Uncategorized

مصطفى الخطيب.. 1765 يومًا خلف القضبان

 

السجن نقطة سكون في عالم متحرك. هكذا يصف نيلسون مانديلا السجون في جملة بسيطة قاطعة، إلا أن هناك حول هذه النقطة الساكنة عالم من الفوضى والانتظار تستغرق السجين الذي يحاول التكيف مع الجدران الأربع والباب المغلق الذي سلبه حريته وحال بينه وبين حياته التي اختارها هو فقط أسير الانتظار القاتل يومًا فأخر…، هكذا انتظر الصحفي مصطفى الخطيب أكثر من 1765يومًا، محبوس احتياطيَا دون محاكمة في قضية نشر، متجاوزًا بذلك الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، المنصوص عليه في المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية والمحددة بـ 24 شهرًا.

 

يبلغ مصطفى الخطيب من العمر 46 عامًا، قضى منهم ما يناهز 4 سنوات بين جدران السجن، بعيدًا عن زوجته وأطفاله الأربعة الذين قضوا ما يقرب من ثمان أعياد مكلومين لغياب والدهم، ربما لن ينسوا أبدًا هذه الليلة الفاصلة حين أيقظهم صوت الطرق الشديد على الباب من نومهم الهانئ استعدادً ليومهم الدراسي، الذي لم يذهبوا إليه بسبب الهلع الذي أصاب منزلهم الهادئ فجأة، خرج والدهم ولم يعد حتى الأن برغم مرور أيام دراسية كثيرة فقدوا القدرة على عدها.

 

مصطفى أحمد عبد المحسن حسن، وشهرته مصطفى الخطيب، مترجم صحفي بوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية بالقاهرة، وعضو نِقابة الصحفيين المصرية، ألقي القبض على “الخطيب” في 13 أكتوبر 2019، الساعة 12 صباحًا، من منزله. وحَسَبَ موقع الحرة، فإن القبض على “الخطيب” جاء بعد يوم واحد من نشره خبر، عن مغادرة 8 طلاب أجانب للقاهرة؛ بعد تعرض اثنين من زملائهم للإيقاف من جانب أجهزة الأمن المصرية، ما دفعهم لإنهاء فترة التبادل الجامعي الخاصة بهم في منتصف المدة؛ حيث كانوا مبتعثين ضمن تبادل جامعي مع الجامعة الأمريكية في القاهرة. بعد القبض عليه بيوم واحد، وجهت له نيابة أمن الدولة العليا اتهامات بـ “الانضمام لجماعة إرهابية مع العلم بأغراضها، إشاعة وإذاعة أخبار كاذبة، واستخدام إحدى المواقع على الإنترنت لارتكاب هذه الجريمة”، فيمَا أدرجته على ذمة القضية رقم 488 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا.

 

لم يكن على مصطفى الخطيب تحمل عبء السجن القاتل فقط لكنه حمل في قلبه هم أحبائه وتحديدَا والدته السيدة الريفية البسيطة التي لا تعرف حتى الآن أن ابنها قيد الحبس الاحتياطي؛ لم يخبروها خوفًا عليها من أثر الصدمة، خاصة أنها “مريضة قلب وسكر”، حسبما تقول زوجته، هي تعتقد أن ابنها يعمل في مكان ما خارج البلاد؛ تلومه في قلبها على عدم زيارته لها كل هذه السنوات لكنها كأي أم تصبر وترضى لإنها تعتقد أنه بأمان وبخير. كان على أحد أخوة مصطفى لعب هذا الدور تجاه الوالدة حيث يخرج بعيدًا عنها ليتصل بها مقلدًا صوت أخيه السجين حتى يطمأنها على أحواله ويعتذر عن الغياب مع وعد -لا يملك تحقيقه- بالرجوع قريبًا.

 

خلال ساعات من القبض عليه، أعربت لجنة الحريات بنقابة الصحفيين المصرية، عن تضامنها الكامل مع مصطفى الخطيب ودعمها النقابي والقانوني، ودعت إلى المسارعة في تقديمه إلى جهات التحقيق إن كانت هناك اتهامات قانونية موجهة له، كما طالبت بـ “إخلاء سبيل كل الزملاء الصحفيين المتهمين في قضايا النشر والرأي ، ورفع القيود المفروضة على الصِّحافة”؛ وقد أبدى كاتبو البيان دهشتهم من أن “يتحول الحديث المتواتر عن هامش حريات أوسع للصحافة إلى حبس للصحفيين بلا اتهامات واضحة وبلا أسباب قانونية”.

 

لم يخطر ببال مصطفى الخطيب إنه سيغيب عن أهم مراحل في حياة أطفاله فهو لم يحضر دخول ابنه الأصغر للمدرسة فقد تركه وهو لا يزال يعلمه المشي ويلحقه بيده حين يتعثر، كما نجحت أبنته الكبرى في الإعدادية دون أن تزغرد لها أمها وهي الأن في الثانوية العامة تفتقد كتف والدها الحنون الذي حلم معها بهذه الفترة الدراسية الصعبة، لم تعد هناك أحلامًا مزهرة ليوم نتيجة الثانوية ولا لليوم الأول في الجامعة، فوالدها لن يشاركها فرحة هذه الأيام. حفظ الأربع أبناء عن ظهر قلب أن أبيهم ليس مجرمًا إنه صحفي ماهر سجن بسبب عمله رددوها كثيرًا على مسامع زملائهم في المدرسة، رغم ذلك يشعروا بالحزن والعجز الشديدان حين يروا والدهم في هذا المكان المُقبض فقرروا الإحجام عن هذه الزيارة مُرغمين.

 

تعلمت زوجته أن تقوم بدور الأب والأم معًا في كل يوم من أيام غياب زوجها، تهتم بالأبناء وتود والدته وتتفنن في إخفاء حزنها حتى لا تعرف، تحاول التخفيف عن أولادها في أيام المناسبات والأعياد وتتحمل وحدها التفكير في تدبير أمور منزلها، مستندة على بدل النِّقابة وعائلة زوجها، لكن الأمور تزداد تعقيدًا بسبب الارتفاع المتكرر للأسعار التي لم تعايشها منذ حبس الخطيب احتياطيًا؛ كان الدولار يساوي خمسة عشر جنيهًا وكيلو اللحم مئة جنيهًا ومستلزمات الدراسة وإيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء والغاز لم يصلوا وقتها لهذا الحد الذي أرهقها دون شريكها، هذا العبئ المادي أيضًا جعلها تتكبد تكاليف إضافية تتمثل في زيارة مصطفى الخطيب، خاصة بعد نقله إلى سجن بدر 1، وربما لن تستطع تحمل هذه التكاليف فينقطع التواصل الوحيد بينها وبين زوجها وتحرم من الدقائق المعدودة التي تقضيها معه وتستمد منه القوة لمواصلة الحياة في غيابه.

 

تقول هالة دومة المحامية بالمرصد أن مصطفى الخطيب تعرض لعديد من الانتهاكات منذ القبض عليه، وخلال 47 شهرًا من الحبس الاحتياطي، خلال التحقيق معه تم حرمانه من الحق في الاتصال بذويه أو الاستعانة بمحام، بالمخالفة لنص المادة 54 من الدستور المصري، والمادة 124 من قانون اﻹجراءات الجنائية.

أما في أثناء فترة تجديد الحبس: فلم يتم تمكين “الخطيب” من حقه القانوني في الاستئناف على أمر حبسه، بالمخالفة للمادة 164 من قانون اﻹجراءات الجنائية، كذلك فقد تعدى الصحفي الحد الأقصى للحبس الاحتياطي المحدد بـ 16 شهرا بالمخالفة لنص المادة 143/ 4  من قانون اﻹجراءات الجنائية، وطوال هذه السنوات الأربع لم تتح الفرصة أمام مصطفى الخطيب للكلام أو الدفاع عن نفسه؛ فقد كانت جلسات تجديد الحبس تتم عبر تقنية الفيديو “كونفرانس”، في انتهاك صارخ، ليس فقط لنص المادة 136 من قانون اﻹجراءات الجنائية، إنما لحق إنساني أساسي هو الحق في الكلام.

 

أسرة الصحفي مصطفى الخطيب تنتظره كل يوم ومع كل خطاب صحفي أو تلفزيوني يتحدث عن الحرية والعفو ومناخ الحوار القائم، تتلهف أبنته الكبرى مع أخوتها أن يحتضنوا والدهم مرة آخرى وأن يشارك زوجته متاعب الحياة حتى يتسنى لهم الضحك من جديد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى