محمود السعدني.. عمدة الكلام في دولة الظرفاء (بروفايل)

قدرته على الحكي لا تُضاهيها قدرة أخرى، تميز بخفة ظله وأسلوبه الساخر في الكتابة، وسلاطة اللسان مثلما عاب عليه البعض، إنه الولد الشقي” محمود السعدني” والذي تمر اليوم الذكرى العاشرة على رحيله.

قال عنه الكاتب كامل الشناوي: “يخطئ من يظن أن السعدني سليط اللسان فقط، إنه سليط العقل والذكاء أيضا”.

لُقب السعدني بـ”آخر الظرفاء، وملك الساخرين”، حافظ على قلمه نظيفًا، فلم يتخلِ عن مبادئه مثل غيره من بعض كتاب جيله، مما عرضه إلى حملات تشويه وإقصاء خارج البلاد لما يزيد عن عشر سنوات، ذاق خلالهم مرارة الغربة بعيدًا عن الأهل والأحباب، ومع ذلك كانت له بصماته التي لا تُنسي في تجارب صحفية متميزة داخل عدد من البلدان العربية، من بينها: سوريا، لبنان، ليبيا، والإمارات.

نشأته

اسمه بالكامل محمود عثمان محمد علي السعدني، وُلِد يوم الأحد، الموافق 20 نوفمبر عام 1927، بمركز الباجور، في محافظة المنوفية، وهو الشقيق الأكبر للفنان صلاح السعدني.

حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة الجيزة، ثم على الثانوية من مدرسة المعهد العلمي الثانوية بالقاهرة، في أوائل أربعينات القرن الماضي.

حياته الصحفية

في عام 1944، اشتغل بمجلة “نداء الوطن”، واستمر فيها أربع سنوات، ثم انتقل بعدها للعمل كمحرر بمجلة “مسامرات الجيب”، وفي عام 1950، عمل في جريدة “النداء”، وبعدها بعامين انتقل للعمل مع الشاعر والكاتب الكبير مأمون الشناوي في مجلة “كلمة ونص” الأسبوعية، وفي نفس التوقيت عمل في “الجمهور المصري”، ومجلة “الستار”، ومجلة “المصور”، وفي عام 1953 تنقل بين عدد من الصحف والمجلات كان من أبرزها: جريدة “القاهرة”، ومجلة “التحرير” الأسبوعية ـ التابعة لإدارة الشئوون العامة للقوات المسلحة ـ ثم جريدة “الجمهورية”، إلى أن استقر مقامه عام 1958 في “روز اليوسف” ، لكنه بعدها بعامين التحق بمجلة “صباح الخير”، ووصل فيها إلى منصب رئيس التحرير عام 1971، حيث رفع توزيعها آنذاك إلى معدلات غير مسبوقة، وفي الفترة من عام 1973 حتى 1982 عاود العمل مرة أخرى في مجلة “روز اليوسف”، إلى أن أُحيل للمعاش عام 1987، لكنه تفرغ بعدها للكتابة حتى عام 2006، فاستحق عن جدارة لقب “العمدة” الذي لازمه طوال حياته.

الضباط الأحرار

منذ اليوم الأول لها، أعلن محمود السعدني تأييده لـ”حركة” الضباط الأحرار، والتي قامت في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، وأسقطت عرش فاروق.

ومع نبوغه المبكر في الصحافة، وبراعة أسلوبه المتقن في صياغة الجمل وضبط الألفاظ، جاءته الفرصة للعمل في جريدة “الجمهورية” ـ صوت الثورة ـ والتى صدر العدد الأول منها بعد عام و(4) شهور و(14) يومًا من قيام الثورة، بعد أن تقدم ـ البكباشي ـ أنور السادات بضمانة شخصية قدرها 300 جنيه إلى إدارة المطبوعات، للموافقة على صدور الصحيفة، حيث شغل فيها السادات منصب المدير العام ورئيس مجلس إدارتها.

عمل “السعدنى” في جريدة الجمهورية لفترة من الوقت قبل أن تقرر الإدارة الاستغناء عنه هو وعدد من كبار الصحفيين من بينهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي.

المأزق

أثناء فترة عمله في “الجمهورية” سافر السعدني إلى سوريا مراسلًا في دمشق، فكانت رحلة العذاب والضنى كما أسماها في كتابه “الطريق إلى زمش”، وعنها قال: “كانت دمشق وقتئذ واحة الديمقراطية والحرية وحلبة الآراء المتصارعة في العالم العربي، وكان زعماء الحزب الشيوعى العراقي يعيشون في دمشق هربًا من جحيم نوري السعيد، وقدر للعبد لله أن يجتمع بهم عدة مرات”.

واستطرد : “في إحدى المرات طلبوا مني توصيل رسالة إلى الرئيس عبد الناصر، فقلت لهم: لكني لا أعرف عبد الناصر ولم أقابله من قبل، لكنهم لم يقبلوا ذلك فقد تخيلوا أنني من كبار المسئولين”.

وبعد أسبوعين من تسلمه رسالة الحزب الشيوعي العراقي، عاد السعدني إلى القاهرة، والتقى برئيس مجلس إدارة الجمهورية أنور السادات وأخبره بأمر الرسالة المغلقة، وبدروه سلمها إلى الرئاسة.

وفوجىء السعدني في اليوم التالي بقرار فصله من “الجمهورية”، وكان السبب الذي اكتشفه لاحقًا هو الخطاب الذى حمله من دمشق للرئيس جمال عبد الناصر، حدث ذلك قبل إعلان الوحدة بين مصر وسوريا.

خلف الأسوار

وعلى خلفية ذلك، ألقي القبض عليه وسُجن لما يقارب العامين إلى أن تم الإفراج عنه، وعن هذه الفترة قال: ” كسرت ظهري ولونت حياتي بلون الهباب”، لكنه بعدها عاود العمل في مجلة “روز اليوسف” بعد قرار تأميمها مع عدد من المؤسسات الصحفية.

وفي مذكراته المعنونة تحت اسم “الولد الشقي”، حكى السعدني تفاصيل ماحدث، قائلًا: ” في ليلة رأس السنة لعام 1959، شنت أجهزة  الأمن حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعين المصريين، واعتقلت عشرات من المثقفين اللامعين وبعض القيادات العمالية، ولم تحل نهاية شهر مارس حتى كانت الحملة قد بلغت أوجها بين حكومة مصر وحكومة العراق، وبلا مقدمات وجد السعدني نفسه في سيارة تتجه به من قسم الجيزة إلى سجن القلعة”.

ووصف أيامه الأولى في السجن: ” لمدة ثلاثة أيام لم يفتح فيها الباب لحظة واحدة إلا وقت تسليم الوجبات، أما بقية الوقت فالباب مغلق، والنافذة أضيق من صدر الكافر”.

لكنه انتقل إلى معتقل الفيوم، وبعدها إلى سجن الواحات، وهناك تعرض لشتى أنواع التعذيب السائدة في هذا الوقت، ولم يخفف عنه الآلام سوى تواجد صديقه الكاتب الصحفي صلاح حافظ، الذي كان قد سبق إلى السجن عام 1954.

وعلى الرغم من المعاناة التى قاسها “السعدني” في سجون ناصر، إلا أنه كان ناصريًا حتى النخاع.

وعن ذلك قال: “إذا كان هيكل السفير الناصري في الدوائر العالمية والدبلوماسية، فالعبد لله بدون تواضع هو السفير الناصري إلى مصاطب الفلاحين ومصانع العمال ومقاهي الصياع وقعدات فتوات المدبح وجدعان الحسنية”.

الصراع مع السادات

بعد وفاة عبد الناصر حدث صراع على السلطة تزعمه عدد من كبار رجال الدولة في العهد الناصري، مثل شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمود فوزي وغيرهم، ضد الرئيس السادات.

وانتهى ذلك الصراع بإرغام هؤلاء على تقديم استقالاتهم جميعًا من مناصبهم، ولكن السادات لم يكتفِ بذلك، بل قام باعتقالهم، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة قلب نظام الحكم، وكان اسم “محمود السعدني” ضمن أسماء المشاركين في هذا الانقلاب، وتمت محاكمته أمام “محكمة الثورة”، وأُدين وسجن، وكان السبب في ذلك هو سلاطة لسانه.

وكما روى السعدني في مذكراته، تدخلت بعض الشخصيات للتوسط لدى السادات للإفراج عنه، من بينهم الرئيس الليبي معمر القذافي، لكن السادات رفض ذلك، وقال: “السعدني قد أطلق النكات عليّ وعلى أهل بيتي”، يقصد زوجته جيهان السادات، ويجب تأديبه ولن أفرط في عقابه”.

وبعد قرابة العامين، تم الإفراج عن السعدني، ولكن استمر السادات في عقابه، حيث أصدر قرارًا بفصله من مجلة “صباح الخير”، ومنعه من الكتابة ومنع ظهور اسمه في أي جريدة مصرية حتى في صفحة الوفيات.

في المنفى

“أي حياة ستكون حياتي، لقد خلقني الله صحفيًا، أشم رائحة الورد بين ماكينات الطباعة، ويجري في عروقي حبر أحمر، كنت صحفيًا، وسأبقى صحفيًا، وسأموت صحفيًا، وسأبعث يوم القيامة في كشف نقابة الصحفيين”، هكذا قال “الولد الشقي” عن نفسه، لذا فقد كان من الصعب عليه بعد أن ضاقت به كل السبل وأغلقت في وجهه الأبواب أن يظل مقيمًا في مصر، ويمتهن عمل آخر غير الصحافة، فقرر السفر إلى خارج البلاد ليشق طريقه هناك من جديد، بعيدًا عن تربص النظام به.

فكانت بيروت هي أولى محطاته وبصعوبة تمكن من الكتابة في “جريدة السفير” ولكن بأجر يقل عن راتب الصحفي المبتدئ، فاعترض على ذلك، وكان نتيجة هذا الأمر، أنه غادر بيروت وسافر إلى ليبيا، وهناك تقابل مع الرئيس الليبي معمر القذافي؛ فعرض عليه الأخير إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت إلا أن “السعدني” رفض ذلك خشية اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين.

وفي عام 1976، اتجه محمود السعدنى إلى أبوظبي، وهناك عُرض عليه تولى مسئولية المسرح المدرسي بوزارة التربية والتعليم في الإمارات العربية المتحدة، لكنه لم يرحب بالأمر.

كما عرض عليه عبيد المزروعي تولي إدارة تحرير جريدة “الفجر” الإماراتية، وقبل “السعدني” لكنه اشترط عدم التدخل في عمله، وبعد أقل من أربعة أشهر من العمل تمت مصادرة أحد أعداد جريدة “الفجر” من الأسواق بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي، ونظرًا للضغوط الإيرانية على حكومة الإمارات اضطر “السعدني” إلى مغادرة أبوظبي والتوجه إلى الكويت وفيها استطاع أن يجد لنفسه عملًا في جريدة “السياسة”، لكن الضغوط لاحقته هناك أيضًا فترك الكويت وتوجه إلى العراق.

وفي العراق، واجه الضغوط المخابراتية فتقابل مع صدام حسين نائب الرئيس العراقي، والذي نصحه بالسفر إلى لندن.

وفي لندن، أصدر محمود السعدنى بالاشتراك مع آخرين وبتمويل من حاكم الشارقة مجلة 23 يوليو، والتي تعد أول مجلة عربية تصدر في لندن، وحققت وقتها نجاحًا مدويًا في الأوساط الصحفية.

لكنه وبعد هذه السنوات عاد إلى مصر من منفاه الاختياري عام 1982، بعد اغتيال السادات، ووقتها استقبله الرئيس الأسبق مبارك شخصيًا.

أعماله

اشتهر محمود السعدني بكتابة العديد من الأعمال ـ الدسمة ـ التي لم ولن يمل أحد من قراءتها مهما مرت السنون، نظرًا لاعتماده على السخرية في معظم كتاباته، حيث جاءت مذكراته التي صدرت بعنوان “الولد الشقي”، كـمزيج إبداعي جمع بين اليوميات والمغامرات الصحفية والمآزق الشخصية، ووصف “السعدني” مذكراته هذه قائلاً: “رغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي، إلا أنني لست آسفا على شيء فلقد كانت تلك الأيام حياتي”.

ومن أعماله أيضًا: “الظرفاء” و”أمريكا يا ويكا” و”الموكوس في بلاد الفلوس”، و”المضحكون”، الذي تناول فيه عددًا من ممثلي الكوميديا في مصر، و”الطريق إلى زمش”.

أقواله

للسعدني أقوالًا لا زال البعض منا يتناقلها حتى اليوم، إذ جاءت معبرة عن ما نعانيه، ليتشابه فيها الماضي مع الحاضر، ومن هذه الأقوال:

ـ “هكذا الفقراء دائمًا، يريدون في أي مناسبة أن يؤكدوا لأنفسهم أن هناك من هم أفقر منهم، وهكذا الحقراء أيضًا يريدون أن يثبتوا ولو لأنفسهم أن هناك من هم أحقر منهم”.

ـ ” نحن نعيش في رقعة أرض واحدة، ونتكلم لغة واحدة، ونعبد إلهًا واحدًا، ومع ذلك فكل عشرة أمتار نحتاج إلى تأشيرة دخول”.

ـ “لدينا حروب محلية صنع بلدنا، القتلى فيها من أبنائنا، والأسرى فيها من أولادنا، ونحن فيها المنتصرون والمنهزمون”.

ـ “أنا من أبناء الجيل الذي سمع نداءات سائقي سيارات الأجرة في ميدان العتبة؛ نفر واحد غزة، نفر واحد القدس، نفر واحد بيروت”.

ـ “يثبت العرب دائمًا تقدمهم في التراجع إلى الخلف، حتى إنهم لا يسمحون لأحد أن يسبقهم إلى الوراء”.

ـ “لا تبحث عن محامٍ يعرف القانون، بل ابحث عن محامٍ يعرف القاضي”.

وفاته

توفي عمدة الكتابة الساخرة “محمود السعدني” عن عمر ناهز 82 عامًا، إثر إصابته بأزمة قلبية حادة، عجلت برحيله في مثل هذا اليوم.

وكان “السعدني” قد اعتزل العمل الصحفي و الحياة العامة عام 2006 بسبب المرض، لكنه قبلها كان يكتب أسبوعيًا بانتظام في مجلة “المصور” في باب بعنوان “على باب الله”، وفي صحيفة “أخبار اليوم” كان يكتب تحت عنوان “أما بعد”، حيث تطرق من خلالهما إلى قضايا سياسية واجتماعية بأسلوبه الساخر المميز.

بعد رحيله

في السادس من مايو عام2010، كتب أحمد رجب في وداع صديقه؛ “فقد شارع الصحافة ابتسامته وبهجته وضحكته العريضة.. رحل محمود السعدنى آخر ظرفاء مصر وأعظم كتابها الساخرين.. كان ساخرًا بالفطرة فحتى مع الجلادين في المعتقل كان يبدد الصرامة على وجوههم بكلماته العفوية التى لايقصد بها إضحاكًا.. سوف أفتقدك كثيرًا يا محمود وربما يكون عزائى في لقائي بكتبك التى أهديتها لي بإهداء واحد لا يتغير”.
كما كتب الشاعر بخيت بيومي، أبياتًا في رثاء الولد الشقي، جاء فيها:

فى شارع الصحافة
فى هذا المساء
علشان السعدنى
اتجمعوا البسطاء
بملاحم الفكاهة
وحروف الهجاء
وأعلنوا الحداد
تعبير عن الوفاء
وكل المضحكين
فى هذا اللقاء
نكسوا الأعلام
ولبوا النداء
وقالوا يا أفاضل
يا كل الأصدقاء
من أجل السعدنى
قد حللنا البكاء
على الولد الشقى
أزكى الأذكياء
فيلسوف زمانه
آخر العظماء
وعمدة الكلام
في دولة الظرفاء

زر الذهاب إلى الأعلى