يعقوب صنّوع.. شيخ الصحافة الفكاهية
ولد مسلماً لأبويين يهوديين عام 1839، ثم تزوج من سيدة كاثوليكية أنجب منها طفلين احتفظاً بديانة الأم، فاحتار المؤرخون فى تحديد ديانته، كان يتمتع بشخصية عنيدة جعلت منه كاتبًا صحفيًا ساخرًا، وقف ضد التيار فعارض سياسة الخديوي إسماعيل والاحتلال الإنجليزي، وانتهى به الحال منفياً عن البلاد التي أحبها والوطن الذي عاش فيه، حتي مات في عام 1912، ودفن في ثرى غير الثرى، غريباً.. إنه شيخ الصحافة الفكاهية فى مصر يعقوب صنوع.
ولد يعقوب صنوع مسلماً لأبوين يهوديين، عام 1839، ويذكر الدكتور إبراهيم عبده فى كتابه «يعقوب بن صنوع إمام الصحافة الفكاهية وزعيم المسرح في مصر»، أن يعقوب كان الولد الوحيد لأمه وأبيه، حيث لم يرزقهما الله بغيره من البنين، وقد واريا قبل مولده أربعة أطفال لم يروا نور الحياة إلا أسابيع، وبعد أن حملت فيه أمه اليهودية ولدته مسلما هبة منها إلى الإسلام والمسلمين.
ويروى عبده فى كتابه أن “أم يعقوب صنوع ذهبت وهي حامل في جنينها إلى شيخ مسجد الشعراني، لترجوه أن يدعو الله لكي يحفظ عليها جنينها ويبقيه قرة لعيون والديه، فقال لها «إن الله سيبقى على جنينها وهو ولد»، لكنه طلب منها أن تنذره للدفاع عن الإسلام حتى يعيش، فأصغت الأم إلى نصيحة الشيخ وأقر زوجها بأن يهب ابنه للإسلام”، وحين كبر الولد حفظ القرآن وعاهد والدته على أن يوفي نذرها، وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره كان يقرأ التوراة بالعبرية والإنجيل والقرآن بالعربية.
نظم قصيدة شعر مدح فيها الأمير أحمد حفيد محمد علي الكبير، ولم يصدق الأمير أن صبيا في الثالثة عشرة يستطيع أن يكتب هذه الأشعار، فطلب من والد يعقوب أن يرى الطفل، وعندما التقى الأمير بيعقوب أعجب به، وقرر إرساله على نفقته إلى أوروبا لتلقي العلم، وبعد عودته عمل مدرسا فى إحدى المدارس الخاصة، وأجاد يعقوب اللغات العبرية والعربية والتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والبرتغالية و المجرية والروسية» في عام 1879، وكان يتنقل من قصر إلى قصر ومن خان إلى خان ليعلم أبناء الخديوي والباشوات اللغات والرسم والموسيقى، وتلقت بعض الشخصيات المدنية والعسكرية التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن التاسع عشر، عنه دروسا خاصة أو تتلمذت عليه في المدارس الحرة أو الأميرية.
يعقوب والمسرح القومي
أعجب يعقوب صنوع، بالخديوي إسماعيل، قبيل ولايته إلى الحكم ، ومدحه في قصيدة عصماء ذاكرا أن ملكه سيفتح عهدا جديدا لمصر، وأن شخصيته ستعيد إلى العلوم والآداب والفنون أزدهارها القديم على ضفتي النيل. لم يقف صنوع عند تلك القصيدة بل تجاوز ذلك وكتب في الجرائد المحلية والأجنبية مقالات عن التقدم السريع الذي أصاب أرض الفراعنة بفضل إسماعيل، واقترب صنوع من الخديوي وأصبح من جلسائه.
في ذات الوقت، عرض يعقوب صنوع ثلاث مسرحيات، كان لنجاحها أثرا في قراره بإقامة مسرح قومي مصري،وهو عمل فني لم يسبقه إليه أحد في مصر، وكان ذلك سنة 1869 حين فكر يعقوب في تأسيس مسرح للوطنيين تعرض على خشبته مسرحيات عربية، وشجعه على ذلك الخديوي إسماعيل الذي كان داعما للمسارح الغربية.
وبعد فترة تمكن يعقوب من تكوين فرقة مسرحية محترفة ضمت العنصر النسائي ليقوم بالتمثيل بدلا من الرجال المتنكرين في ثياب النساء، وظل مسرح صنوع يعمل لعامين، عرض فيهما على خشبته 32 مسرحية من تأليفه، منها الملهاة ذات الفصل الواحد والمأساة ذات الفصول الخمسة، إلى جانب كثير من المسرحيات التي ترجمت عن الفرنسية، وبعد أكثر من مائتي عرض، طلب الخديوي من صنوع أن يمثل ثلاث قطع في حفلة ساهرة كبرى، وقد نال إعجاب الحضور، وعلى رأسهم إسماعيل الذي صفق لها كثيرا، غير أن كبار الجالية الإنجليزية الذين حضروا العرض لاحظوا سخرية صنوع اللاذعة من الشخصية الإنجليزية التي جُسدت في العرض باسم جون بول، فحفظوها له ومضوا يدسون له عند الخديوي حتى أقنعوه بأن مسرحيات أبو نظارة تتضمن تلميحات وإيماءات خفية ضد سياسته وسياسة الحكومة، وفيها خطر عاجل على نظام الحكم ومقدرات البلاد، فما كان من إسماعيل إلا أنه أمر بإغلاق المسرح.
بعد إغلاق المسرح أغلقت أبواب الوظائف العامة أمامه وتعقبه المسئولون في الصحف القليلة التي كانت تصدر في ذلك الوقت، وأشهروا عليه حربا حالت بينه وبين الكتابة فيها، لكنه صمد وبحث عن نشاط ثقافي وطني يلائم ذوقه وحسه، فأسس جمعيتين علميتين أدبيتين، سميت الأولى «محفل التقدم» والثانية «محفل محبي العلم»، ونجح الإنجليز بوسائلهم الوضيعة في أن يلقوا في روع الخديوي أن هاتين الجمعيتين مركزان للثورة، فما كان منه إلا أن منع التلاميذ والطلبة والعلماء من حضور اجتماعاتنا واضطرت الجمعيتان إلى إغلاق أبوابهما.
حكاية يعقوب مع الصحافة
مع تصاعد الخلاف بين أبو نضارة والخديوي، تدخل أحد رجال الحاشية وهو الأديب أحمد خيري باشا لتهدئة الأجواء، واشترط الخديوي أن يعتدل يعقوب في كتاباته وخطبه وهو ما قبله صنوع،تدم الهدنة طويلا، ولما أتيحت ليعقوب الفرصة بدأ في مهاجمة الخديوي، وذهب إلى المحافل يخطب ناقدا سياسته وإسرافه في فرض الضرائب على المصريين، وسوء إدارته الاقتصادية للبلاد والتي ضاعفت الديون، ونشر العديد من المقالات في هذا الموضوع، فتصاعد الخلاف، وأغلقت في وجه أبواب المحافل وهددت الصحف بالتعطيل أن أعطته فرصة للكتابة.
ولما وجد أبو نظارة أن الصحف قد أوصدت أبوابها أمامه، قرر أن ينشئ صحيفته الخاصة، فتواصل مع القنصلية الإيطالية فنال حمايتها وأصدر صحيفة هزلية باللغة الفرنسية سمّاها «البعوضة»، ثم أسس أخرى باللغة الإيطالية سماها «النظارة»، ثم أصدر بعد ذلك صحيفة بثماني لغات وهي «الثرثار المصري»، وكانت تلك الصحيفة هي أوسع الجرائد انتشارا في هذا العصر ولقيت رواجا في جميع الأوساط، حتى تنبهت لها الحكومة فقررت إغلاقها، واعتكف يعقوب في منزله، حتى نصحه بعض أصدقائه القريبين من القصر أن يخفف من حدة خصومته للخديوي، فاستمع لهم، وتمكن بعد تلك الهدنة من إصدار مجلة «أبو نظارة» وخرج عددها الأول في 1878، واتخذ لها شعارا «جريدة مسليات ومضحكات»، وقدم يعقوب لصحيفته بافتتاحية دعا فيها الجمهور إلى نبذ التعصب والتمسك بالعلم والعمل حتى يتمكنوا من إصلاح هذا البلد.
نزل يعقوب إلى ميدان السياسة بعد أعداد قليلة من مجلته، حيث هاجم التدخل الإنجليزي فى شئون البلاد،ولم يتورع عن مهاجمة الموظفين الفرنجة والأتراك، وطال الهجوم الوزراء والأمراء والخديوي نفسه بأسلوب ساخر فيه التواء مستخدما اسم مستعار وهو «شيخ الحارة» الذي يمثل الظلم والجور، ومع مرور الوقت بدأ العامة والخاصة يعرفون الأسماء المستعارة التي يستخدمها يعقوب في مجلته فـ«شيخ الحارة» هو الخديوي، و«أبو الغلب» هو الفلاح المصري و«شيخ التمن» هو الخليفة العثماني و«كريم حليم» هو الأمير حليم عم الخديوي القريب إلى قلب يعقوب وسائر المصريين والذي اُتهم بأنه يدس لابن أخيه ويثور الناس ضده.
أغلقت الحكومة صحيفة “أبو نضارة، فاضطر يعقوب صنّوع إلى تغيير اسمها أكثر من مرة للتحايل على قرار الإغلاق، فصدرت مرة باسم «أبو نظارة»، وأخرى «أبو نظارة زرقاء»، وثالثة «رحلة أبي نظارة زرقاء»، ورابعة «النظارة المصرية».. وخامسة «أبو صفارة» وحينما أغلقت ظهرت «أبو زمارة» وبعد أن أغلقت «أبو زمارة»، أصدر صنوع مجلة «الحاوي»
تأزمت العلاقة بين الخديوي إسماعيل ويعقوب صنوع، وانتقلت من مرحلة التضييق والحصار وإغلاق مسرحه وصحفه إلى مرحلة الاغتيال، وحاول الخديوي مرارا قتل «أبو نظارة» للخلاص من لسانه وتحريضه على حكمه،
كان صنّوع محتميا بقنصلية إيطاليا، فتدخل الخديوي إسماعيل لدى قنصل إيطاليا وانتزع منه الموافقة على إغلاق الصحيفة وطرد صاحبها من مصر، وبينما كان صنّوع يرتب حاله للخروج من مصر، وأثناء تنزهه مساء أحد أيام شهر مايو عام 1878، انقض عليه أحد زبانية الخديوي وطعنه بسكين، ولحسن الحظ أصاب السكين الجزء الفولاذي من حزامه ولم يصبه إلا بخدش خفيف نزف منه الدم.
غادر يعقوب القاهرة في 22 من يونيو سنة 1878، عبر ميناء الإسكندرية، بعد وصوله باريس، قرر وصل ما انقطع بتأسيس جريدة يعبر فيها عن رأي الحزب الوطني المصري، ومضى صنّوع يشق طريقه في أروقة باريس ومحافلها وتعرف على رجال القصور والفكر والأدب، ومارس نشاطاته في كل المنتديات يحاضر ويلقي الشعر ويكتب في الصحف فانتزع إعجاب أهل الرأي في فرنسا، وانشأ عددا من الصحف في فرنسا، حمل معظمها اسم «أبو نظارة»، وصدر قرار بمنع دخول تلك الصحف والمجلات إلى مصر، فكانت تُهرّب على سفن البضائع والركاب ويتداولها الناس سرا، في الإسكندرية والقاهرة وباقي المديريات المصرية.
ولم يتوقف أبو نظارة إلا بعد أن كف بصره وثقل عليه المرض فأمضي في سريره نحو سنتين يجاهد في سبيل الحياة من غير نتيجة حتى نزل به قضاء الله في سنة 1912م فنعته الصحف ووكالات الأنباء في العالم كله، ودفن في إحدى مقابر باريس، وكتب على شاهد قبره: «الشيخ جيمس صنّوع.. أبونضارة.. شاعر الملك.. خبير في الشؤون العامة.. توفى 29 سبتمبر عام 1912 عن عمر 75 عاما، حاصل على وسام الصليب الكبير من زنزبار، وحاصل على نيشان افتخار العثماني، ومترجم حر في وزارة البريد والتلغراف، ومعلم سابق في مدرسة الصناعات بالقاهرة ومنشئ جريدة أبو نضارة».
وبالرغم من تأكيد المستشرق والمؤرخ يعقوب لاندو أن يعقوب صنّوع عاش ومات يهوديا، وتم تسجيله في دفاتر وفيات اليهود في باريس، وأنه دفن بمقابرهم، الأ أن حفيدته أعلنت أن جدها مات مسلما وأنه دفن في الجزء الخاص بمقابر المسلمين في «مونتبارناس» بباريس.
المصادر :