هيكل.. مجدد الأهرام وصديق الحكام (بروفايل)

كاتب السلطة وصديق الحكام، وأحد مؤرخي تاريخ مصر الحديث، جميعها ألقاب اشتهر بها محمد حسنين هيكل على مدار حياته، استطاع خلال سنوات طويلة أن يحافظ على مكانته في الأوساط الصحفية والسياسية والثقافية، بفضل خبرته وتجاربه الممتدة لما يزيد عن نصف قرن من الزمان، كان فيها شاهدا عيانا على 70 عامًا من تاريخ مصر، رصد خلالها الكثير من الأحداث الهامة التي عاصرها وتعايش معها بحكم كونه صحفيًا في المقام الأول، إذ ساعد قربه من الرئيس جمال عبد الناصر في شهرته.
 
حياته
وُلد هيكل في 23 سبتمبر عام 1923، في حي الحسين بالقاهرة، لأسرة مصرية ترجع جذورها إلى الصعيد، وتحديدًا مركز ديروط بمحافظة أسيوط، عمل والده تاجرًا للحبوب وكان يرغب في أن يكون الابن طبيبًا لكن القدر اختار له طريقًا آخر وهو الصحافة، ونظرًا لظروفه الصعبة، التحق هيكل بمدرسة التجارة المتوسطة.
 
لم يتوقف طموحه الدراسي عند هذا الحد، بل واصل دراسته في القسم الأوروبي بالجامعة الأمريكية، وهناك تعرف “هيكل”على سكوت واتسون، الصحفي المعروف بالإيجيبشان جازيت، وهي صحيفة مصرية كانت تصدر باللغة الإنجليزية، واستطاع هيكل عن طريقه الالتحاق بالتدريب في الجريدة بقسم المحليات، في 8 فبراير 1942، وكانت مهمته جمع أخبار الحوادث، وعمره وقتها لم يكن تجاوز الـ 19 عامًا.
أول خبطة صحفية
في هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية في بدايتها، وساعدت هذه الأجواء من قيام الجريدة بدورها في تغطية أخبار الحرب، فكان دور هيكل يقتصر خلال هذه الفترة على ترجمة ما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية .
 
وبسبب طموحه، كان هيكل يسعى طوال الوقت إلى إثبات جدارته كصحفي يتابع وينقل ما يحدث، ففي تلك الفترة كان عبد الحميد حقي وزير الشئون الاجتماعية قد أصدر قرارًا بإلغاء البغاء رسميًا في مصر، نتيجة لإصابة عدد من جنود الحلفاء بالأمراض المعدية التي نُقلت إليهم من فتيات الليل، ولم يكن ذلك القرار سيظهر لولا الاتفاق الذي أبرمه الاحتلال الإنجليزي مع حكومة الوفد، لوقف حدوث العدوى.
 
وقد أثار هذا القرار ذعر الفتيات العاملات في بيوت الدعارة، ولهذا كلفت الجريدة محررها الشاب بإجراء حوارات مع عدد من هؤلاء الفتيات، وتمكن هيكل وقتها من الحصول على معلومات خطيرة هزت الرأى العام، وهي القصة التي حكاها هيكل بنفسه في العدد رقم ٥٤٦ من مجلة آخر ساعة.
 
بلاط صاحبة الجلالة
بعد نجاح هيكل في تلك المهمة، كانت النقلة الأهم في حياته حينما وقع عليه الاختيار لتغطية أجواء الحرب، بداية من مدينة العلمين، ثم مالطا، وانتهاءً بباريس، وهناك التقى بالسيدة فاطمة اليوسف، صاحبة مجلة روز اليوسف، والتي قررت أن تضم هذا الصحفي الموهوب إلى مجلتها، ليصبح هيكل في عام 1944 صحفيًا في مجلة روز اليوسف، وهناك تعرف على الصحفي الكبير محمد التابعي، الذي نقله هو الآخر معه إلى مجلة آخر ساعة.
 
وخلال الفترة التي عمل فيها هيكل على صفحات آخر ساعة، كانت الفرصة سانحة أمامه للتقرب من التوأمين علي ومصطفي أمين، اللذين عملا في إدارة المجلة، واستطاع في هذه الأثناء أن يبدع في كتاباته، إذ قدم في 13 أغسطس 1947، تقاريرًا مصورة عن “خُط الصعيد”، ما جعله حديث الرأي العام، وتوالت بعد ذلك نجاحاته الصحفية حينما كتب تحقيقًا عن قرية “القرين” التي هاجمها وباء الكوليرا، ووقتها لم يكن أحد يجرؤ على الذهاب إليها أو محاولة الاقتراب منها، لكن هيكل فعل المستحيل وذهب ونقل صورة واقعية من قلب الحدث هناك، ونجح في أن يقدم يد العون والمساعدة إلى أهالي القرية المنكوبة، مما رشحه أن يحصل على أرفع الجوائز الصحفية بمصر في ذلك الوقت، وهي جائزة فاروق، والتي لم يحظ بها إلا عدد قليل من صحفيي هذا العصر.
 
كما تمكن هيكل من العمل في دار أخبار اليوم، إذ انفرد على صفحاتها بنشر تغطيات صحفية كان له السبق في رصدها، قبل أى صحفي آخر، مثل تغطية حرب فلسطين عام 1948، وانقلابات سوريا، مرورًا بثورة محمد مصدق في إيران إلى صراع الويسكي والحبرة في تركيا، ومن اغتيال الملك عبد الله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان واغتيال حسني الزعيم في دمشق.
 
ولدأبه في العمل، حرص علي أمين رئيس تحرير المجلة، أن يشيد بموهبة هيكل الصحفية في مقال كتبه عنه في 18 يونيو 1952، والتي فاجأ فيها قراؤه بقرار استقالته وتعيين هيكل خلفًا له في المنصب، على الرغم من أن عمره لم يتجاوز التاسعة والعشرين.
 
ناصر
بعد ثورة 23 يوليو 1952، اشتهر هيكل أنه أكثر الصحفيين قربًا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في علاقة وصفها البعض بـ”الصداقة الحميمية”، رشحته بعد فترة من قيام الثورة أن يكون المتحدث الرسمي باسم حركة الضباط الأحرار، ومكنه ذلك فيما بعد من تشكيل علاقات واسعة مع دوائر صنع القرار في مصر والعالم العربي.
 
ولا غرابة في أن يصفه الكاتب أنيس منصور في إحدى مقالاته بأنه: ” رجل صحفي، ورجل ذكي، ورجل استطاع أن يصوغ فكرنا وفكر عبد الناصر بأسلوبه”.
 
الأهرام
استطاع هيكل أن يرفع من معدلات توزيع أقدم وأشهر صحيفة مصرية، عندما تولي رئاسة تحرير “الأهرام”، بداية من عام 1957 حتى عام 1974، وخلال هذه الفترة أصبحت الأهرام، واحدة من الصحف العشرة الأولى في العالم.
 
ومن أجل ذلك رفض تولي أي مناصب قيادية خلال تلك الفترة حتى لا ينشغل عنها، لكنه اضطر لقبول وزارة الإرشاد (الثقافة والإعلام) في أواخر حكم عبد الناصر، وحين اشُترط عليه ألا يجمع بينها وبين الأهرام، ترك الوزارة بعد وفاة عبد الناصر، ورفض بعد ذلك أي منصب مهما كان كبيرًا طالما سيبعده عن الأهرام.
 
أنشأ هيكل خلال فترة وجوده بالأهرام عددًا من المراكز المتخصصة، من بينها: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ومركز الدراسات الصحفية، ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر، وحرص على استقطاب أفضل الكتاب حينها من أمثال: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم.
السادات
بعد وفاة ناصر وتولي السادات حكم مصر عام 1970، كان في انتظار الرئيس الجديد بعض المنغصات والعقبات التي سرعان ما تجاوزها بمساعدة هيكل، كان من أشدها ضراوة القضاء على مراكز القوى ـ والتي زعزعت أمنه واستقراره في الحكم لبعض الوقت.
 
لم يتوقف دعم هيكل، للرئيس السادات عند هذا الحد، بل كان مشاركًا فعالًا في حرب أكتوبر عام 1973، حيث أُسند إليه كتابة قرار التكليف الاستراتيجي للجيش ببدء الحرب.
 
وعلى الرغم من أن العلاقة بين السادات وهيكل كانت تبدو للمحيطين جيدة وعلى ما يرام، لكن في الحقيقة ووفقًا لما رصده بعض المؤرخين والكتاب في أن الأمر كان عكس ما يبدو، حيث سبق أن تطرق الكاتب أنيس منصور في مقال له إلى تلك النقطة، وذكر أن السادات كان ير أن هيكل لا يمكن أن يكون صديقًا له أو مخلصًا ، لأنه ببساطة “شاف السادات وهو صغير”.
 
وكان من نتيجة ذلك نشوب الخلافات سريعًا بينهما، خاصة فيما يتعلق بجزئية التعامل مع النتائج السياسية لحرب أكتوبر، مما اضطر السادات إلى إصدار قرارًا رئاسيًا بإقاله هيكل من منصبه في الأهرام، في عام 1974، ليتفرغ بعدها هيكل إلى تأليف الكتب وإجراء حوارات واسعة مع معظم زعماء العالم في هذا التوقيت، من بينهم، الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، وامبراطور اليابان، والخميني، وعددًا من الرؤساء والزعماء السياسيين العرب و الدوليين وهو ما مكنه من الوصول إلى وثائق وأرشيفات غاية في الأهمية، ما دفعه إلى التفكير في إصدار سلاسل من الكتب السياسية المتميزة، والتي أكسبته مزيدًا من النجومية، ليصبح مع مرور الوقت واحدًا من أشهر وألمع الصحفيين ليس في مصر وحدها بل في العالم كله، حيث تُرجمت معظم كتبه إن لم تكن جميعها إلى ما يقارب الـ 31 لغة.
 
وكنتيجة لانتقاداته اللاذعة للرئيس السادات في كتبه، أصدر أمر باعتقاله ضمن أحداث سبتمبر الشهيرة عام 1981، قبل أن يصدُر قرار بالعفو عنه من الرئيس الأسبق حسني مبارك.
 
مؤلفاته
قدم هيكل للمكتبة العربية عشرات الكتب والمراجع السياسية، من أشهرها: “خريف الغضب” و”عودة آية الله” والطريق إلى رمضان وأوهام القوة والنصر وأبو الهول والقوميسير، بالإضافة إلى 28 كتابًا باللغة العربية من أهمها مجموعة حرب الثلاثين سنة، والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، وملفات السويس، ولمصر لا لعبد الناصر والعروش والجيوش.
 
و في 14 أغسطس 2013، نشب حريق في فيلا الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، بقرية برقاش- محافظة الجيزة، تسبب في احتراق مكتبته بالكامل، وأثبتت معاينة النيابة حرق 18 ألف مخطوطة ووثيقة، وبعض الكتب النادرة.
اعتزاله
 
في 23 سبتمبر 2003، وبعد إتمامه عامه الثمانين، بأيام قليلة، فكر هيكل جديًا في اعتزال العمل الصحفي، والكتابة بشكل منتظم، وعن ذلك كتب مقالًا بعنوان “استئذان في الانصراف”، لكن يبدو أن عشقه للكتابة طغى عليه فتراجع عن قراره بالاعتزال، ليواصل من بعدها عطاءه الصحفي سواء في كتابة المقالات أو تقديم حلقات تليفزيونية مع عدد من القنوات الفضائية المصرية والعربية.
 
وفاته
توفي الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل يوم 17 فبراير 2016، بعد معاناة طويلة مع المرض، عن عمر ناهز الـ 93 عامًا بعد صراع مع المرض. وكانت حالة هيكل الصحية قد ساءت خلال الثلاث أسابيع الأخيرة قبل وفاته، حين بدأ بالخضوع لعلاج مكثف في محاولة لإنقاذ حياته، بعد تعرضه لأزمة شديدة بدأت بمياه على الرئة رافقها فشل كلوي استدعى غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعيًا.
زر الذهاب إلى الأعلى