالدولة استهلها بعضوية مجلس النواب ثم وكيلًا للمجلس، وتقلده لمنصب الوزير لعدة فترات في وزارات مختلفة، ويذكر أن “دسوقي” شغل منصب وزير الأوقاف، فى حكومة إسماعيل صدقي، عام 1946، وكان كاتبًا لمقالات سياسية، وأسس حركة أدبية عُرفت باسم “جماعة أدباء العروبة”.

كان والده يعتز اعتزازًا شديدًا بجذوره في الشرقية، ولهذه قصة كتب عنها “ثروت” وقال: “ولدت بالقاهرة عام 1927 في الـ28 من شهر يونيو، وقد كنت في غنى عن ذكر هذا التاريخ إلا أنني أذكره لأن أبي لم يشأ أن يقيد ميلادي بالقاهرة وإنما انتظر حتى ذهب إلى بلدتنا في الريف غزالة الخيس مركز الزقازيق بإقليم الشرقية، وقيدني هناك، ولذلك فتاريخ ميلادي الرسمي المقيد بشهادة الميلاد في البطاقة هو 15 يوليو 1927، وقد ذكرت هذه الواقعة على بساطتها لأبين مدى ارتباطنا بالريف”.

بدأ حب “ثروت” للقراءة، حينما أهداه والده مجموعة من مؤلَفات الكاتب “كامل كيلاني”، وقد ارتبط وجدانيًا بكتابات عدد من رواد الشعر والأدب، من أبرزهم: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وأحمد شوقي.

ورغم مولده وسط عائلة أدبية كبيرة، إلى جانب تمتعه بذكاء شديد، لكنه لم يعطِ للدراسة بالًا، وهو ما دفع والدته إلى تعنيفه، لحثه على الاجتهاد والتفوق في دراسته كباقي أبناء جيله في هذا العصر، حتى يرفع من شأن العائلة، وبالفعل استجاب لها، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) عام 1950، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليبدأ بعدها حياته العملية ـ القصيرة ـ بالعمل في مجال المحاماة، قبل أن يتفرغ بعدها للأدب.

الموهبة
رغم اتجاهه إلى دراسة القانون نزولًا على رغبة الأب، لكن حبه للأدب استقر في قلبه إلى الأبد، فكان نتاج ذلك أعمالًا أدبية تنوعت ما بين القصص والروايات تحول بعضها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية نالت القبول لدى الكثيرين عبر أجيال متعاقبة وحتى اليوم مازالت تحتل مكانة خاصة عند إعادة عرضها على شاشة التليفزيون.

وقد بدأت موهبة “ثروت” الأدبية فى سن مبكرة، ففي السادسة عشر من عمره، بدأ اسمه يتردد على موجات الراديو، إذ شرع وقتها في كتابة القصة القصيرة والتمثيليات الإذاعية، والتى أعجب بها الكاتب الكبير توفيق الحكيم، قائلًا:: “أنا معجب برواياتك في الإذاعة، لدرجة أنني حين أقرأُ في البرنامج أن لك رواية أمكث في البيتِ ولا أخرج”، وتدريجيًا اتجه ثروت إلى كتابة القصة الطويلة، فكانت أولى قصصه بعنوان “ابن عمار”، وعلى سبيل التجربة استهوته الكتابة للمسرح، فكتب “الحياة لنا”، لكن يبدو أنه لم يستسغ الأمر، فانصرف عنه فيما بعد إلى كتابة القصص و الروايات، وأبدع فيها.

وفى مذكراته “ذكريات لا مذكرات”، الصادرة عام 1988، يحكي ثروت أباظة، أنه فى بداية شبابه، وبينما كان طالبًا فى التوجيهية، ظهرت رواية العباسية، تأليف عزيز باشا، وكان قد أنعم عليه الملك برتبة الباشاوية ـ تقديرًا لشاعريته ـ وبمناسبة صدور رواية العباسية، والتي أعجب بها ثروت أباظة، لكن الأديب الكبير يحيى حقى كتب عنها فى مجلة الثقافة مقالة رأى “ثروت” أنها غاية فى العنف، حيث هاجم الرواية وهاجم عزيز باشا بضراوة أذهلته، فقرر أن يرد هو بمقال عليه، جاء في جزء منه: “الشباب اندفاع وتهور فقد كنت فيما كتبت قاسيًا غاية القسوة”.

أرسل “ثروت” المقال إلى مجلة الثقافة، ولم يمضى سوى يومين حتى هاتفه الأديب الكبير أحمد أمين، حيث جاءه صوته الطيب البسيط الهادئ، كما يصفه، قائلًا:” أكلمك كأحمد أمين الوالد، لا أحمد أمين رئيس تحرير الثقافة الجديدة، مقالتك في الرد على يحيى حقي في المطبعة فعلًا، ولكننى أرجوك أن تخففها، فإن الرجل فقد زوجته منذ قريب ولا أحب أن تسيء إليه وهو فى حالته هذه، إن رأيت أن تستجيب لرجائى أكون شاكرًا، وإن رأيت أن تبقى المقالة كما هي فهي فعلًا فى المطبعة”، فرد ثروت أباظة فى إذعان سريع ودون ريث تفكير: “أمرك يا سعادة البيك”، وبالفعل جلس ليكتب المقال مرة أخرى لكن دون هجوم، وذهب إلى مقر المجلة بشارع كرداسة، ودخل إلى المطبعة، فوجد مقالته هناك، فاستبدلها بأخرى بعد عمل التعديل اللازم”.

أعماله الأدبية
ألف ثروت أباظة عددًا كبيرًا من القصص والروايات، تحول بعضها إلى أفلام ومسلسلات، وكتب ما يقرب من خمسين تمثيلية إذاعية، وأربعين قصة قصيرة، وسبعة وعشرين رواية طويلة، من بينها: شىء من الخوف، هارب من الأيام ، قصر على النيل، ثم تشرق الشمس، الضباب، أحلام في الظهيرة، النهر لا يحترق، و طارق من السماء، والغفران، بريق في السحاب، سمات من الزمان، لؤلؤة وأصداف، أمواج ولا شاطئ ، أوقات خادعة، جذور في الهواء، ونقوش من ذهب ونحاس، خائنة الأعين، وخيوط واهية.

ومن القصص القصيرة: ابن عمار، الأيام الخضراء، لقاء هناك، ذكريات بعيدة، هذه اللعبة، حين يميل الميزان، السرد في القرآن الكريم، القصة في الشعر العربي، لأنه يحبها، السباحة في الرمال، وبقى شي، الشباب والحرية، طائر فى العنق، ذكريات لا مذكرات، الزمن الممزق، آمال وأقدار، جداول بلا ماء، وخواطر ثروت أباظة، ومن التمثيليات الإذاعية: رءوس فى السماء.

ناصر
لم تكن “شيء من الخوف” مجرد رواية عادية، إذ أن مؤلفها تعرض للهجوم وكاد الفيلم، الذى أخذ عنها يتوقف، فقد أثير حولها جدلًا واسعًا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إذ قيل أنها تحمل رمزية لفترة حكمه.

وفى كتابه “ذكريات لا مذكرات”، يكشف ثروت أباظة، عن كواليس كتابتها، فأثناء لقاءه بالأديب الكبير نجيب محفوظ، في مقهى عرابي بميدان الجيش، بالعباسية، مع الحرافيش من أصدقائه، وأثناء الحديث فى الشؤون السياسية، قال “ثروت” لنجيب محفوظ: “نجيب بك، إن أحدًا لم يتكلم حتى الآن في شرعية حكم الطاغية”، فصمت نجيب لحظات ثم قال “فكرة جيدة” ليرد عليها الأول “ربما حاولتها”.

يقول ثروت: “وما لبثت الأيام إلا وجدت نفسى أميل كل الميل أن أرمز إلى الشرعية بالزواح، وهكذا كان لابد لى أن أقرأ الفقه على المذاهب الأربعة، وأركز فى قراءتي على عقد الزواج، فوجدت أبا حنيفة وهو الذي نطبق مذهبه في أحوالنا الشخصية يقول إن الفتاة إذا لم تعط الوكالة لمن يزوجها يكون الزواج باطلاً نسبيًا، والبطلان النسبي يختلف عن البطلان؛ فالنسبى يمكن أن يزول ويصبح العقد صحيحًا إذا زال سبب البطلان، أما المطلق فلا يصح أبدًا”، ويقول أبو حنيفة فى حالة زواج البنت بتوكيل باطل: يزول البطلان إذا عادت البنت وقبلت الزواج فإنه في هذه الحالة يصبح زواجًا صحيحًا خاليًا من البطلان، وكتبت رواية “شيء من الخوف” معتمدًا على هذه القاعدة الشرعية حتى فرغت منها وكتبتها على الآلة الكاتبة”.

صدرت رواية “شيء من الخوف” عام 1960، عن دار المعارف، وتم تحويلها لفيلم سينمائي يحمل نفس الاسم، وهو من إنتاج عام 1969 ومن إخراج حسين كمال، وقام الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي بمعالجتها وكتابة السيناريو، ورشح الفيلم لجائزة مهرجان موسكو السنيمائي.

تعرض الفيلم إلى الكثير من الانتقادات وقت عرضه، حيث لاقى اعتراضًا من الرقابة، وكانت قصة الفيلم تدور حول”عتريس”، وهو رجل متسلط قاسي القلب يفرض إرهابه على أهل قريته.

وكان وجه اعتراض الرقابة هو اعتقادهم أن شخصية عتريس ترمز إلى الرئيس عبد الناصر، الذي سمح شخصيًا بعرض الفيلم بعد أن شاهده أكثر من مرة، واصفًا شخصية عتريس بقوله: “لو كنت بتلك البشاعة فمن حق الناس أن يقتلوني”.

وكشف الكاتب الصحفى يوسف القعيد، تعليق الرئيس عبد الناصر، عقب معرفته بتجسيد شخصيته في فيلم “شىء من الخوف”، قائلًا: “إن عبد الناصر، علم بشخصية عتريس، في الفيلم، وطلب مشاهدته على الفور، قبيل عرضه للجمهور، مشيرًا إلى أن الفيلم من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما، المملوكة للدولة، وكان يتولى رئاستها آنذاك الأديب نجيب محفوظ”.

وأضاف “القعيد”، خلال لقاء مع الإعلامى يوسف الحسيني، في برنامج “بصراحة”، المذاع عبر إذاعة “نجوم إف إم”، بعد مشاهدة الرئيس “عبد الناصر” للفيلم، قال إذا كانت الناس تشاهدني مثل شخصية “عتريس” يتم عرض الفيلم للجمهور.

واستطرد: أنه تم توجيه اتهامات إلى ثروت أباظة، بكتابة رواية ضد “عبد الناصر”، بينما نفى ذلك، موضحًا موقفه بأنه يقصد بشخصية “عتريس” الاستعمار وأعوانه، كما تم تعطيل تصوير الفيلم عدة مرات، إلى أن تم كتابة تعهد من “أباظة” بأن شخصية “عتريس” ليس المقصود بها الرئيس “عبد الناصر”.

المناصب
رغم تفرغه لسنوات طويلة من مشواره الادبي لكتابة القصص والروايات، ونجاحه في ذلك، لكن عندما عرض عليه تولي رئاسة تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1974، لم يمانع الأمر، وفي الفترة من عام 1975 إلى 1988 تولي رئاسة القسم الأدبي بصحيفة الأهرام، والتي ظل يكتب فيها حتى وفاته.

إضافة لذلك، شغل ثروت أباظة خلال فترة من حياته منصب رئيس اتحاد الكتاب، ووكيل مجلس الشورى.
كما كان عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة ، وبالمجالس القومية المتخصصة، ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ورئيس شرفي لرابطة الأدب الحديث، وعضوًا بنادي القلم الدولي.

الجوائز
حصد ثروت أباظة عدد من التكريمات، تقديرًا لمشواره الأدبي الممتد لنصف قرن من الزمان، ففي عام 1958 فاز بجائزة الدولة التشجيعية، ثم وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1982، ثم جائزة مصطفى وعلي أمين عام 1993.

وفاته
رحل الكاتب والأديب الكبير ثروت أباظة عن عالمنا في السابع عشر من مارس عام 2002، عن عمر ناهز الـ 75 عامًا بعد صراع طويل مع المرض، إثر إصابته بورم خبيث فى المعدة.

Back to top button