محمود أبو الفتح.. مؤسس “المصري” وأول نقيب للصحفيين (بروفايل)
هجر المحاماة من أجل الصحافة، عُرف بنزاهته وأسلوبه الرصين في الكتابة، علا نجمه في سماء صاحبة الجلالة لسنوات وسنوات، صاحب انفرادات صحفية قوية، وجدت صدى واسع عند نشرها، وطنيًا من الطراز الأول، لاقي إجحافًا في أيامه الأخيرة، فلم يُدفن في مصر بأوامر من “عبد الناصر”، ولم تجرؤ الصحف على نشر نعي وفاته باستثناء صحيفة واحدة كتبت عنه سطر مقتضب في إحدى صفحاتها الداخلية.. إنه الصحفي الكبير محمود أبو الفتح، مؤسس جريدة “المصري” وأول نقيب للصحفيين تم انتخابه بعد إنشاء النقابة، والذي تمر اليوم 15 أغسطس 2020، ذكرى وفاته الـ62.
البداية
اسمه محمود أحمد أبو الفتح، ولد عام 1893، وتخرج في كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول، وعمل في بداية حياته مراسلًا صحفيًا لجريدة الأهالي التي كان يمتلكها الصحفي الكبير عبد القادر حمزة، وكانت تصدر من الإسكندرية منذ عام 1910، والذي أعجب بنبوغه المبكر ودأبه على الصحافة، فكلفه بمتابعة المفاوضات التى يجريها وفد مصر برئاسة سعد زغلول بلندن، عقب ثورة 1919.
وعلى عكس صحف هذا العصر، التى كانت تنقل عن وكالات الأنباء أو من بعض المراسلين الأجانب، فقد انفردت “الأهالي” بنشر أخبار هذه المفاوضات من قلب الحدث، بعد أن سافر أبو الفتح إلى لندن وقام بالتغطية الكاملة للمفاوضات مما دعا سعد زغلول إلى ضمه كمساعد في الوفد المصري.
طموح صحفي
كغيره من جورنالجية هذا الزمان، كان محمود أبو الفتح يطمح في أن يثبت أقدامه في بلاط صاحبة الجلالة، وجاءته الفرصة حينما أُنشئت جريدة السياسة فى عام 1922، والتي سعى للعمل بها مندوبًا في بداية صدورها، ومن أجل ذلك حرص على الظهور بكامل هيئته واحترامه فارتدى الملابس الرسمية، مما دفع الصحف الأجنبية أن تطلق عليه لقب أشيك صحفي في مصر، ولم تقف حدود الأناقة بأبو الفتح عند هذا الحد لكنه امتاز بأسلوبه الأنيق أيضًا وبالكتابة المنضبطة وبالتصرفات التي لا تليق إلا بصاحب مقام رفيع مثله.
وحدث ذات مرة أن وجد أبو الفتح أحد اللوردات الإنجليز الذين كانوا يحظون بمكانة رفيعة فى مصر يستقل قطارًا فخمًا من محطة مصر متجهًا إلى أسوان، فما كان منه إلا أن ركب هو الآخر نفس القطار ولم يكن يحمل من الاموال ما يكفيه واضطر بعد وصوله لأسوان إلى الاستدانة لتغطية نفقات إقامته على نفس مستوى اللورد، واستطاع بمهارة فائقة أن يحصل على سبقٍ صحفي يكاد يصل إلى العالمية، وعاد فرحًا بما أنجز وقام بتقديم كشف حساب المصروفات إلى المدير المالي للجريدة، الذي استعجب الأمر فسأله عن من كلفه للقيام بهذه المهمة، في استنكار صريح منه على ما قام به أبو الفتح، مما اضطر الأخير إلى تقديم استقالته على الفور.
الأهرام
كانت “الأهرام” هي المحطة الثالثة في مسيرة أبو الفتح الصحفية، بعد أن عرض عليه جبرائيل تكلا صاحب الأهرام، العمل فيها مقابل 4 جنيهات شهريًا، واستطاع أبو الفتح أن يحقق فيها أكبر نصر صحفي حينها يمكن أن يحصل عليه صحفي ناشئ مثله، إذ كان من بين 3 صحفيين شاركوا فى أول رحلة جوية للمنطاد “زيبلن” فى وقت كان الطيران عاديًا وليس بالمنطاد الذى لم يكن مألوفًا ليس في مصر فقط بل والعالم كله.
وقد انفردت الأهرام بنشر تغطيته الصحفية لهذا الحدث، ونقلتها على لسانه كل وكالات الأنباء التي تعاقدت معه بعد عودته ليكون مراسلًا لهًا أيضا، وبعد أسابيع قليلة جاء انفراده الصحفي التالي وهو تغطيته لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، في شهر نوفمبر عام 1922، على يد المستكشف الإنجليزي هوارد كارتر، وإعلانه عن هذا الحدث الهام من داخل فندق ونتر بالاس، بالأقصر، وانفراد الأهرام عن طريقه بنشر هذا الخبر وتفاصيله، والذي اعتبر من أهم الخبطات الصحفية في ذلك الوقت، فشهدت هذه المرحلة تألقه الصحفي ليس لأسلوبه الجذاب في الكتابة لكن لانفرادته التي كان يتابعها من في الداخل والخارج.
ومع ذلك فقد وقع الخلاف بين أبو الفتح، وآل تقلا، أصحاب” الأهرام”، نتيجة لموقف الجريدة ذاتها تجاه بعض الأحداث والقضايا في هذا الوقت، فالتزمت سياستها التحريرية بالحياد تارة والانحياز تارة أخرى.
اشتدت وطأة الخلاف برحيل داود بركات، رئيس تحرير الأهرام عام 1933، وجاءت الفرصة سانحة أمام محمود أبو الفتح، والذي نال شهرة واسعة وقتها في أن يكون خليفته في هذا المنصب، فكفاءته وتميزه في العمل يشهدان له بذلك، لكن أصحاب الجريدة العريقة أبوّا أن يتولي “مصري” قيادة مؤسسة كبيرة مثل الأهرام، فأسرعوا بتعيين أنطوان الجميل رئيسًا للتحرير، من هنا بدأ أبو الفتح يفكر في أن ينشئ جريدة المصري حتى تكون منافسًا قويًا للأهرام، وعرض الأمر على محمد التابعي، وكريم ثابت، اللذان رحبا بالفكرة وشرعا في تنفيذها بعد تقديمهما الاستقالة.
واجهت الجريدة الناشئة في بدايتها عسرة مالية كادت أن تتسبب في إجهاض الحلم باستكمالها، ما دفع الشيخ أحمد أبو الفتح، والد محمود أبو الفتح إلى بيع فدانين في بلدته الشهداء بمحافظة المنوفية، وكان ثمنهما حصة ابنه محمود في انشاء الجريدة، ودفع التابعي وكريم ثابت مبلغ ألفي جنيه، ليصدر العدد الأول من “المصري” عام 1936، برأس مال يقدر بثلاثة آلاف جنيه.
“المصري”
مع توالي إصدارات الجريدة الوليدة، اعترضتها عثرات وتحديات كبيرة، لم يصمد الفرسان الثلاثة أمامها فيما عدا أبو الفتح الذى آثر استكمال الطريق وحده بعد أن تخلى كريم ثابت عن العمل في الجريدة وعمل مستشارًا صحفيًا للملك فاروق، وباع حصته لأبو الفتح أما محمد التابعي فباع حصته في الجريدة لحزب الوفد وتفرغ لمجلته الأسبوعية آخر ساعة، وقد اشترى أبو الفتح فيما بعد حصة الوفد التي أخذها من التابعي وبذلك صار أبو الفتح هو المالك الوحيد للجريدة.
واهتم أبو الفتح، في جريدته بالشكل الصحفي الجذاب والبُعد عن الأسلوب الأدبي في الكتابة، ولأجل ذلك تبنى أسلوبًا جديدًا في الصحافة اليومية فكانت الأخبار تأتي في المقدمة ثم الرأي والرأي الآخر بأقلام المفكرين والسياسيين الذين استكتبهم لنشر مقالاتهم بأسلوب سهل وبسيط.
وفي إفتتاحية العدد الأول بعد امتلاكه للجريدة، كتب يقول:”هذا هو عصر الاختزال والسرعة والوصول إلى الهدف من أقصر طريق عصر الأخبار ثم الأخبار ثم الأخبار ودائمًا الأخبار، فلن تجدوا في المصري صفحة كاملة عن أيهما أفضل البحتري أم أبو تمام كلاهما عندنا رجل فاضل نرضى أن نقرأ على روحه الفاتحة ولكننا لن نقرأ له سبعة أعمدة”.
ومع تتابع الأحداث على الساحة السياسية في تلك الفترة، وقيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 والتى ساعدت محمود أبو الفتح على أن يثبت ذاته فيصبح ثالث صحفي فى العالم يُسمح له بالدخول إلى خط “ماجينو” الشهير فى فرنسا، مكّنه ذلك من القيام بتغطية الأحداث هناك، مما وضع “المصري” على قمة الهرم الصحفي، وأصبحت تقف ندًا للأهرام من خلال استحواذها على نشر أدق التفاصيل والتغطية الكاملة لما يحدث، فكانت بذلك هي الجريدة المفضلة عند معظم قراء هذا الزمان، تنفذ أعدادها سريعًا فور طباعتها، ودفع هذا النجاح محمود أبو الفتح إلى أن يقوم بشراء شركة الإعلانات الشرقية من أصحابها اليهود، وكانت هذه الشركة تصدر عدة صحف باللغتين الإنجليزية والفرنسية منها: الإجيبشيان جازيت، والإجيبشيان ميل.
حلم النقابة
لا يعرف الصحفيون أن قرار إنشاء نقابة لهم لم يكن بالأمر اليسير، ولم يكن ليتحقق الحلم سوى بجهود عدد من الصحفيين المخلصين الذين دأبوا طوال سنوات طويلة على أن ينفذوا مشروعهم الخاص رغم المعوقات الكبيرة التى لاقوها في طريقهم، وكان من بين هؤلاء محمود أبو الفتح والذي يرجع إليه الفضل في حل مشكلة إيجاد مقر مناسب لاجتماع الأعضاء مع بعضهم بعد فوزه في أول انتخابات تجرى في تاريخ الصحافة المصرية، فكان أول نقيب للصحفيين في مصر في الفترة من ديسمبر 1941م حتى ديسمبر عام 1942، فوفقًا لما ذكره الكاتب الراحل جميل عارف في كتابه “أنا وبارونات الصحافة” والذي سرد من خلاله تاريخ إنشاء نقابة الصحفيين، أن محمود أبو الفتح قد تنازل عن شقة خاصة كان يستأجرها في عمارة الإيموبيليا حتى تصبح مقرًا للنقابة، وكانت تتكون من غرفة واحدة وصالة، ولم يستمر ذلك سوى عامين فقط قبل أن ينتقل مقر النقابة لمكان آخر.
وحدث ذات مرة أن اجتمع مجلس النقابة بنفس الأسلوب المتبع الذي كانت الحكومة تفرض فيه الرقابة على الصحف، مما دعا محمود أبو الفتح للوقوف مدافعًا وبشدة وهو يرفض أي رقابة للحكومة على الصحف، ولم ينتهى الاجتماع إلا وجميع الأعضاء يقفون في صفه.
وقد بذل أبو الفتح، مساعيه لتحقيق الكثير من مطالب الصحفيين مستغلًا علاقاته ومركزه كأحد رجال الحكومة فى الصحافة والبرلمان. ففي عام 1943 استطاع محمود أبو الفتح أن يحقق مطلبًا هامًا لدى القصر الملكي وهو الاعتراف بالصحفيين كفئة ذات مقام خاص فى الرسميات الملكية بالتمثيل شأنها شأن المهن الأخرى، وسعى لدى الحكومة عندما كان عضوًا في مجلس النواب لتخصيص أرض لها في مقرها الحالى في شارع عبد الخالق ثروت، حيث وضع هو بنفسه حجر الأساس للمبني في أول يونيو عام 1947، قبل أن يتم افتتاحها رسميًا في 31 مارس عام 1949 في عهد فكرى أباظة.
وتقديرًا من الصحفيين له تم اختياره نقيبًا لدورتين متتاليتين، وعند افتتاح مبنى النقابة كان محمود أبوالفتح قد استنفد مرات انتخابه، فاختار الصحفيون أخاه حسين أبوالفتح نقيبًا بالتزكية.
حياته الشخصية
كان أبو الفتح معروفًا بأنه أشهر عازب في الصحافة المصرية وعندما سُئل عن سبب عدم زواجه قال: “عملي في الليل والزواج لا يتفقان حيث يجب أن يكرس الزوج أكبر وقت ممكن لزوجته وحياته الأسرية، ونحن معشر الصحفيين لا نصلح للزواج”.
وطنيته
كان محمود أبو الفتح، من رجالات الحياة الحزبية في مصر وعضوًا بمجلس الشيوخ، وكان في مطلع شبابه يمتلك كم هائل من المشاعر الوطنية المتدفقة، ففي مرحلة الدراسة الثانوية كتب موضوعًا باللغة الإنجليزية في مادة الإنشاء ينم عن شجاعة سياسية مبكرة ونضج فكري، وطالب صراحة ـ من خلال موضوع التعبير ـ بالدستور والاستقلال، فما كان من المشرف الإنجليزي وناظر المدرسة الإنجليزي أيضًا أن قررا إعطاء هذا الموضوع صفرًا ورسوب الطالب في اللغة الإنجليزية والتي كان يجيدها إجادة تامة، عقابا له.
وخلال العام الدراسي نفسه، وفي زيارة تقليدية لمستر دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف العمومية طالب محمود أبو الفتح بمقابلته كي يشكو إليه الظلم الذي تعرض له، لكن قوبل طلبه بالرفض، فما كان من أبو الفتح إلا أن هتف ضده باللغة الإنجليزية في حوش المدرسة ليتم فصله بعدها نهائيًا من المدارس واضطر إلى أن يحصل علي شهادة البكالوريا بنظام المنازل.
وبعد حصوله علي هذه الشهادة التحق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، ونتيجة لاندماجه في العمل الوطني والسياسي وتأييده لحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول باشا تم فصله من الكلية عدة مرات ولم يسمح له بالعودة إلا بعد أخذ تعهد من والده الشيخ أحمد أبو الفتح أستاذ الشريعة الإسلامية في الكلية ذاتها بإبعاد ابنه عن العمل السياسي داخل الجامعة، ولولا أن أبو الفتح كان يتصف بالذكاء وسرعة البديهة لم يكن قد استطاع أن يجتاز سنوات دراسته بالكلية لكثرة فصله منها وعودته.
وفي فبراير عام 1919 قبيل إندلاع الثورة بشهر فقط، ونظرًا لإتقانه اللغتين الإنجليزية والفرنسية، اقترح أبو الفتح، على سعد زغلول أن يترجم كل ما ينشر عن مصر والقضية المصرية في الصحف الأجنبية داخل وخارج مصر مع الرد على ما فيها من أكاذيب وإرسال الردود إلى نفس الصحف بالخارج باللغتين الإنجليزية والفرنسية مع نشر هذه الأكاذيب والرد عليها في جريدة الأهرام أيضًا، فتحمس سعد زغلول للاقتراح وطالبه بتنفيذه على الفور، وفي نفس الشهر انفرد محمود أبو الفتح بإجراء حديث مطول مع اللورد أدموند اللنبي، المندوب السامي البريطاني في مصر ما بين عام 1919 وعام 1925، أنكر فيه اللنبي كل حقوق مصر، وقد أثار هذا الحديث ردود فعل غاضبة داخل وخارج مصر.
وعلى صفحات “المصري” في ارهاصات ما قبل ثورة يوليو عام 1952، التزم محمود أبو الفتح بخط ثابت في تناول القضايا السياسية بجرأة، ففي مقالة نشرها على صفحات المصري بتاريخ 16 يوليو عام 1949، تحت عنوان “يا زعماء مصر اقرأوا الكتابة علي الحائط”، حذر فيها من مؤامرة بريطانية ضد مصر لأن الأمير عبد الله الوصي علي عرش العراق والملك عبد الله ملك الأردن وأمير ليبيا، مجتمعون في لندن من أجل إيقاف الحركة الوطنية المتفجرة في مصر، وكانت جريدة المصري قد قامت في هذه الأثناء بحملة للإفراج عن المعتقلين السياسيين وكان أغلبهم من الشيوعيين والآخرون من الإخوان المسلمين والوفديين، ورفعت الجريدة شعار (الجريمة السياسية في نظر كل السلطات في كل العالم ليست إلا رأيًا وطنيًا قد يكون مصحوبًا بشيء من التطرف والمغالاة ولكنه ليس قط خيانة للوطن بل هو من أجل الوطن).
يوليو
لاشك أن جريدة المصري لصاحبها محمود أبو الفتح، قد لعبت دورًا كبيرًا في قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، حيث ساهمت خلال فترة إنتخابات نادي ضباط الجيش، والتي فاز فيها اللواء محمد نجيب، قائد سلاح المشاة أمام اللواء حسين سري عامر قائد قوات حرس الحدود ورجل القصر.
ومما يُذكر أن أحمد أبو الفتح وهو الشقيق الأصغر لمحمود أبو الفتح قد أنقذ رقاب الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو، حينما أخطر شقيق زوجة الدكتور ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار، بأن أحمد نجيب الهلالي، قد تولى تشكيل الحكومة الجديدة، وأنه من المقرر أن وزير الحربية في هذه الوزارة سيكون اللواء حسين سري عامر، الذي يعرف الضباط الأحرار جيدًا، وبديهيًا أن تكون أولى مهامه تصفية هذه الحركة التي بدأت تنتشر في الجيش، فكان من نتيجة ذلك التحذير هو التبكير بقيام حركة الضباط الأحرار في نفس الليلة، عقب هذه المكالمة التليفونية مباشرة، بعد أن كان مقررًا لها يوم 26 يوليو.
ولما قامت الثورة، كان محمود أبو الفتح وقتها خارج البلاد، لكنه كان يتابع التطورات أولًا بأول، ويزود جريدته بكل ما هو جديد، وبعد عودته في مارس عام 1953، أصر على أن تدعو نقابة الصحفيين جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة في حفل عشاء ، ووقف ليلتها يلقي خطابًا يؤيد فيه حركة الضباط الأحرار، وعند انصرافه همس رئيس مجلس قيادة الثورة اللواء محمد نجيب، في أذن أبو الفتح، يبلغه بأنه قد حدد موعدًا للقاءه فى العاشرة من صباح اليوم التالي وطلب إبلاغه بالأمر. وذهب محمود أبو الفتح فى الموعد المحدد، وفيه جرى الاتفاق على مؤازرة العهد الجديد بعمل حملة صحفية، وطلب منه ألا يذيع الخبر إلا بعد عودته من رحلة بالخارج استمرت شهرًا كاملًا قضاها محمود أبو الفتح لتدبير ما يحتاجه المشروع لكى يخرج إلى حيز التنفيذ.
وفى وقت غياب أبو الفتح، خارج مصر حدث ما يشبه الإنقلاب عليه من قبل عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفي مقدمتهم “عبد الناصر”، فتوقفت جريدة المصري عن الصدور، وتمت مصادرة كل ممتلكات محمود أبو الفتح وأسرته حتي فيلا والده في شارع أحمد حشمت بالزمالك والمجاورة لمنزل رئيس المخابرات صلاح سالم، وحولت إلى مدرسة إعدادية. وكان ذلك بسبب موقف أبو الفتح وجريدته المؤيد للديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته أثناء أزمة مارس عام 1954.
وقد حوكم محمود أبو الفتح وشقيقه حسين أبو الفتح أمام محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح عبد اللطيف البغدادي وعضوية البكباشي أنور السادات وقائد الأسراب حسن إبراهيم وكانت تهمة الأخوين أنهما أتيا أفعالًا ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم، كما اتُهم محمود أبو الفتح بأنه في غضون عام 1954م وما قبلها قام بدعايات واتصالات في الخارج ضد نظام الحكم القائم بقصد تقويض النشاط القومي للبلاد وأغرى موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة على المساهمة في إتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية، وصدر الحكم بسجن محمود أبو الفتح الذي كان متغيبًا بأوروبا مدة 10 سنوات ومصادرة 358 ألف جنيه من أمواله ومعاقبة حسين أبو الفتح بالحبس مدة 15 سنة مع إيقاف التنفيذ وطبقًا لهذا الحكم عطلت جريدة المصري منذ يوم 5 مايو عام 1954، ونزعت عنه الجنسية المصرية بتهمة تقويض الأمن العام.
كان “أبو الفتح” فى لبنان، عندما علم بنزع الجنسية المصرية عنه، فقرر السفر إلى سويسرا قبل معرفة السلطات السويسرية بهذا النبأ، واستطاع أن يدخل حدودها، وسافر “أحمد أبو الفتح” شقيق محمود أبو الفتح لبيروت لملاقاة أخيه، ولكنه اكتشف أنه سافر لسويسرا، فأرسل له برقية تفيد لزوم مقابلته فى إيطاليا، وعند خروجه من سويسرا بجواز مزور دققت السلطات السويسرية فيه وعرفت بما فيه فانخرط أبو الفتح فى نوبة بكاء شديدة بعد أن تيقن أنه أصبح شريدًا، وبفضل علاقات أبو الفتح بالصحفيين العرب قرر “زهير عسيران” الكاتب الصحفي اللبناني مساعدته، فاتصل بوزير خارجية العراق في ذلك الوقت “فاضل الجمالي”، وشرح له الموقف فتأثر جدًا لما حدث له، وأنقذه مجلس الوزراء العراقي ومنحه الجنسية العراقية تقديرًا لخدماته فى سبيل العروبة.
ظل “أبو الفتح” عراقيًا يحمل جواز السفر العراقى إلى أن قامت الثورة العراقية بقيادة “عبد الكريم قاسم” وكان أول قرار لها فى أول اجتماع لمجلس الوزراء هو نزع الجنسية عن أبو الفتح.
وفاته
تدهورت صحة الصحفي الكبير محمود أبو الفتح بسبب حزنه لما وصل إليه حيث بات يعيش مشردًا بلا وطن، وتوفي فى أحد مستشفيات ألمانيا، في 15 أغسطس عام 1958، عن عمر يناهز الـ 65 عاما ولم تنعه سوى صحيفة واحدة بسطر مختصر، جاء فيه: ” انتقل إلى رحمة الله الصحفى محمود أبو الفتح”.
وكانت وصيته أن يدفن فى تراب مصر، ولكن عبد الناصر رفض استقبال جثمانه، خشية وقوع أي صدامات وقت تشييع الجنازة، وكان الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، على خلاف دائم مع عبد الناصر، وعندما علم بوفاة أبو الفتح، ورفض السلطات المصرية آنذاك استقبال جثمانه، أمر بدفن أبو الفتح في تونس وأرسل طائرة خاصة لتحمل جثمانه في موكب جنائزي مهيب تقدمه بورقيبة، بنفسه ومعه وزراؤه وعدد من كبار المسؤولين التونسين والعرب.
السادات
بعد أن تولى الرئيس أنور السادات الحكم وفى أول وآخر عيد للصحافة، قلد كبار الصحفيين أوسمة الدولة ومعظمهم كانوا على خلاف مع عبد الناصر خلال فترة حكمه، بما فيهم محمود أبو الفتح الذي منحه ـ بعد وفاته ـ أعلى وسام في الدولة وهو (وسام النيل)، تقديرًا لجهوده وكفاحه الوطنى على مدار سنوات طويلة. ويقال بأن السادات في بداية حكمه أمر بعودة رفات أبو الفتح إلى مصر ليدفن فيها.