“هنا القاهرة”.. 90 عامًا من الإذاعة المصرية
في الخامسة والنصف مساء يوم 31 مايو 1934، انطلق أثير الإذاعة المصرية لأول مرة، صانعًا التاريخ، بجملة المذيع أحمد سالم الشهيرة.. “هنا القاهرة”، التي ظلّت طوال تلك السنوات عنوانًا مُميّزًا لها.
“هنا القاهرة”.. الجملة التي ظلّ يطلقها الإذاعيون عبر أثر الإذاع المصرية، لنحو 90 عامًا، بنفس الحماس والقوة، تُطلق شعاعًا من حُب الوطن، حاملةً مئات ل آلاف الذكريات التي مرّت على مصر منذ ذلك التاريخ، وتم اعتمادها كعبارة رسمية لانطلاق الإذاعات المصرية كل يوم.
يستيقظ المصريون كل صباح، طوال 90 عامًا، على لمسات هادئة من أحاديث الإذاعة المصرية، التي تربّت عليها أجيال كثيرة، وحفرت في ذاكرتهم وقلوبهم برامج إذاعة القرآن الكريم، وإذاعة الشباب، والأغاني، والشرق الأوسط، وغيرها، حتى أصبحت جزءًا رئيسيًا من الروتين اليومي لهم.
🎤 بداية انطلاق الإذاعة المصرية
كانت أول إذاعة بالاتفاق مع شركة “ماركوني التلغرافية اللاسلكية”؛ حيث كان عدد المحطات 4 في بداية الأمر، وذلك في عام 1932، ثم أصبحت تابعة للدولة، وتمصّرت عام 1947.
تم تسلم الإذاعة المصرية من شركة “ماركوني” في 27 مارس1947، وأصبح الجانبان البرامجي والإداري في يد المصريين,، وأُنشئت في 18 مايو1947 إدارة الإذاعة اللاسلكية المصرية,، وتشكّل مجلس إدارة للإذاعة، وأصبح للإذاعة ميزانيتها المستقلّة، وتسلّمت الحكومة المصرية محطة الإذاعة، وأصبحت مصرية شكلًا ومضمونًا، منذ31 مايو 1946، وشهد عام 1948 انتقال الإذاعة من مقرها في شارع علوي، إلى شارع الشريفين، وشهدت هذه المرحلة أيضًا صدور تشريع للإذاعة، وهو القانون رقم98 لسنة 1949، وأصبحت بمقتضاه الإذاعة هيئة مستقلّة ذات شخصية معنوية، تلحق برئاسة مجلس الوزراء، وتُسمى “الإذاعة المصرية”، ثم انتقلت عام 1960 إلى مبنى ماسبيرو، مع مبنى التلفزيون على كورنيش النيل بوسط البلد.
🎤 أول انطلاق لأثير الإذاعة
بآياتٍ من الذِكر الحكيم، بصوت الشيخ محمد رفعت، بدأ أثير الإذاعة المصرية في هذا اليوم، وتلا ذلك انطلاق صوت الآنسة أم كلثوم، التي تقاضت في ذلك الوقت 25 جنيهًا نظير إحيائها للافتتاح
كما غنّى أيضًا في ذلك اليوم، المطرب صالح عبدالحي، ثم مطرب الملوك والأمراء محمد عبدالوهاب، وحسين شوقي أفندي، الذي ألقى قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وألقى الشاعر علي بك الجارم بصوته قصيدة تحية لملك البلاد فؤاد الأول، ملك مصر والسودان.
وشمل برنامج افتتاح الإذاعة في اليوم الأول، ولمونولوجست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامي الشوا، ومع أحمد سالم كان المذيع محمد فتحي الذي عُرف بلقب “كروان الإذاعة”.
عرفت مصر الإذاعة في مرحلة مبكرة عن الدول العربية المختلفة؛ فقد كان أول ظهور لها عام 1925، وكانت على شكل إذاعات أهلية يملكها أفراد، وتعتمد في تمويلها على الإعلانات، حتى انطلقت الإذاعة المصرية، التي تُعد من أول الإذاعات على مستوى العالم، والأولى في المنطقة العربية، والشرق الأوسط، وأفريقيا.
وقامت الإذاعة المصرية بدور وطني، بباقة من عمالقة الفكر في كل المجالات، الذين شاركوا بعد ذلك في تأسيس إذاعات دوّل عربية وإسلامية مختلفة، وكان لهم بصمة قوية فيها.
وفي بداية الثمانينات، شهدت الإذاعة طفرة كُبرى، تمثّلت في إدخال نظام الشبكات الإذاعية، التي ضمّت 9 شبكات: “البرنامج العام، صوت العرب، الشرق الأوسط، القرآن الكريم ، الإذاعات الموجّهة، الشباب والرياضة، الإذاعة الإقليمية، الشبكة الثقافية، الإذاعات المتخصصة”، بالإضافة إلى العديد من الإذاعات الخاصة التي تُبث برامجها عبر القمر الصناعي المصري نايل سات، وموجات “إيه أم” و”إف أم”.
🎤 أول رئيس للإذاعة المصرية
تولّى سعيد باشا لطفي أول رئيس للإذاعة المصرية، والذي لُقّب بـ”أبو الإذاعة المصرية”، الذي درس في جامعة أكسفورد، وحصل منها على درجة البكالوريوس.
أصبح “سعيد” أول رئيسٍ للإذاعة المصرية بعد افتتاحها عام 1934، واستمرّ في منصبه منذ 31 مايو 1934، حتى 22 ديسمبر 1947، خلفه بعد ذلك محمد بك قاسم، والذي استمرّ رئيسًا للإذاعة المصرية في الفترة ما بين 22 ديسمبر 1947 حتى 15 أغسطس 1950.
تذكر المصادر أن محمد سعيد باشا لطفي بدأ حياته فلاحًا، يباشر بالرعاية والاهتمام الزراعات في أراضيه، وأراضي أسرته، فاكتسب من الزراعة صفة الصبر، ثم تدرّج في السلك الإداري بوزارة الداخلية، حتى أصبح مديرًا للجيزة والقليوبية، فاكتسب الضبط، وهذا ما يفسّر إحكام إدارته لهذا الصرح العظيم.
اعتمد “سعيد باشا” في تجربة رئاسة الإذاعة، على عِدة محاور، منها اختيار المتحدّثين في الإذاعة من علماء مصر وأدباءها، واختيار قرّاء القرآن الجدد، واعتماد المُذيعين الجدد.
🎤 المرأة في الإذاعة المصرية
أدركت الإذاعة المصرية أهمية المرأة منذ نشأتها، وتوّلت 5 سيدات رئاستها، في أوقات صعبة مرّت بها مصر، أبرزهم الإذاعية الجليلة صفية المهندس، تلميذة وزوجة الإذاعي الكبير محمد محمود شعبان، أو “بابا شارو”، الذي أٌذيعت أحاديثه للأطفال على مدار 20 عامًا، وقدّم “حكايات ألف ليلة وليلة”، وهو أول من أدخل الأوبريتات والصور الغنائية في الإذاعة، وكان مسؤولًا عن البرامج الثقافية في الإذاعة، وقاد الإذاعة المصرية في حرب 1973، ونجح في إعادة الثقة بالإذاعة المصرية في وقت شديد الصعوبة، وأدار المعركة الإعلامية باقتدار.
الإذاعية القديرة صفية المهندس، مواليد شهر ديسمبر عام 1922، وهي أول امرأة تجلس في استديو الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، في أربعينيات القرن الماضي، وهي أول من قدّمت وكتبت برامج “ركن المرأة “، وهي أول سيدة تتولّى منصب رئيس الإذاعة، في الفترة من العام “1975ـ 1982″، وهي التي حملت لقب “أم الإذاعيين” عن جدارة واستحقاق.
تقول الهيئة الوطنية للإعلام على موقعها الرسمي، إن القيادة السياسية بمصر كانت تثق في قدرات “صفية”، واختارتها لتتولّى منصب رئيس الإذاعة في فترة حاسمة ودقيقة، بعد حرب أكتوبر، في فترة التحوّل من “الاشتراكية التعاونية” إلى “الانفتاح الاقتصادي”، وكأن الأقدار اختارت “صفية المهندس”، لتدير معارك “المفاصل التاريخية” وحدها، أو بالشراكة مع زوجها ومعلّمها محمد محمود شعبان “بابا شارو”، واستطاعا معًا العبور بالإذاعة إلى بر الأمان، ووثقت الجماهير فيها مرة ثانية، بعد معركة العبور المجيد.
وأضافت الهيئة، أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات اُغتيل في أكتوبر 1981، وكان على الإذاعة أن تدير الأزمة بوعي وحرص، وبالفعل نجحت “صفية “ في المهمة، وتولّى “مبارك” الحكم، وقضت معه فترة قصيرة، وغادرت موقعها الإداري، ولكنها لم تغادرالميكروفون عشقها الأكبر، وظلّت تقدم فقرة الافتتاحية ضمن برنامج “إلى ربات البيوت”، وطوال السنوات التي قضتها داخل أروقة الإذاعة، نالت الكثير من الجوائز والتكريم.
🎤 الإذاعة المصرية مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية
نٌقلت تبعية الإذاعة المصرية من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الإرشاد القومي في 10 نوفمبر1952، وفي15 فبراير1958، صدر القرار الجمهوري رقم183 لسنة1958 باعتبار الإذاعة المصرية مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية، وإلحاقها برئاسة الجمهورية، وأصبحت عام1961 من المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، وسُميت “المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون”، وفي عام1962 تم ضمها إلى وزارة الإرشاد القومي، وصدر القرار الجمهوري رقم 1 لسنة 1971 بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وشهدت تلك الفترة تطورًا كبيرًا؛ حيث زادت ساعات الإرسال، وأصبحت برامج الإذاعة بـ34 لغة، وأُنشئت الإذاعات الإقليمية والمتخصصة.
وصدر القانون رقم 178 لسنة 2018 بإنشاء الهيئة الوطنية للإعلام، لتتبعها الإذاعة المصرية، مع التلفزيون المصري، ضمن خطة إعادة ضبط المشهد الإعلامي في مصر.
🎤 رئيس الإذاعة المصرية: ليس لنا منافسون.. ولن يجد العالم مثل إذاعة القرآن الكريم
تواصلت مؤسسة المرصد المصري للصحافة والإعلام، مع الإذاعي الكبير محمد نوار رئيس الإذاعة المصرية، في ذكرى إنشائها، والذي قال إن تاريخ الإذاعة عريق وكبير، والتي بدأ بثّها الرسمي في 31 مايو 1934، وقامت بأدوار وطنية، وتثقيفية، وتوتعوية، وتنويرية، وترفيهية، وظلّت مستمرّة حتى عام 1952، وجاءت ثورة يوليو التي أدركت أهمية الميكروفون، وقدّمت الدعم اللامتناهي، سواءً اللوجيستي، أو المادي، ومن هنا بدأ الدور السياسي والوطني للإذاعة، وأُنشئت إذاعة صوت العرب، التي كان لها دورٌ كبيرٌ ومهم في مساندة الشعوب في التخلّص من الاستعمار، سواءً كانت الشعوب العربية، أو أمريكا اللاتينية، وكان لها صوتٌ مسموعٌ على مستوى العالم.
وأضاف أن الإذاعة المصرية تبوّأت مكانًا غير مسبوقًا منذ ثورة 1952؛ لإدراك رجال الثورة بأهميتها، وفي عام 1960 بدأ التلفزيون المصري، وظنّ البعض أن دور الإذاعة المصرية سيتقلّص، ولكنه زاد نضوجًا، وأٌنشئت إذاعة القرآن الكريم، ثم الشباب والرياضة، والشبكات الإقليمية وعددها 8 شبكات، وأيضًا محطة منفردة وهي إذاعة الأغاني، وغير ذلك.
وتابع: “لا يوجد للإذاعة المصرية تحدّيات، وليس لنا منافسون، كل هذه الإذاعات والشبكات شديدة الأهمية، وعلى رأسها القرآن الكريم، التي تحظى بـ60 مليون متابع، وإذاعة الشباب والرياضة، وأيضًا الإذاعة الثقافية المتفرّدة، والموسيقية، وغيرهم، وإذاعات أخرى تتحدّث بـ7 لغات، انطلقت لتحدّث العالم وليس المصريين فقط”.
وأكد “نوار” أن الإذاعة كانت وستظلّ هي أسرع وأسهل وسيلة إعلامية، والأقل في التكلفة، لنقل الأخبار والمعلومات للعالم، وما يميّزها أن تكلفتها بسيطة، ويمكن أن يتناولها المواطن في كل مكان وأي وقت.
وعن الدور الرئيسي للإذاعة المصرية، كشف الإذاعي الكبير محمد نوار أنهما دوران رئيسيان؛ الأول هو إلقاء الضوء على ما تقوم به الدولة من مشروعات عملاقة، ومتابعة عملها، والدور الثاني هو تشكيل الوجدان والعقول، بما تقدّمه من ثقافية راقية ونظيفة.
وكشف الإذاعي محمد نوار أن الإذاعة جعلت المتلقّي لديه القدرة على التخيّل بشكل كبير، بالإضافة إلى التجديد المستمر للإذاعات والبرامج، حتى يتواكب مع العصر، وتصبح قادرة على التحدّث لأجيال الشباب المختلفة، وتُقدّم لهم ما يحتاجون من تثقيف وتنوير؛ فعملت الإذاعة المصرية مثلًا على تطوير إذاعة القرآن الكريم، ومشاركة متحدّثين شباب، وأيضًا راديو النيل، الذي يوجّه رسالة مختلفة للشباب والأجيال الجديدة.
واستكمل محمد نوار رئيس الإذاعة المصرية قائلًا: “لديّ جملة دائمًا كنت مؤمنًا بها، وهي أن الصناعات الثقيلة ليست فقط الحديد والصلب، ولكن صناعة الاستقرار والأمن هي الصناعة الأصعب، والتي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي حتى اليوم، والتي احتاجت دعمًا ومساندة، وتتلّخص في جيش قوي، وأمن قوي، ثم يبدأ الاستثمار، الذي شهدناه منذ عام 2014، وافتتح الرئيس مشروعات عملاقة، بدون أن يضع حجر أساس، وهذه المشروعات في 27 محافظة، وهنا كانت المشكلة؛ حيث يركّز الإعلام دائمًا فقط على الافتتاح، ويتجاهل المتابعة بعد ذلك، وما تقوم به الإذاعة الآن، هو المتابعة الدائمة لهذه المشروعات، وتسلّط الضوء على ما يُقام في الصعيد والمحافظات البعيدة، وهو ما يدفع المواطنين لمعرفة قيمة هذه المشروعات، وهذا ما قمنا به في الإذاعة؛ حيث عملنا على تطويرها على جميع المستويات، لتقوم بدورها المطلوب في إيضاح الصورة الحقيقية للمواطنين، وما يتم إنجازه، كما رأى الناس ما قام به الرئيس عبدالناصر، مثل افتتاح السد العالي، ومصانع الحديد والصلب، وغير ذلك”.
وأوضح “نوار” أن الإذاعة المصرية لديها مجموعة مختلفة من الإذاعات والبرامج، نجحت في الوصول إلى 30 مليون مواطن بالقاهرة، و80 مليونًا آخرين في 24 محافظة، وأدركت اختلاف المُتلقّين من محافظة لأخرى، برؤاهم المتنوّعة، وثقافاتهم المختلفة، ونجحت في استيعابهم، وتقديم المحتوى الذي يحتاجونه، وأيضًا إذاعة القرآن الكريم التي وصفها بأن “ليس لها مثيل في العالم”، وفريدة من نوعها، ولن يرَ العالم مثلها، وتتمتّع بـ”خلطة” مُميّزة.
وعن تطوير الإذاعة، كشف “نوار” أن التطوير مستمر ومطلوب، ولكن هو تطوير “ممنهج وبطئ”، بالإضافة إلى وضع خطط مستقبلية تم طرحها، منها على سبيل المثال، ربط الإذاعة بمجلة، وسوشيال ميديا، ومطبوعات مختلفة؛ وذلك حتى تصبح قادرة على مواكبة التطوّر التكنولوجي، وتصبح مسموعة ومرئية ومقروءة.
وفي حديثه لنا، وجّه رسالة للإذاعيين القدماء قائلًا: “أنتم ملح الأرض، ودخلتم في دماء وبيوت وقلوب المصريين، شكرًا لكم على 90 عامًا من الإذاعة المصرية المتفرّدة”.
ووجّه التحيّة للرئيس عبدالفتاح السيسي في يوم الإذاعة المصرية قائلًا: “شكرًا على الدعم الذي تقدّمه للإعلام، ودائمًا ما نجده في الصفوف الأولى خلفك، وهو رسالة للعالم بمدى إدراكك لأهميته”.
كما قدّم التهنة لرئيس الهيئة الوطنية للإعلام حسين زين، وكل الإذاعيين، والإعلاميين، والصحفيين، العاملين في كل المنصات والوسائل الإعلامية المختلفة، مؤكدًا أنهم نسيج واحد.