ما رواه الناس.. “المنصة” تجربة رائدة في الصحافة المصرية المستقلّة
تخوض الصحافة المستقلّة في مصر صعوباتٍ وتحدياتٍ كبيرة، تبدأ من القيود المفروضة على تداول المعلومات، مرورًا بحرية الرأي والتعبير،، انتهاءً بجموعة كبيرة من القوانين والأكواد، ما يجعلها دائمًا تحت رقابة شديدة.
وعلى الرغم من صعوبة ما تمر به الصحافة المستقلّة في مصر، إلا أنها ما زالت قادرة على حجز مقعدها في الصف الأول من المهنية، والاحترافية، والخوض في الموضوعات والقضايا ذات الأهمية الكُبرى، تبحث عن ما وراء الخبر، وتكشف ما يحدث.
يقول جون أوين وهيدز بيردي في كتابهما “التغطية الإخبارية الدولية”، إن العمل صحفيًا مستقلًا، يُلزمك دائمًا بخوض حياتك المهنية منفردًا، مُبحرًا ضد التيار، وعليك أن تتحلّى بإيمان لا يتزعزع بذاتك؛ إذ نادرًا ما ستجد أحدًا يشاركك ذلك الإيمان.
موقع “المنصة” أحد أبرز تلك التجارِب المستقلّة، التي خاضت مشوارًا طويلًا من البحث عن الحرية؛ حرية الرأي والتعبير، وانتزاع حقه في صحافة مهنية وحرة.
يُعرّف “المنصة” نفسه بأنه يدعم الحق في المعرفة، وحرية تداول المعلومات، والكتابة التشاركية مع المواطنين والصحفيين، المصريين والعرب، من خلال أشكال صحفية متنوعة.
متى بدأت “المنصة” عملها وكيف جاءت الفكرة؟
تأسس موقع “المنصة” رسميًا في يناير 2016، ولكن صدر في نوفمبر 2015 بشكل تجريبي، والذي انطلقت فكرته من رحم غرف الأخبار التقليدية التي عمل بها الصحفيون/ات.
“أخذنا ما أعجبنا وأبدعنا حلولًا تقنية لتجاوز ما كان يضايقنا”، هكذا قالت نورا يونس رئيس تحرير المنصة في حديثها لـ”المرصد”، والتي أكدت أن الموقع اعتمد على عدد من الأفكار منها فكرة مأخوذة عن “الواشنطن بوست”، وهي أن يرشد المحرر، الصحفي، عبر الواجهة الخلفية للموقع (الباك إند)، وذلك عن طريق الملاحظات لكيفية تطوير السرد، واستكمال المصادر، وبناء القصة، وذلك على نقيض غرف الأخبار التقليدية في مصر؛ حيث يسلّم الصحفي القصة ليتولّى “الديسك” تحريرها، ثم إرسالها للنشر.
ونجح “المنصة” في خلق حالة جديدة من صحافة المواطن أو الصحافة المستقلة، والتي اعتمدت في أساسها على فتح مجالات أوسع لكتابة المقالات، بدون أن يكون للكاتب اتصال مباشر برئيس التحرير أو أيٍ من المُديرين، وطوّر الموقع وسائل تقنية لذلك؛ حيث يمكن لأي شخص إرسال موضوع أو مقال لفريق التحرير، والذي يتم تقييمه بشكل مهني وفني، وبناءً على جودته يتم الموافقة على نشره، أو تطويره، أو الرفض.
ولتسهيل إرسال الموضوعات أو المقالات، اعتمد الموقع خانة منفصلة على صفحته الرئيسية، بعنوان “كيف تكتب للمنصة”، يتيح من خلالها إمكانية تسجيل حساب، وإنشاء بروفايل، ورفع مسوّدة القصة الصحفية، واستقبال ملاحظات المحررين، ومناقشتها عبر الموقع، واستكمال العمل عليها، انتهاءً بالنشر، وذلك بشرح مُدعّم بالصور؛ تسهيلًا على الكُتّاب.
ماذا يعني شعار “ما رواه الناس”؟
“ما رواه الناس” هو الشعار الذي يرفعه موقع “المنصة”، خاصة وأنه بوابة صحفية قائمة بالأساس على المساهمات من خارج فريق العمل، والذي يعمل على استقبال مقالات أصحاب الرأي، والموضوعات الصحفية المختلفة من المُستقلين، وذلك في كل المجالات.
تقول نورا يونس إن العديد من التحقيقات التي عمل عليها الموقع، كان أبطالها في الأساس مواطنون عاديون، وليس صحفيين، ولكن لديهم بحكم موقعهم الوظيفي أو المجتمعي، اطلاع على معلومات أو وثائق مُعيّنة.
وأضافت: “هؤلاء نعمل معهم، ونقدّم لهم الدعم التحريري اللازم، حتى تكتمل قصصهم مهنيًا، ثم يتم نشرها”.
الهيكل التحريري و”الكتابة التشاركية”
على الرغم من هذا النجاح الذي حققه “المنصة”، إلا أن وراءه كتيبة صغيرة من الصحفيين؛ حيث يتكوّن الهيكل التحريري من فريق عمل صغير، عماده الأساسي رئيسة التحرير، ومستشار تحرير للأخبار، و7 محررين/ات، و3 صحفيين/ات، ويستقبل أيضًا عددًا قليلًا من المُتدرّبين بحد أقصى 3 أشهر لكلٍ منهم.
يعتمد قسم الأخبار في “المنصة” على صحفيين مُحترفين، وتُتاح الأقسام الأخرى للمواطنين الصحفيين، والصحفيين المُحترفين من الخارج، وهنا فقط القصة الجيدة تفرض نفسها، بصرف النظر عن هوية كاتبها.
السياسة التحريرية وشروط قبول القصص الصحفية
على الرغم من أن كتيبة “المنصة” ليست كبيرة، إلا أنه نجح في الخوض بكل المجالات المختلفة، سياسية، واقتصادية، ورياضية، والثقافية، والعلمية، والاجتماعية، وغير ذلك، وهو أيضًا الذي أعطى أولوية لقضايا النساء، وانحاز للعدالة الاجتماعية، ووقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
يُعرّف “المنصة” نفسه أنه موقعٌ مستقلٌ، يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وذلك على الرغم من أنه ينشر عددًا قليلًا من الموضوعات يوميًا، إلا أنه دائمًا يهتم بأن يكون نافذة لنشر ما يصعب نشره في الأماكن الأخرى، ويغوص في الملفات الشائكة، ويخلق مساحات أوسع لنفسه في جميع القضايا.
الحفاظ على الوصول للجمهور في ظل ظروف الحجب
على الرغم من تعرّضه للحجب أكثر من 13 مرة، إلا أن “المنصة” كان يعمل جاهدًا من أجل الوصول إلى قُرّائه، واعتمد على صفحاته على السوشيال ميديا.
تقول نورا يونس إن الحجب لم يؤثر بأي شكلٍ على فئات الصحفيين والكُتّاب الذين يستهدفهم الموقع، بل على العكس، فمن يبحث عن مساحة مهنية، تتمتّع بالاستقلال والحرية، يجد المنصة تفتح ذراعيها له، ويجد أنها أحد خياراته القليلة المُتاحة.
وفي ظل ظروف الحجب القاسية التي يعيشها موقع “المنصة”، ولكن ينجح كُتّابه وصحفيوه في الحصول على معلومات وردود من المصادر الرسمية، والتي تتعاون معه بشرط عدم ذكر اسمها.
بداية قصة الحجب
في يونيو 2017، كان فريق عمل موقع “المنصة” يعمل بكامل طاقته، وبشكل طبيعي، في ظل أجواء هادئة، الجميع هنا مُبتسمون، لم يتوقّعوا للحظة خلال عملهم، أن يتم حجب الموقع بشكل كامل، وفي لحظات قليلة أصبح غير مُتاحًا على الـWEB، وصعب الوصول إليه، إلا عن طريق بعض الحيّل.
كانت هذه المرة الأولى التي يتم فيها حجب الموقع، والذي شهد بعد ذلك التاريخ حالات أخرى متتالية من ظروف الحجب المختلفة، والتي تعامل معها بكل مهنية وحرفية، وذلك في محاولة للحفاظ على استمراره، وأرشيفه المنشور بالفعل.
جاء الحجب لأول مرة على موقع “المنصة” في ظل وتيرة من الحجب التي طالت عشرات المواقع الإلكترونية في مصر، في ذلك التوقيت، والذي كان لديه خطط بديلة نفّذها بهدوء، وانتقل إلى “دومين Domain آخر، وهو عنوان الموقع الإلكتروني على شبكة الإنترنت.
مع تطوّر آلية الحجب، أصبح الوضع شديد القسوة على “المنصة”، وفي أحد المرات انتقل للعمل بـ”دومين” بديل، وهو الذي تم حجبه بعد نحو 30 دقيقة فقط، حينها توجّه القائمون على الموقع عبر القنوات الرسمية المُتاحة؛ من أجل استعادة الموقع بعد حجبه، والحصول على التراخيص اللازمة وفقًا للقانون، فخاطبوا المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ونقابة الصحفيين، والمجلس القومي لحقوق الإنسان.
“كل حجب تعرّضت له المنصة، كان بعد نشر مادة صحفية مهنية، ولكن جهة ما لم يتسع صدرها لنشرها”، هكذا أكدت نورا يونس رئيس التحرير، والتي لفتت السبب وراء آخر حجب، والذي جاء بعد نشر مقال للكاتب والسياسي أحمد الطنطاوي حول مشروع قانون سبق وتقدّم به إلى مجلس النواب، عن آلية عزل ومحاكمة رئيس الجمهورية.
معوقات الحصول على تراخيص
تقدّم “المنصة” للحصول على الترخيص من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، في أكتوبر 2018، ومرة أخرى في أبريل 2023، وفي المرتين لم يتم البت في الطلب.
وعبّرت نورا يونس عن أسفها من هذا الوضع، ولكن لحين الحصول على رد، فإن موقف الموقع الحالي قانوني -بحد وصفها- وأنهم مستمرّون في رسالتهم، طالما مازالوا قادرين على ذلك.
“هي ليست تهمة متكررة”، هكذا قالت “نورا”، التي أكدت أن الموقع تعرّض مرة واحدة فقط لمُداهمة أمنية في 2020، ولكن مع مرور السنوات دون تحرّك القضية، سقطت هذه تهمة إدارة موقع بدون ترخيص.
رؤية “المنصة” في حال الصحافة بمصر
في ظل التطوّر الهائل والسريع الذي تشهده الوسائل الصحفية المختلفة، واندماجها مع الوسائل التكنولوجيا، ترى نورا يونس أن الذكاء الاصطناعي لا يُشكّل تهديدًا للصحافة الحقيقية، بل يمكن أن يكون أداةً داعمة لها.
لجأ “المنصة” في هذا الإطار إلى بعض تلك الأدوات التكنولوجية في تصميم الصور التعبيرية، ما وفر عليهم بعضًا من الوقت، بالإضافة إلى أدوات التحقق من المعلومات، وهذا ما يؤكد إيمانه بأن التطوّر التكنولوجي بوسعه خدمة العمل الصحفي إن أُحسن استخدامه.
التفاعل مع القُرّاء والفئة المُستهدفة
لا يبحث “المنصة” عن الكم، ولكن هو دائم البحث عن الكيف، وجودة المواد الصحفية المنشورة، وبالطبع يهتم بتفاعل القُرّاء، وقدرتهم على الوصول إلى القصص الصحفية؛ حيث يستهدف الموقع المصريين بالداخل والخارج، خاصة الطبقة المتوسطة، ويولّي اهتمامًا خاصًا بالفئات المُهمّشة، والأقلّيات.
طموح “المنصة”
على الرغم من مروره بظروف حجب قاسية، إلا أن “المنصة” ظلّ دائمًا كبير الطموح، ويسعى إلى التوسّع في إنتاج التحقيقات والبرامج المصوّرة، وأن يصل إلى قاعدة أكبر من الجمهور.
هدفه الأول هو مواصلة ما بدأه في 2016، من تقديم صحافة مهنية وتقدّمية، وأن تظلّ مساحة التعبير مفتوحة؛ فالجميع لديه الحق في صحافة حرة، المواطن والمجتمع قبل الصحفيين.